تطويع النمو العمراني في خدمة أهداف التطور الحضاري بدولة الامارات العربية المتحدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدأ النمو العمراني المتسارع الذي تشهده مدن دولة الامارات العربية المتحدة بوجه خاص ودول الخليج العربي بوجه عام بعد الطفرة النفطية في السبعينات وقيام الاتحاد ومع زيادة الانفاق الحكومي الاتحادي والمحلي وفتح باب الاقتصاديات المحلية , خاصة في الاستثمارات الخارجية سواء من الدول الخليجية المجاورة والعربية وسياسة التمليك المفتوح في بعض مدن الدولة واحتياجات الصناعات والتجارة الواسعة بالدولة أدت كلها الى ظهور مناطق تجارية وصناعية وتوسع في الاحياء السكنية لتضيف الى الكتلة العمرانية الصغيرة القديمة في مدن الامارات مساحات عمرانية اضافية تعادل أضعاف مساحتها القديمة. وكذلك تم جلب العمالة الوافدة للمشاركة في بناء البنية التحتية نتيجة لزيادة الاحتياجات السكانية لمختلف فئات المواطنين خاصة العائدين الى الوطن بعد قيام الاتحاد المبارك بقيادة صاحب السمو رئيس الدولة حفظه الله واخوانه حكام الامارات مما أدى الى تسارع النمو العمراني الذي أصبح يدار ويتم الاتفاق عليه من قبل الاجهزة الحكومية الاتحادية المحلية ممثلة في دوائرها المحلية مثل دوائر البلديات وتخطيط المدن. فكان الرأي العام متوجها نحو تحويل البلدات القديمة بامارات الدولة الى مدن عصرية لترقى الى مصاف المدن الحديثة ولتوفي بمتطلبات الحياة الحديثة المعاصرة وتنقلنا من عصر البداوة وقرى الغوص الى العصر الحديث والقرن العشرين, فقد كان المال متوفرا نتيجة لثروة النفط وكان الانفاق الحكومي على هذا النمو على أشده, والان وبعد أكثر من ربع قرن من النمو العمراني المتسارع في دولة الامارات والذي بدأ منذ السبعينات واستمر في طفرات متتابعة في عقد الثمانينات والتسعينات لنرى قرى الغوص هذه وواحات الصحرا ءتتحول الى مدن مزدهرة تقف على قدم المنافسة مع العديد من مدن العالم المتقدم, مما أدى وبطبيعة الحال ــ ومع ابجديات هذا التطور ــ الى ظهور جوانب سلبية يمكن الوقوف والتأمل من خلالها الى مسيرة النهضة العمرانية الحديثة بمدن الدولة وتقييمها سواء بدورها في العملية التنموية التي تشهدها الدولة أو في عموم المسيرة الحضارية بدولة الامارات. مدن عصرية حديثة وبداية يجب توضيح نجاح دولة الامارات في اثبات قدرتها بالتعامل مع الصدمة العمرانية السريعة التي مرت على مدنها في السبعينات حيث انها وبامكانياتها ومواردها المالية وبفضل نظامها الاتحادي المتميز ومتابعة مسؤوليها وجهود الحكومات المحلية فقد استطاعت مواكبة تقديم الخدمات لهذه المرحلة. لقد كان متطلبا حضاريا انشاء مدن عصرية حديثة كاملة الخدمات لأنها ضرورة حتمية في انشاء الدولة الحديثة ومتطلبا هاما في عملية النمو بالدولة, ولو خفت وتيرة التسارع العمراني الذي شهدته الدولة في تلك الفترة أي عقد السبعينات لكان بالامكان متابعة عملية استيعاب هذه الطفرة العمرانية وآثارها السلبية على كافة جوانب الحياة وخاصة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية منها وتكييف وملاءمة التطور الاجتماعي لأجل استيعاب هذه الطفرة العمرانية والموازنة بينهما للوصول الى توازن في استيعاب لتكون الخطوة التالية هي تطويع هذا النمو العمراني المتسارع كأداة في الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية ولا يكون العكس, أي تطويع موروثنا الاجتماعي والثقافي, بل والحضاري ايضا لخدمة هذا النمو المتسارع, وهذا باب القصيد. ومن ناحية اخرى فإن عددا من المميزات التي تتمتع بها مدن الدولة ونظرا للنظام الاقتصادي السائد فإن