أصدر مركز زايد للتنسيق والمتابعة دراسة جديدة عن «أزمة الصهيونية ومستقبلها فى اسرائيل».. ويتزامن هذا الاصدار مع التصعيد الاسرائيلى غير المسبوق فى الاراضى الفلسطينية المحتلة الامر الذى يهدد الوجود الفلسطينى بكامله وفى مختلف صوره. ويؤكد المركز أن اصداره هو جهد علمى متواضع يقدمه فى المرحلة الحالية التى تشهد واحدة من أعقد وأحسم وأصعب المنعرجات التى تتصل مباشرة بمستقبل منطقة الشرق الاوسط فى ضوء التدهور المستمر للاوضاع بفعل اصرار الحكومة الاسرائيلية على اعلان حرب شاملة وتوظيف كامل لطاقتها العسكرية لمواجهة شعب أعزل ترك وحيدا فى مواجهة هذا الارهاب الاسرائيلى الفظيع. فى غياب أى موقف دولى جاد ومسئول أمام هذا الوضع المأساوى وهذا الخطر الحقيقى الذى يتضاعف بين الساعة والاخرى. وترى الدراسة أن ظاهرة نقض العهود التى تتميز بها اسرائيل تجاه اتفاقات السلام الموقعة مع السلطة الوطنية الفلسطينية تعتبر سابقة خطيرة للغاية تثبت أن اسرائيل غير راغبة بالسلام وتثير مخاوف عالمية من امكانية تحقيق سلام دائم بين العرب واسرائيل الامر الذى يتهدد ليس فقط منطقة الشرق الاوسط بل والعالم كله نتيجة ما تقوم به اسرائيل من ممارسات تدمر بها عملية السلام. وتأتى القيمة النوعية لدراسة مركز زايد انطلاقا من ظرفها الزمنى ذلك أن ما تقوم به العصابات الصهيونية الان فى فلسطين على مرأى ومسمع من العالم يدل دلالة قطعية على «أزماتها» ليس الازمة الفكرية وحسب. وانما «الازمات» الاخلاقية والدينية والانسانية أذ كيف لمشروع «فكرى» أن يستمر بمجرد العنف والعنجهية فى فترة لم يعد الاستعمار فيها مقبولا.. كيف للصهيونية التى يتلذذ قادتها باقتراف هذه المجازر والتصفيات العرقية والتفرج بافتخار وكبرياء على هذه الملحمة غير المتكافئة التى يواجه فيها الطفل اليافع الاعزل الجندى المدجج بالسلاح وتستقبل فيها صدور الابرياء العزل مدافع الدبابات المصفحة وتقاوم فيها بنايات الفقراء المحاصرين أحدث ما توصلت اليه آلة الحرب فى أمريكا وربيبتها اسرائيل كما تأتى قيمة الدراسة كذلك من منهجها العلمى وحصافتها التوثيقية وقدرتها على سبر الاحداث وتحليها حيث ينطلق البحث من استطلاع للرأى نشرته جريدة «معاريف» بتاريخ 27 اكتوبر 1997 وورد فيه «أن الشعور بالانتماء الى الصهيونية ضعيف جدا بين أبناء اسرائيل الشبان» ليقف عند اراء بعض المفكرين الذين تحاصر اراؤهم بسبب طغيان ونفوذ العصابات الصهيونية داخل اسرائيل والذين يؤكدون أن الازمة الرئيسة للدولة العبرية تتمثل فى «غياب الاخلاق فى المشروع الصهيونى ويرون أن اسرائيل ولدت وهى منغمسة فى الخطيئة وأن الحركة الصهيونية حركة استعمارية». وقد تكونت هذه الرؤية الجديدة للمؤرخين على أثر دراستهم للوثائق السياسية التى وضعت تحت تصرف العلماء والمثقفين بعد ثلاثين عاما من وقوع الاحداث، فاكتشفوا وجها اخر لم يكن معروفا للمؤرخين القدامى الذين قاموا بأبحاثهم بعد وقوع الاحداث مباشرة، حيث تأكدوا أن الدولة الاسرائيلية التى قامت ليست لها قيمة يهودية أو انسانية. ومن الناحية السياسية عبروا عن رغبتهم فى أن تتخلى الدولة عن طابعها اليهودى وتصبح دولة ذات قوميتين يهودية وعربية وتهتم