حياة نبي الله نوح عليه السلام حياة شاقة مريرة ومحنته مع قومه محنة شديدة أليمة فقد أقام بينهم قروناً ودهوراً لم ير إلا آذاناً صماء وقلوباً غلفا وعقولا متحجرة لقد كانت نفوسهم أيبس من الصخر وأفئدتهم أقسى من الحديد.

روى المفسرون أن نوحاً عليه السلام كان يأتي قومه فيدعوهم إلى الله فيجتمعون عليه ويضربونه الضرب المبرح ويخنقونه حتى يغشى عليه ثم يلفونه في حصير ويرمونه في الطريق يقولون انه سيموت بعد هذا فيعيد الله إليه قوته فيرجع إليهم ويدعوهم إلى الله فقد بقي يؤذي ويعذب وهو مع ذلك صابر.

قال تعالى: «ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً» (العنكبوت: 14).

كما ضرب إبراهيم عليه السلام لنا مثلا رائعاً في الصبر على قومه وقد مر معنا مراحل دعوته وصورة تحدي قومه له حتى تعرض من أجل دعوته لربه للقذف في النار العظيمة فصبر ولم يضطرب ولم يجزع ولم يشك وأنجاه الله عز وجل بآيات كبرى: «فقلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم» (الأنبياء: 69)

وقد ابتلى أيوب عليه السلام بلاء شديداً في أهله وبدنه وماله ولكنه كان مثالاً للعبودية الحقة لله تعالى فصبر على ذلك حتى أصبح فيه المثل على الأذى فيقولون: «صبر كصبر أيوب» وقد اثنى الله تبارك وتعالى عليه بقوله «إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب» (ص: 44).

وبلاء سيدنا أيوب عليه السلام لم يكن في جسده فحسب بل شمل المال والأهل والولد. ولهذا قال الله تعالى: «وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين» (الأنبياء: 84).

وقد أمر الله تعالى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ان يصبر على قومه الذين أعلنوا عداء دعوته وعملوا شتى الوسائل لكي يحولوا دون انتشارها وكان الله عز وجل أثناءها يصبر حبيبه محمداً صلى الله عليه وسلم ويسليه ويضرب له الأمثال من قصص الأنبياء الذين جاؤوا قبله، فيذكره بأولي العزم من الرسل يقول تعالى: «واصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم». (الاحقاف: 35).

وتارة يذكره بقصة نبي الله يونس عليه السلام حيث أرسل إلى مئة ألف أو يزيدون فلم يلق من قومه إلا الجحود فضاق بهم ذرعا ثم أوعدهم بالعذاب ان لم يؤمنوا فلما طال ذلك عليه من أمرهم خرج من بين أظهرهم غاضباً عليهم قال الله تعالى:

«وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن ان لن نقدر عليه» (الأنبياء: 87) فابتلاه الله عز وجل بأن ابتلعه الحوت «فالتقمه الحوت وهو مليم» وهكذا يذكر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقصة يونس صاحب الحوت ويدعوه إلى ان يصبر ولا يتخلى عن قومه قال تعالى:

«فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم» (القلم: 48) ولما حزن النبي صلى الله عليه وسلم على تصدي قومه له وبقائهم على كفرهم حتى كاد يزهق نفسه حرناً وتألماً أن لم يكونوا قد اسلموا وتابعوا دينه قال تعالى: فلعلك باخع نفسك على اثارهم ان لم يؤمنوا بهذا الحديث اسفاً» (الكهف: 6).

وقال تعالى: «واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون» (النحل: 127).

فالأنبياء كانت حياتهم مليئة بالجهاد ضد الباطل والصمود وراء الحق والصبر عند الشدائد وتحمل الأذى في سبيل الله فقد منحهم الله عز وجل من العزائم والهمم ما يعجز عنه الأقوياء من الرجال ولا تتحمله الراسيات من الجبال.

كما ان ذكرها مهم بهم ليتخذ الدعاة والمصلحون من سيرتهم على نهجهم «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب» (يوسف: 110).