استمرار هذا النمو السريع في العقود الثلاثة الاخيرة كان خاضعا على نمو ملاحظ للقوانين الاقتصادية المعروفة مثل الدورات الاقتصادية وما شابه, فعلى سبيل المثال وعند تحليل احصائيات رخص المباني وحركة بيع وشراء الاراضي ونمط ارتفاع أسعار الاراضي في اتجاهات النمو الحضري لمدن الدولة يتضح في واقع الأمر ان مجمل عملية النمو العمراني واقع تحت تأثير قوى السوق من عرض وطلب أولا, ثم يأتي دور الانفاق الحكومي والاجهزة المحلية في هذه العملية. وان كان الموضوع كذلك فإن تحكم عوامل السوق في مسألة النمو العمراني الحيوية والتي تمس جميع أوجه حياة المجتمع لهي مسألة تستدعي النظر بها. ودراستها بجدية خاصة وان دولة الامارات تملك ولله الحمد المصادر الطبيعية والامكانات الاقتصادية والاستقرار السياسي والموقع الجغرافي ما يؤهلها ان تكون قوة اقتصادية مهمة في هذه المنطقة مما يعني ان العوامل الاقتصادية والقوانين المرتبطة بها ستلعب الدور الحاسم في تشكيل النمط العمراني العام للدولة في العقود المقبلة وان ترك الامر لقوى السوق في التحكم بهذه العملية فإن ما يرتبط بها من السلبيات والدورات الاقتصادية والانكماش الاقتصادي وسواء الانهيار أو الازدهار والرخاء الاقتصادي ستنعكس على عملية التنمية الاجتماعية والبشرية والأوجه المرتبطة بها, دون ان يكون للقوى الاخرى في هذه المسألة سواء للمؤسسات أو الافراد أي دور فعال في ذلك. وانطلاقا من هذين المفهومين في تطويع النمو العمراني في خدمة اهداف التطور الحضاري وكذلك التحكم به بدل ترك عوامل السوق الاقتصادية القيام بذلك, فإنه يمكن تقييم التجربة العمرانية لمدن الامارات على ضوء هذه المعادلة وذلك منذ قيام الاتحاد. وأول ما يمكن توضيحه هو التأثير المكاني المرتبط بالعمران على الجوانب الحياتية والتنموية, فنرى مع بداية هذا النمو ظهور موجة من الانفاق على البنية التحتية من خدمات الماء والكهرباء والمدارس والمستشفيات والطرق مما استدعى قدوم أعداد متزايدة من الوافدين والعمال وكذلك تحرك المواطنين للسكن خارج المنطقة القديمة ومع دوران هذه العجلة تبدأ عجلة النمو العمراني بالدوران ثم الدوران السريع لتتضح معالم رئيسية لشكل هذا التوسع على الرقعة الحضرية, فعلى سبيل المثال نرى التأثير المكاني في شكل المدينة القديمة وانتهاء دورها التقليدي لسكن العائلات المواطنة وخروجهم الى الضواحي الجديدة وأدى ذلك الى ظهور أنماط جديدة من العلاقات الاجتماعية خلافا لما كان سائدا في مناطق (الفرجان) القديمة, وبدأت تظهر مشكلة النقل والمواصلات في الانتقال اليومي للعمل في ضواحي المدن الى مراكز الأعمال, وظهرت مشاكل الازدحام ومواقف السيارات في مراكز المدن, وخاصة على سبيل المثال المنطقة الحضرية التي تشمل دبي والشارقة وعجمان والتي تحوي حوالي نصف عدد سكان الامارات, وأصبح التنقل اليومي بينها يتعرض الى صعوبات متزايدة نتيجة للمركز العمراني بها. ومع استمرار هذا النزوح تحول الوافدون ليتمركزوا في المنطقة القديمة من المدينة ونزحت العمالة الوافدة لتتمركز في مناطق العمال, وارتفعت العمارات الشاهقة وظهرت أنماط عمرانية مختلفة أدى هذا كله الى تدهور العمران التقليدي وتأثر الموروث المعماري والعمراني, وبالتالي الى انفصام الشخصية التاريخية لمدن الامارات مع موجة العمران الحديث ولا يخفى تأثير هذا كله على الشخصية المحلية لانسان الامارات المرتبطة بالبيئة المحيطة حواليه وأدى هذا ايضا الى انهيار الصناعات التقليدية وبدون تطويرها لتواكب العصر الحديث تحولت الى صناعات تراثية بعد ان توقف دوران عجلة الزمن بها. الانتقال الى الضواحي وبالنسبة للعمالة المواطنة فنتيجة