الزكاة.. نماء للمال وبركة للحال والعيال

ت + ت - الحجم الطبيعي

رمضان شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه رزق المؤمن.. هذه المعاني الجليلة هي الثمرات المرجوة بأن يخرج بها المسلم من مدرسة الشهر الفضيل، بعد أن تهيأ لاستقباله كما تتهيأ النفس لاستقبال أعز غائب يتنظر.

ومنذ دخول هذه المدرسة الكريمة على الصائم أن يروض نفسه للصيام والقيام وصالح الأعمال؛ فيكتب الأجر بهذه النية الصالحة، فكذلك فيه تهيئة للنفس لتطهيرها من رذائل المعاصي، بالعزم على البعد عنها وسلوك الاستقامة فيه حتى لا يكون فيه المرء من الغافلين، وهذه النية الصالحة تجعل من يتلبس بها كأنه مؤدياً لعبادة الصيام إن أدركه الموت أو العذر، فإن نية المؤمن خير من عمله.

الزكاة هي الفريضة الثالثة من فرائض الإسلام، المعروفة بأركانه الخمسة وهي في الحقيقة نماء للمال وبركة للحال والمال والعيال، فرضها الله تعالى على الأغنياء ليعيش بها عباده الفقراء وذوو الحاجة، فإن الجميعُ عياله وفقراؤه كما قال سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، فالغِنى المطلق هو للغني الحميد سبحانه، فهو خالق المال والمتصرف فيه كخلقه للإنسان وتصرفه فيه، أوجبها الله تعالى على سبيل المواساة لعباده المحتاجين الذين علم الله حاجتهم فذكرهم بأوصافهم ليبقى هذا الوصف معيارا في الصرف إلى آخر الدهر فقال سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

فهم ثمانية أصناف في المجتمع، وقد يغيب صنف أو صنفان فيعود سهمه للباقين، ولو علم الله مستحقا غير هؤلاء لبينه؛ لأن المقام مقام تبيين بأسلوب الحصر والقصر، وما أعطاهم الله تعالى من هذا المال إلا بقدر ما يسد حاجتهم؛ لأنه سبحانه حكم عدل، فلا يظلم ربك أحدا، فلا يستشعر الغني أنه سلب منه ماله لغيره؛ لأن المال الذي بيده إنما هو مستخلف فيه كما استُخلف في الأرض.

وعارية بيده كسائر العواري التي يمكن أن يطالب بها صاحبها في أي وقت شاء، فإن العارية مؤداة، ومع كون الملك له سبحانه فإنه يتلطف بالأغنياء ليسْتَلَّ من نفوسهم عنصر الشح فيقول لهم: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فلم يسلبهم مالهم بل أقرهم على ملكيته فهو يقول لهم: { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ويقول جل شأنه:

{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} فمع إثباته لهم ونسبته إليهم، فقد ملك الفقراء نسبة شائعة منه؛ لأن مال المرء هو الذي ينتفع به، أما ما لا ينتفع به فهو مال وارث أو غاصب أو ناصب، وكونه يعود على المزكي بالنفع في العاجل بالبركة والنماء وطهارة النفس من الشح ويورث محبة الآخرين، والاكتفاء من شرورهم وأذاهم.

وما يسره بما يراه من حسن حالهم، فذلك دليل ملكه له، لأن كل ذلك هو من نفع المال في الحاضر الذي لا يكاد يعرفه كثير من المُعطين، الظانين بأنهم غير منتفعين بما يبذلونه من نسبة قليلة جدا من أموالهم.

وأما النفع الآجل فهو ذلك الأجر الكبير على أداء ركن من أركان الإسلام الذي لو لم يبذله بطيب نفس وسخاوة قلب لانقلب عليه عدوا ضاريا يحرقه ويؤذيه، فيتمنى أنه لم يكن له جامعا ولا له مالكا، كما صور الله تعالى ذلك وهو أصدق القائلين بقوله:

{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}. فهل يتخيل أحدٌ أن يكون المال الذي قد يكون أحبَّ إليه من زوجه وولده أن يُعذب به؟

فإنه لو أخبر تاجر أن صفقة مَّا كبيرة سيربح منها كثيرا، ستكون سببا لمتاعبه؛ فإنه لن يدخل فيها أبدا، ولعل ذلك الخبر قد يكون ضربا من الظن، فإذا أخبر الحق سبحانه وتعالى بحال المال الذي لا تؤدى زكاته كيف يكون عذابا على صاحبه، فالأجدر أن يفر من ذلكم العذاب كفراره من الأسد.

وقد قرَّب النبي صلى الله عليه وسلم صورة ذلكم العذاب الأليم بما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من آتاه الله مالا، فلم يؤد زكاته مُثِّل له مالُه يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا: (لا يحسبن الذين يبخلون)».

والإسلام يدعو إلى حفظ المال وكسبه ولا يمنع الغنى منه، لكنه يرشد إلى ما يذهب شره وضرره، وذلك بأداء زكاته كما قال ابن عمر رضي الله عنهما «ما أُدي زكاته فليس بكنز»

وإذا كان أجرُ الزكاة عظيما في سائر السنة؛ لأنها تؤدى عند حولان الحول في أي شهر حال فيه حول المال، فإن إخراجها في شهر رمضان يتضاعف الأجر فيه، لأن الفريضة فيه كسبعين فريضة فيما سواه، ولكن لا يجوز تأخيرها لأشهر عديدة انتظارا لرمضان، لما في ذلك من حبس الحق عن أهله، وهم في أمس الحاجة إليه، فيكون ظلماً لهم.

 

* مدير إدارة الإفتاء في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي

Email