كرسي شاغر وعروض لأفلامه وندوات تسانده

بناهي السجين يخيّم على ثاني أيام «برلين» السينمائي

ت + ت - الحجم الطبيعي


الملصق ذاته. المكان ذاته. البطاقات تحمل البيانات للفيلم ذاته، لكن ثمة تغيّر كبير حدث خلال ست سنوات، اذ ان المخرج غير موجود، بل يكاد يكون في زنزانة في.. «الوطن».

بهذه العبارات بوسعنا أن نصف أجواء قصر المهرجان اليوم، حين يعاد عرض الفيلم الإيراني « تسلل» في المكان ذاته الذي عرض فيه لأول مرة في العام 2006، ونال إعجاب الجمهور والنقاد، قبل أن يحصد مخرجه جعفر بناهي «دبّ» المهرجان الفضي.

 لكن بناهي، لن يكون هنا، في الرابعة والنصف من هذا المساء المتجلد في العاصمة برلين، لكي يلقي كلمة عن صعوبات صناعة الأفلام في إيران، والرقابة الشرسة و«الجاهلة» التي تفرض من قبل جهات حكومية، على عادته حين يتحدث بطريقة راديكالية لا تجامل ولا تأبه.

 ولن يخبر، مجددا لوسائل الإعلام الأجنبية «أسرار» جديدة عن «تسلل» وقصة الفتيات الستة اللواتي رغبن بمشاهدة مباراة كرة قدم، فتنكرن وتخفين في أزياء ذكورية، لكن حالهن اكتشف ومنعن من الدخول إلى الملعب.

 هذا الفيلم، الذي، كغيره من سينما «الموجة الجديدة» في إيران، التي مضى عليها أكثر من أربعين سنة، منذ أن أطلق داريوش مهرجويي (1939)، في فيلمه الرمزي «البقرة» شرارتها الأولى في العام ,1969.

هذا الفيلم ساهم في زيادة شهرة مخرجه الذي ينفذ في طهران حكما بالسجن لمدة ست سنوات، يرافقها منع لمدة عشرين عاما من ممارسة أي نشاط سينمائي والإدلاء بأي تصريح إلى وسيلة إعلام محلية وعالمية.

هذا الحكم، الذي شمل أيضاً المخرج محمد رسولوف (حاز في مهرجان دبي السينمائي قبل عامين على جائزة عن فيلمه السهول البيضاء)، قوبل بعاصفة من الاحتجاجات والمواقف الانتقادية التي صدرت عن مثقفين ومخرجين وقادة سياسيين ومهرجانات سينمائية في إيران والعالم.

ومن هنا، أراد «برلين السينمائي» هذا العام أن يكرر السيناريو ذاته الذي اتبعته إدارة «كان» العام الماضي، حين تركت لبناهي مقعدا فارغا بين مقاعد المحكمين، حين منعته السلطات الإيرانية من السفر، قبل أن تتطور الأحداث ويصدر حكم السجن.

ولن يكتف «برلين السينمائي» بهذا الإجراء، بل انه قرر أن يجعل من قضية بناهي إحدى العناوين الرئيسية لدورته الواحدة والستين، وإضافة إلى إعادة عرض «تسلل»، سوف تعرض أفلام أخرى له في فعاليات مختلفة من المهرجان، «من أجل لفت الانتباه إلى الإنجازات الرائعة لهذا المخرج .

والتي جعلته من المغضوبين عليهم من قبل النظام الإيراني»، على ما جاء في بيان رسمي صدر عن المهرجان. وربما تكون هي المرة الأولى، أو من المرات النادرة، التي يعرض فيها لمخرج واحد أفلام متعددة في غالبية فعاليات المهرجان، مثل «بانوراما» و» فوروم» و«جينيريشن» و«الأفلام القصيرة».

كما يحدث هذا العام مع بناهي، من دون أن يكون جزءا من عروضات ال«ريترو»، التي هي بمثابة استعادة لمجموعة من أفلام مخرج يتم اختياره كل عام.

ولن يقتصر الأمر على الأفلام، بل إن نقاشات عن الرقابة وقمع حرية التعبير في إيران سوف تدور في أورقة مسرح «هيبيل» يوم الخميس المقبل، بحضور عدد من صناع السينما الإيرانية، منهم رافي بيتز (عرض له العام الماضي فيلم الصياد ضمن المسابقة الرسمية) وزملاء له مصنفين في خانة «سينمائيي المنفى الإيرانيين»، إضافة إلى جمهور غفير من المهتمين بسينما إيران وأوضاع المشتغلين فيها من دول كثيرة.

يقول مدير المهرجان ديتير كوسليك: «.. سوف نستغل أي فرصة من أجل الاحتجاج ضد هذا الحكم الجائر». ولن تكون هذه خطة كوسليك وحده، إذ أنه.