للموجة الكاسحة من العمالة الاجنبية أصبح دورها ثانويا في عملية التنمية ومع استمرار دوران عجلة النمو تسارعت احتياجات التنمية للمزيد من الانفتاح التجاري والصناعي فظهرت مناطق العمران التجاري ومراكز التسوق وكذلك المناطق الصناعية الجديدة, ثم تأتي موجة انفتاح أكبر في ظهور المناطق الحرة والتوجه في الجذب السياحي وتكون هذه المدن مقبلة على توسع ونمو عمراني أكبر قائم بشكل أساسي على نفس النمط الذي بدأ في السبعينات ألا وهو تحرك المواطنين الى الضواحي حوالي المدن وتوسع في رقعة المساحات للمباني التجارية والمناطق الصناعية والخدمية لاستيعاب المزيد من الهجرة القادمة من الخارج لاستيعابهم في مدن الدولة ومع تزايد وتيرة الانماء الاقتصادي تزداد وتيرة وحدة هذا الاستيعاب السكاني على مناطق العمران ويؤدي الى زيادة حجم المدن وبالتالي زيادة المشاكل المصاحبة معها ومن ضمنها صعوبة النقل والمواصلات والتلوث البيئي والازدحام الخدمي والضغط على الخدمات العامة ونقص في توفير خدمات البنية الأساسية في بعض المدن, اضافة الى التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية المصاحبة لذلك وهو ما يحدث اليوم. وخلاصة الأمر في النموذج السابق ان هذا النمط من النمو العمراني السريع ليس قابلا للتعامل معه في تطويعه لأجل خدمة أهداف العملية التنموية الحقيقية التي تصب في صالح الفرد في هذا المجتمع إنما تبدو كعملية متسارعة تحكمها عوامل أخرى. تفعيل دور هيئة التخطيط العمراني ومع هذا التوجه المتسارع تبدو الحاجة أكبر من ذي قبل في توافر وتكاتف جهود المسؤولين في الحكومات المحلية والهيئات الاتحادية والمؤسسات المختلفة مع الافراد والمواطنين في ادراك أهمية وخطورة الأمر كخطوة أولى نحو طرح الحلول المناسبة, إذ لا يملك أي طرف كان القدرات والامكانيات لتطبيق أي حلول مقترحة دون تعاون الاطراف الاخرى في التطبيق العملي لتلك الحلول. ويجب التنويه ان العبء الأكبر في هذا التطبيق سيقع على عاتق السلطات المحلية متمثلة في البلديات ودوائر تخطيط المدن والتي تجد نفسها بحاجة الى جهد وامكانيات تتعدى حدودها وطاقتها, بل تحتاج الى دعم أشمل من جهات اخرى وأهمها الحكومة الاتحادية وخاصة في مسألة تفعيل قرار انشاء الهيئة العامة للتخطيط العمراني الذي صدر عام 1982 والتي لم يتم رصد ميزانية لها الى الآن. وكان الغرض منها ان تكون هيئة عليا لأجل تطوير التنسيق في مجال التخطيط العمراني على مستوى مدن امارات الدولة. وتأتي أهمية دور هيئة التخطيط العمراني للقيام بدورها في التخطيط العام والشامل لمدن الدولة لأجل تقليص الفارق الواضح في مستوى التطور الحضري الذي حققته بعض المدن دون غيرها مع انها تشكل في واقع الأمر منظومة حضرية واحدة, وهذا أدى دوره الى ظهور شبه خلل في التوازن الاقليمي في النظام العمراني لمدن الدولة قد يهون من أمره الآن ولكنه قد يؤدي الى ظهور عراقيل في مستقبل التنمية الشاملة بالدولة, فالنمو العمراني المتسارع في بعض المدن يواجه نمو عشوائي في مدن اخرى مما قد يؤدي الى خلخلة في التوجه العام للتطوير بالدولة. ويكون في المهام الاخرى تطوير ميكانيكية واضحة المعالم وبأهداف زمنية محددة وواضحة لأجل تطوير البنية الأساسية والخدمات المختلفة على مستوى المناطق الحضرية والمدن للوصول الى توازن في تنمية هذه المدن ببعضها البعض سواء على مستوى الخدمات العامة من انشاء مجمعات سكنية متكاملة الخدمات من طرق وكهرباء ومجاري لاسكان المواطنين وليس تقديم المسكن المناسب فقط, كما هو الوضع الآن في الوقت الحالي, وتبقى الخدمات الثانية متأخرة مما يؤدي الى انتفاء غرض الاستقرار الكامل للأسرة