على ضفاف نهر النيل العظيم... عاشت هذه السيدة الفاضلة في زمن صعب تحت وطأة حاكم ظالم حّرم عليها وعلى كل الأمهات في عصرها أغلى ما يرزقه الله سبحانه وتعالى لكل امرأة وهو جنينها ووليدها فكان رجال فرعون والقابلات في ذلك العصر يرصدون كل امرأة يشتبه بأنها «حامل» ويعلمون ميقات وضعها فلا تلد امرأة ذكرا إلا ذبحه أولئك القتلة ساعة مولده.

فكيف حافظت السيدة «أيارخا» أم موسى على جنينها وكيف كان لها ابن آخر وهو هارون وحافظت عليهما معا وعاشا حتى أصبحا نبيين من أنبياء الله الصالحين وكيف وصلت بهما إلى بر الأمان وحافظت عليهما من بطش فرعون.

وقصة هذه الأم الصبورة الرحيمة والحكيمة تنقلنا إلى أجواء أشبه ما تكون بالخيال فمن الطبيعي في أي عصر من العصور عندما تبشر المرأة أنها تحمل جنينا في أحشائها تعمها السعادة والفرحة إلا أن وجود حاكم مثل فرعون وأد الفرحة في قلوب كل الأمهات في ذلك الوقت.. فما أن تعرف المرأة أنها ستلد أو في بطنها جنين كان الحزن يكسو المكان والزمان لأن مصير هذا المولود هو الذبح لو كان ذكرا والاستعباد والخدمة كالرقيق لو كانت أنثى.

فأي مصير هذا الذي ينتظر هؤلاء المواليد وأي حياة هذه التي عاشتها أم موسى في عصر هذا الحاكم اللعين. ولكن لماذا كان فرعون يأمر بذبح كل الأولاد الذكور؟ يحكي لنا المفسرون أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم بقية ما كانوا يحفظونه عن نبي الله إبراهيم عليه السلام.... وكان من ضمن ما يؤمنون به ويتدارسونه قصة تحكي أن غلاما سيخرج من ذرية إبراهيم عليه السلام ويكون هلاك ملك مصر على يديه وكانت هذه البشارة معروفة بين بني إسرائيل حتى وصلت إلى قبط مصر وتداولوها فيما بينهم.

وتزامن ذلك مع رؤيا رآها فرعون في منامه وأزعجته كثيراً ولم يعد الحال بعدها كما كان.

نار تلتهم الظلمة

فقد رأى فرعون في منامه كأن نارا أقبلت عليه من ناحية بيت المقدس فأحرقت الأرض والزرع ولم يتبق شيء إلا وقضت عليه فلما استيقظ فرعون هاله ما رأى في رؤياه فجمع الكهنة والسحرة وسألهم عن ذلك فقالوا هذا غلام يولد من غير ملتك ويكون سببا لزوالك وزوال ملكك فأمر فرعون بقتل كل من يولد من بني إسرائيل من الغلمان وأبقى على البنات.

وقام فرعون بتعيين جواسيس لتتبع كل من تظهر عليها علامات الحمل واستحضر القابلات اللاتي كن يقمن بالتوليد واستحدث نظاما أشبه ما يكون الآن بنظام التعداد فسجل السيدات الحوامل وعلم ميقات وضعهن فإذا جاء ميعاد حمل إحدى السيدات وقف رجلان في الخارج والقابلة في الداخل فإذا أتت فتاة أبقوها وإذا كان غلاما فالويل كل الويل فتأخذه القابلة من أحضان أمه وتعطيه للرجلين المنتظرين بالباب فيذبحانه في الحال على مرأى ومسمع من أبويه وباقي اخوته.

وفي هذه الظروف الصعبة حملت السيدة «أيارخا» بابنها الأول «هارون» وكانت سيدة مؤمنة على ملة أبينا إبراهيم عليه السلام فظلت طوال أشهر حملها تدعو ربها وتبتهل إليه ليلا ونهارا أن يحفظ جنينها من أيدي الظلمة والقتلة.

واستجاب ربنا سبحانه وتعالى لدعاء هذه السيدة الصالحة فقبل أن تلد بعدة أشهر شكا رجال فرعون إليه خوفهم من أن قلة الصغار في بني إسرائيل بسبب قتل ولدانهم الذكور قد يؤدي إلى تعطل الأحوال وعدم وجود من يمتهن أعمالا لا يصلح لها علية القوم من أمثال رجال فرعون فأمر فرعون بقتل الأبناء عاما وأن يتركوا عاما فولدت هارون في عام المسامحة عن قتل الأبناء.

ميلاد موسى

وما لبثت أم موسى تهنأ بوليدها وتفرح بأنه لم يذبح كغيره حتى عاد إليها القلق من جديد بعد أن شعرت أن هناك جنينا جديدا يتحرك في أحشائها... فيا له من اختبار توضع فيه هذه السيدة الكريمة مرة أخرى وكانت لها ابنة كبرى اسمها كلثم فأخبرتها بأمر الحمل واتفقتا على ألا يذكرا للقابلة أنها حامل وأن تتوارى وترتدي الأثواب الفضفاضة حتى لا يظهر من حملها شيء. وعندما أتى المخاض إلى السيدة «يارخا» تحاملت على نفسها وانتظرت حتى أتى الليل فولدت ابنها موسى عليه السلام وأوحى إليها ربها وحي إلهام وإرشاد لا بوحي جبريل عليه السلام الذي لا يأتي إلا للأنبياء.

فيقول ربنا جل وعلا «وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين» وكيف لا تخاف وقد ولد موسى في عام قتل الأبناء الذكور فيا للعجب في أمر ربها إليها فإن خافت عليه فتلقيه في النهر فسبحان الله في علمه وقدرته ولكن ماذا فعلت أم موسى هل أطاعت أمر ربها... نعم أطاعته وشعرت أن إلهام ربها لها فيه نجاة لوليدها.

وكانت السيدة «أيارخا» تسكن بجوار نهر النيل بمصر وكانت كلما أرضعت وليدها وضعته في تابوت خشبي وربطته بحبل على ضفاف النيل حتى إذا أتى رجال فرعون ليفتشوا ربطته على الضفاف وتركته وإذا انصرفوا أحضرت وليدها مرة أخرى وظل الحال هكذا إلى أن جاء يوم انفلت حبل التابوت وسار التابوت في عرض النهر وكاد قلب أم موسى أن ينفطر إلى أن بعثت بابنتها الكبرى لتتقصى آثار أخيها الرضيع في الصندوق.

ولعل هذه اللحظات كانت الأصعب في حياة هذه السيدة العظيمة وأصبح قلبها خاليا من كل شيء عدا موسى الذي لم تعد تعرف مصيره. وكادت أم موسى في هذه اللحظات الصعبة أن تصرخ وتعلن أنه وليدها إلا أن الله عز وجل ربط على قلبها وطمأنها بل وبشرها بعظمة هذا المولود فيقول تعالى في سورة القصص آية 10 «وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كانت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون».

فاستقر به المقام أمام قصر فرعون حتى أخذته السيدة آسيا زوجة فرعون وتمسكت به كوليد لها ويحكي لنا القرآن الكريم كيف آل مصير هذا المولود فيقول تعالى «وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون».

فرجع إلى أمه مع رواتب ونفقات وهبات وجمع الله شملهما وجزاها خيرا عن صبرها فسبحان القادر الوهاب.

إعداد: جيهان متولي