رمضان مدرسة الصبر وشعار الفائزين

ت + ت - الحجم الطبيعي

رمضان شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن.. هذه المعاني الجليلة هي الثمرات المرجوة بأن يخرج بها المسلم من مدرسة الشهر الفضيل، بعد أن تهيأ لاستقباله كما تتهيأ النفس لاستقبال أعز غائب يتنظر.

ومنذ دخول هذه المدرسة الكريمة على الصائم أن يروض نفسه للصيام والقيام وصالح الأعمال؛ فيكتب الأجر بهذه النية الصالحة، فكذلك فيه تهيئة للنفس لتطهيرها من رذائل المعاصي، بالعزم على البعد عنها وسلوك الاستقامة فيه حتى لا يكون فيه المرء من الغافلين، وهذه النية الصالحة تجعل من يتلبس بها كأنه مؤدياً لعبادة الصيام إن أدركه الموت أو العذر، فإن نية المؤمن خير من عمله.

جاء في حديث سلمان المشهور«وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة» والصبر هو تحمل المشاق لأجل الحصول على المرغوب، أو تحمل المرهوب، وهو أمر ثقيل على النفس لا يقدر عليه إلا الكُمَّل من الرجال.

ولذلك كان أجره عظيماً، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، ولعظيم خطره وكبير أثره كانت عناية القرآن الكريم به كبيرة، حيث أكثر الحق سبحانه من ذكره، أكثر من ستين مرة أمراً به، وثناءً على أهله، وبياناً لأجره، وجعله من شعار المؤمنين الفائزين برضوان الله، والناجين من الخسارة في الدنيا والآخرة، حتى يعلم الناس أن الله يحبه ويحب أهله كما صرح بذلك بقوله سبحانه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} فالصابر هو في محل المحبوبِيَّة لله تعالى وكفى بذلك فضلا ومنزلة.

فإن من نال هذه الدرجة كان عند الله في المحل الذي أخبر عنه في الحديث القدسي«وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءتِه».

والصبر أنواع ثلاثة:

صبر على أقدار الله المؤلمة.

وصبر على الطاعات.

وصبر عن الشهوات واللذات.

وكل هذه الأنواع تجتمع في الصوم، فهو صبر على الجوع والعطش وهو مؤلم جدا، لاسيما لمن لم يتعود عليه، أو من كان يعمل ويتعب، ولاسيما أيضا مع طول النهار وشدة الحر، فهو من الأقدار المؤلمة حيث لا يستطيع المسلم أن يفرط في فرضٍ فرضه الله عليه، لا يقضيه في الأجر صوم الدهر وإن صامه.

وهو كذلك صبر على الطاعات حتى يؤديها المسلم كما أمره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو يؤديه قربةً لله تعالى، وامتثالاً لأمره وشرعه.

وهو صبر على الشهوات واللذات التي هي متاحة لديه، وقد لا يمنعه منها إلا مراقبته لربه سبحانه، ومع ذلك هو يقول: إني أخاف الله رب العالمين.

فلكل ذلك كان جزاء الصائم عند ربه «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به» وهو جزاءٌ من ملك كريم، يعطي الجزيل بقدر كرمه لا بقدر عمل عبده، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه سبحانه: «قال الله تبارك وتعالى: «أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}.

والصالحون هم العاملون بطاعته الواقفون عند حدوده، والصائمون هم في ذروتهم؛ لأن الصيام سياحة في ملكوت الله تعالى بجميع الجوارح، فهو مراقبة دائبة وحضور كامل، حتى إن خوصم أو شوتم فإنه يمتنع عن جزاء السيئة بسيئة مثلها، بل يقول: إني امرؤٌ صائم، كما ندبه لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «الصيام جُنَّة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين»

وهذا من عظيم خشية الله تعالى، فإن الصبر على الخصومة مع دواعي الانتقام والقدرة عليه أمر شديد، فيكون جزاؤه كبيرا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء الذي سأله قائلا: دلني على عمل يدخلني الجنة قال: «لا تغضب ولك الجنة».

والصائم لا يغضب وإن غوضب بل يعفو ويصفح، ويقول ما يقوله الصالحون {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} وقد أخبر الله تعالى عن جزاء الصابرين بشيء من التفصيل في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ إلى قوله سبحانه: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} وهو الحال الذي يكون عليه الصائم، في جميع أحواله.

وليس المقصود من الصبر الصبرُ في هذا الشهر فقط، بل المقصود أن يكون خلق الإنسان في العمر كله، ولكنه إن تحلَّى به على وجهه في شهر كامل، فإنه سيصبح خلقا دائما له، لأنه قد دَرُب عليه وأصبح صبورا حليما، وإنما الحلم بالتحلُّم.

فلذلك كان هذا الشهر شهر الصبر لما فيه من الدربة عليه حتى يصبح سجية في المؤمن.

 

* مدير إدارة الإفتاء في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي

 

Email