ومنذ صدور الحكم، ثارت عاصفة من الاستهجان في وسائل الإعلام العالمية المختلفة، أجمعت على ضرورة انتهاز فرصة تزامن صدوره مع الاستعداد لموسم توزيع الجوائز السينمائية الكبرى، مثل «سيزار» و«أوسكار» و«بافتا» و«جولدن جلوب» وحتى «الرازي» (رغم أن هذه مخصصة لتوزيع جوائز أسوأ الأعمال والنجوم خلال العام).

 وتمت دعوة جميع السينمائيين للتذكير باسم بناهي وما حدث له، وخاصة لحظة تسلمهم جوائزهم حين تكون عدسات وكاميرات المصورين كلها مركزة عليهم، حتى يظل حاضرا في أذهان الإعلام ولا ينسى في ظل تواجده في قبضة النظام الإيراني.

وبالفعل، اهتمت كبريات الصحف العالمية بقضية المخرج الإيراني ونشرت مقالات لاذعة ضد الحكم. إذ تساءلت صحيفة «الإندبندنت»: ما الجريمة التي ارتكبها بناهي؟

 هل هي العمل على صناعة فيلم عن الانتخابات الرئاسية العام الماضي؟ إذن كان يمنع الفيلم من الخروج إلى النور، لا مخرجه نفسه»، وعلقت مجلة «تايم»:

«أن يحكم على صانع أفلام بعدم العمل كأنه يسجن تماما، وإن خرج من السجن الصغير إلى سجن أكبر»، وهى التعليقات نفسها التي أدلى بها بناهي لوكالة الأنباء الفرنسية عقب صدور الحكم، وربما تكون الأخيرة وفقا لما تلزمه به السلطات الأمنية لحين استئناف الحكم على يد محاميته فريدة خيرت.

معارك مبكرة
أما عن فيلم «تسلل» الذي يعرض اليوم، فهو يحتل مكانة هامة في سيرة مخرجه، وعلاقته ب«برلين السينمائي»، على وجه التحديد. فقد نال عنه جائزة الدب الفضي في العام 2006، ما أمّن له أيضاً الاختيار الرسمي في «مهرجان نيويورك السينمائي الدولي» و«مهرجان تورنتو السينمائي الدولي» في نفس العام.

 وكان ذلك بمثابة رد اعتبار واضح، من إحدى أرقى منصات السينما في العالم، أي «برلين السينمائي»، بعد سلسلة من الممارسات القمعية التي تعرض لها المخرج، قبل عرض فيلمه آنذاك في برلين. قبلها، كان قد مُنع فيلمه «طلاي سرخ/الذّهب الأَحمر»، من العرض في إيران عام 2003.

 وفي «الدائرة» كان قد أطلق صرخته المدوية على أولئك الذين مازالوا يرون المرأة بصورة بائنة ترجع للعصور القديمة، واضطر للدخول في معارك مع الرقابة بسببه. أَمَّا سيناريو فيلم »حالة تسلّل» فقد قام بتقديمه إلى سلطات الرقابة شخص يعمل مع بناهي غير معروف لدى السلطات، اسمه شادمهير راستين، ادَّعى أَنَّ الفيلم من إخراجه؛ وذلك بغية عدم تعريض أعمال التصوير للخطر. وحلم المخرج، أَنْ يصل فيلم »حالة تسلّل» بعد الفوز الذي حققّه في «برلين السينمائي» آنذاك إلى جمهور المشاهدين الإيرانيين.

 وصرّح أنه إذا ما قامت الرقابة بتشويه فيلمه من خلال قطع بعض المشاهد منه، فإنَّه يُفضّل الامتناع عن عرضه في وطنه. وبالفعل تحققت مخاوفه، ولم تتعرض الرقابة للفيلم، لكن السلطات الإيرانية منعت عرضه تماما.

ويروي الفيلم قصة فتاة تتنكر في هيئة رجل لتدس نفسها في أحد صفوف المشجعين الرجال الإيرانيين لكرة القدم، وقبل أن تبدأ المباراة مباشرة يتم القبض عليها وتحتجز في زنزانة مع مجموعة من الفتيات الأخريات اللاتي حاولن فعل الشيء نفسه، لكي يتم تسليمهن إلى شرطة الآداب بعد المباراة .

ولكن حتى ذلك الحين، تظهر فهم عذاباتهن من الهتافات المستمرة أثناء المباراة التي لا يستطعن رؤيتها. وقبل انتهاء المباراة كن قد قررن محاولة فعل أي شيء يخطر ببالهن لرؤية الجزء المتبقي. ويتّضح في فيلم »حالة تسلّل» كم هو مهم هذا الوطن، إيران، بالنسبة لجعفر بناهي.

عندما يُسمع في نهاية الفيلم صوت النشيد مرددًا »يا بلد الجواهر، يا أم الفنون«، فعندئذ وبشكل مثير للعجب لا تترك اللهجة الوطنية الهائجة أَثرًا ساذجًا ومصطنعًا، بل يكون أَثرها كمثل الإفصاح عن الحبِّ بنبرات جادّة. 

Email