بثقافة البحر المتوسط. وتبنى لنفسها قاعدة أخلاقية وتتخلى عن القوة كقاعدة للدولة بدلا من الاخلاق. وتتحرر من السياسة الاستعمارية التى ورثتها عن الاستعمار الغربى. وهم يعتبرون المهاجر اليهودى واللاجئ الفلسطينى ضحايا للصهيونية التى ابتدعت العديد من المفاهيم مثل الهجرة والاستيطان والطلائعية والخلاص.. ويؤكدون أن تاريخ الصهيونية هو تاريخ الظلم0 حيث طردت العرب ولم تنقذ اليهود أو تخلصهم كما ظلمت الطوائف اليهودية الشرقية وكان قيامها كارثة للفلسطينيين. وكما أكد المؤرخون الاسرائيليون الجدد فاسرائيل لم تنشأ بمقتضى الطبيعة التلقائية للتطور وفى أطار ما يسمى بالقانون الطبيعى ولا بمقتضى التراضى العام بين الحاكم والمحكوم على الارض فيما يعرف بالعقد الاجتماعى كما لم تنشأ استنادا الى الانسجام الوظيفى بين أطرافها فى سياق النظرية العضوية وأنما جاءت بدعوى غيرها. ففي حين جاءت نشأة الدولة القومية الحديثة بعد أطوار من النضوج وصولا الى الطور الاعلى بفعل الصراع مع الذات، ظهرت اسرائيل الى الوجود نتيجة مشروع سياسى ثقافى له خلفيته الاسطورية وقوته العسكرية. ولذلك لم تشهد التجربة الاسرائيلية خبرة التطور من الداخل وأنما جاءت نتيجة الهجرة من بلاد الشتات الى ما سمى بـ «أرض الميعاد». وليس من قبيل الصدفة أن تنقض العصابات الصهيونية على الشعب الفلسطينى وقيادته التاريخية بعدما لم يجدوا مناسبة لتحقيق طموحاتهم فى تنازل تلك القيادة عن موضوع القدس الذى تبرز الدراسة نظرة الصهيونية الدينية له من خلال تبنى موقف سياسى يعتبر القدس عاصمة اسرائيل الموحدة والابدية وبالتالى العمل على اتمام تهويدها بكل السبل والوسائل لطمس المعالم العربية الاسلامية والمسيحية للمدينة. وتنظر الصهيونية الدينية الى قضية القدس على أنها قضية دينية وليست سياسية لذلك تمارس ضغوطها على كل الاحزاب الاسرائيلية لضمان يهودية المدينة وتأسيس القدس الكبرى الموسعة من خلال الدمج التام بين شرق المدينة وغربها واخلاء المدينة من سكانها العرب وتشجيع هجرة اليهود اليها واستكمال الاعمال الاستيطانية داخلها وحولها وأحاطتها بحزام استيطانى وعزل الاحياء العربية فى مناطق منعزلة مفتتة يتم تطويقها وعزلها عن بعضها البعض. وتبين الدراسة أن الجماعات الدينية الصهيونية تقوم بعدة أعمال لاجبار سكان القدس العرب على الهجرة من المدينة وذلك بتأييد واضح من الحكومة الاسرائيلية. فهى تعمد الى ارهاب المواطنين العرب وممارسة العنف ضدهم والقيام بالاعتداءات المتكررة على المسجد الاقصى ومزاحمة المسلمين فيه واقامة الصلوات اليهودية به وغير ذلك من المضايقات التى تؤديها الحكومات الاسرائيلية ولا تمنعها والتى تقوم فى نفس الوقت بتطبيق سياسة الطرد الهادئ وسياسة الترحيل السرى للفلسطينيين من القدس الشرقية وخلق واقع ديموجرافى جديد تصبح معه المدينة يهودية خالصة. ويرتبط التعنت الاسرائيلى حول القدس باليمين الدينى اليهودى المتطرف وبالصهيونية الدينية على وجه العموم ... فالحكومات المتوالية تحاول كسب رضاء هذا اليمين المتطرف من خلال الموافقة الضمنية على حركة الاستيطان فى القدس وغض النظر عما تقوم به الصهيونية الدينية من ممارسات عدوانية