المواطنة في ضوء التكامل في عملية الاسكان في الخدمات الاخرى المصاحبة لها خاصة مسألة البنية الأساسية ولا يتحقق هذا الا بدعم الحكومات المحلية من السلطات الاتحادية عن طريق هذه الهيئة وبالامكانيات المالية التي يجب توفر لها من جميع الجهات سواء القطاع الخاص أو الهيئات العامة الاخرى لتطوير آلية الدعم هذه. وكذلك من الناحية الاخرى يكون لهيئة التخطيط العمراني دور في دعم الاجهزة المحلية فنيا في جهودها لتخطيط مدنها بشكل أفضل وبخاصة في مواجهة مشاكل النمو السريع الذي يكتسح هذه المدن وتطوير آلية تطبيق في التعامل مع هذا النمو السريع ودعم هذه الجهود بكافة الوسائل حتى تتمكن من الوصول الى طرح الحلول المناسبة لهذه المسألة الهامة في العملية التنموية المتكاملة. تطوير المخططات الهيكلية ويأتي هذا الدعم الفني على شكل تطوير المخططات الهيكلية أو (الشمولية) على مستوى المدن وكذلك القرى في الاقليم المحيط في مختلف مدن الامارات, ويجب السعي لطرح قانون التخطيط العمراني للمستوطنات البشرية على غرار دول عديدة في العالم, حيث انها من أهم متطلبات الانفاق الحكومي الاتحادي على عمليات التنمية المحلية. في تطوير هذه المخططات ورفعها الى الجهات الفيدرالية أو الحكومات المركزية وفيها تقارير شاملة وواضحة في احتياجات هذه المجتمعات المحلية في كافة الخدمات سواء من المدارس والمستشفيات والطرق واحتياجات السكان والمرافق الخدمية الاخرى لسنوات عشر أو عشرين أو خمس وعشرين حسب نوع المخطط الهيكلي وفيها يتم ايضا معرفة الانفاق الحكومي على كافة خدمات هذه المدن والمجتمعات المحلية ويتم جدولتها على مدى عدة سنوات من ضمن الجداول السنوية في الانفاق الاستثماري العام, ولا يكون هذا على أساس كل سنة على حدة كما هو المتبع في بعض الدول وهذا أمر هام وحيوي في العملية التنموية لأية دولة. ويدرك الكثيرون من المسؤولين والمختصين في دولة الامارات أهمية هذه المخططات الهيكلية والتي تم عمل بعضها في مدن الدولة وكيف انها ساهمت في السيطرة على بعض سلبيات النمو العمراني السريع فيها ولاتزال تلعب دورا رئيسيا كأداة فعالة في هذا المجال ولكن للأسف لم تستطع مدن اخرى لنقص الموارد المالية فيها كسبب رئيس في عدم تمكنها في تطوير هذه المخططات وتواجه الآن صعوبات شتى في السيطرة على النمو السريع وغير المتوازن في هذه المدن. ولو كان هناك جهاز اتحادي قادر على تطوير هذه الآلية مثل هيئة التخطيط العمراني لكانت مساهمتها فعالة في هذه المسألة خاصة فيما يختص بتأثر البيئة الطبيعية والبشرية نتيجة المد العمراني وازدياد رقعة المناطق الصناعية ودخول العديد من الصناعات الحديثة التي قد يكون لها تأثير طويل المدى على البيئة الصحراوية والبحرية في مختلف مناطق الدولة, وسيكون الدعم الاتحادي ايضا واضحا في دعم السلطات المحلية في أساليب المحافظة على الارث العمراني والمعماري للمدينة القديمة وطرح الحلول المناسبة في اعادة الروح اليها بعد هجران سكانها لها ونزوحهم الى ضواحي المدن وطرح الحلول المناسبة لحل مشاكل الازدحام المروري وتطوير الطرق والخدمات الاخرى بها لتعود وتلعب دورها الحيوي في مجمل العملية التنموية بالدولة. وأخيرا وليس آخرا لن يتوقف دور هيئة التخطيط العمراني الاتحادية على هذه المسائل فقط إنما يتعداها الى تطوير الأداة البشرية من أبناء الوطن وتأهيلهم في كافة المجالات لادارة عملية الانماء العمراني وهم النواة التي ستستطيع التعامل مع التحديات التي سيواجهونها مع مشاكل التنمية ومن ضمنها النمو العمراني السريع بدولة الامارات وهم الثروة الحقيقية التي ستعود بالنفع العام على الوطن ومستقبله.

Email