الصبر في السنة النبوية:

والصبر أنواع منها الصبر على المعاصي: ويحصل باجتنابها والبعد عن مظانها. والصبر على الطاعات: في الشدة والرخاء والعافية والبلاء طوعاً وكرهاً.

والصبر على المكاره: أن يصبر على الأمراض والعاهات وذهاب الأموال والصبر على الشهوات: وهو منع النفس من كل ما مالت إليه ومن أدمن على الصبر عن الشهوات أكرمه الله عز وجل بإخراج حبها من قلبه.

ومن أحاديث الصبر التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتضمن عن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«عجباً لأمر المؤمن ان أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن اصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن اصابته ضراء صبر فكان خيراً له» وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«الطهور شطر الإيمان والحمدلله تملأ الميزان وسبحان الله والحمدلله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء».

قال النووي: وأما قوله: «والصبر ضياء» فمعناه الصبر المحبوب في الشرع وهو الصبر على طاعة الله عز وجل والصبر عن معصيته والصبر أيضاً على النائبات وأنواع المكاره في الدنيا والمراد: الصبر المحمود ولا يزال صاحبه مستضيئاً مهتدياً مستمراً على الصواب.

قال إبراهيم الخواص: الصبر هو الثبات على الكتاب والسنة.

وقال ابن عطاء: الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب.

وقال الأستاذ أبو علي الدقائق: حقيقة الصبر أن لا يعترض على المقدور فأما إظهار البلاء لا على وجه الشكوى فلا ينافي الصبر قال تعالى في أيوب: «إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب».

عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على امرأة تبكي على صبي لها فقال لها: اتقي الله واصبري فقالت: وتبالي بمصيبتي فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها مثل الموت فأتت بابه فقالت: يا رسول الله لم أعرفك فقال: إنما الصبر عند أول صدمة وفي رواية «الصبر عند الصدمة الأولى».

وعن اسامة بن زيد قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه احدى بناته تدعوه وتخبره أن صبياً أو ابناً لها في الموت فقال للرسول: ارجع إليها فأخبرها: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر.

ولتحتسب فعاد الرسول فقال: انها أقسمت لتأتيها قال: فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وانطلقت معهم فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ـ قربة ـ ففاضت عيناه فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة جعلها في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء».

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى إذا نفذ ما عنده قال: ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغنى يغنه الله ومن يصبر يصبره الله وما أعطى أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر».

وجد في رسالة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: «عليك بالصبر واعلم ان الصبر صبران: أحداهما أفضل من الآخر الصبر في المصيبات حسن وأفضل الصبر عما حرم الله تعالى واعلم ان الصبر ملاك الإيمان وذلك بأن التقوى أفضل البر والتقوى بالصبر».

وقال عمر بن عبدالعزيز في خطبته:

«ما أنعم الله على عبد نعمه فانتزعها منه وعوضه منها الصبر إلا ما كان عوضه منها أفضل مما انتزع منه ثم قرأ: «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب».

قال العلامة الحداد: وعليك بالصبر فإن ملاك الأمر ولابد لك منه مادمت في هذه الدار وهو من الأخلاق الكريمة والفضائل العظيمة وخلاصة القول ان الصبر تميز في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إليه وخاصة في المرحلة المكية فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يغذي أرواح أصحابه بر غائب الإيمان ويزكي نفوسهم بتعليم حكمة القرآن.

ويربيهم تربية دقيقة عميقة يحدو بنفوسهم إلى منازل سمو الروح ونقاء القلب ونظافة الخلق والتحرر من سلطان الماديات والمقاومة للشهوات والنزوع إلى رب الأرض والسماوات ويذكى جمرة قلوبهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور.

ويأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس فازدادوا رسوخاً في الدين وعزوفاً عن الشهوات وتفانياً في سبيل المرضاة وحنيناً إلى الجنة وحرصاً على العلم وفقهاً في الدين ،محاسبة للنفس وقهراً للنزاعات وغلبة على العواطف وتسيطراً على الثائرات والهائجات وتقيداً بالصبر والهدوء والوقار.