وتهويدية لمدينة القدس. وكلما ازداد الوجود الصهيونى الدينى داخل الجيش كلما زاد مواقف القدس تعقيدا. وتبرز الدراسة ارتباط الصهيونية الدينية اليهودية بالصهيونية الدينية المسيحية حيث تقوم الاخيرة بدور ملموس فيما يتعلق بالموقف من القدس. والصهيونية المسيحية مرتبطة بالمذهب البروتستانتى الاصولى الذى يرى فى القدس المكان الذى سيتم فيه القدوم الثانى للمسيح حسب اعتقاد هذا المذهب وهى المركز الدينى الذى ستظهر فيه مملكة الرب ... ولذلك تعمل الصهيونية المسيحية بالتحالف مع الصهيونية الدينية اليهودية على اتمام تهويد القدس والاسراع فى جعلها عاصمة أبدية لاسرائيل والمطالبة بنقل السفارات الاجنبية اليها. وتأتي الولايات المتحدة الامريكية على قمة الدول التى ترغب فى نقل سفارتها وقد اتخذ الكونجرس الامريكى قرارا بذلك يتوقف عند مجرد التنفيذ. وتسيطر الصهيونية المسيحية على السياسة الامريكية تجاه القدس فعدد كبير من أعضاء الكونجرس ينتمون الى الصهيونية المسيحية ويوجهون السياسة فى أمريكا تجاه خدمة المصالح الصهيونية وذلك بالتحالف مع الصهيونية اليهودية فى الولايات المتحدة واسرائيل. وقد تطرقت الدراسة لقضايا أخرى مهمة وحساسة فوقفت عند نتائج الموتمر الثالث والثلاثين للحركة الصهيونية الذى عقد فى شهر ديسمبر 1998 والذى قرر «تجاوزا للازمة المذكورة» اعادة الاعتبار الى التعليم الدينى وتشجيع الهجرة اليهودية من الغرب ودعم الاستيطان والوكالة اليهودية العالمية كما تناولت أشكالية الهوية اليهودية فوقفت عند البعد الدينى فيها وفكرة الشتات وتعرضت لبعض التسميات التى تطلق دون النظر الى أبعادها التاريخية والاصطلاحية فى تشويه معتمد تقوم به الصهيونية «كالعبريين» و«اليهود» و«الاسرائيليين» و«الصهاينة» بشيء من التأصيل التاريخى والثقافى المفيد لتتناول التصدعات التى يعانيها المجتمع الاسرائيلى من الداخل والمتمثلة فى الصراع بين المتدينين والعلمانيين وانعكاسه على السلام من منطلق توظيف الصراع العربى الاسرائيلى لخلق الوحدة داخل اسرائيل. ولا شك أن قراءة فصول هذه الدراسة تبرز الازمات التى تعانيها الصهيونية على المستوى الفكرى وفى خضم الواقع الاجتماعى والسياسى الامر الذى لا يستنكر معه أن تلجأ الى مثل هذه الاعمال الوحشية التى تهدف الى ابادة شعب أعزل لا لشيء أكثر من انه اراد أن يجد حريته على أرضه ورفض أن يخرج الى الشتات لتبقى الارض لمهاجرين جدد يخرجون من أرضهم ومنازلهم بناء على أساطير واهية كما حدث سنة 1948 حين أخرج من دياره من يملكها وأعطيت لمن لا يستحقها فكانت الكارثة الانسانية بالنسبة للعرب الفلسطينيين وبالنسبة لليهود الاوروبيين وكانت أزمة الصهيونية التى تأسست عليها والتى ستظل تنخر ذلك الكيان الذى بنى على الظلم والعنجهية وأسسته الاسطورة. لذلك فمركز زايد للتنسيق والمتابعة حين ينشر هذه الدراسة التى تستقصى آراء الحكمة والعقل فى المجتمع الاسرائيلى وتسبر أغوار التاريخ وتقف عند قضايا الواقع المعيش فأنما ليبين للرأى العام العربى وكل الباحثين عن الحقيقة ما تنطوى عليه الحركة الصهيونية من أفكار وما تعمل له من مشاريع تأتى أعمالها الوحشية الراهنة منساقة معها مستجيبة لها.