.. من حلب

ت + ت - الحجم الطبيعي

ولدتُ في حلب، ولعبتُ في أزقتها، وعند سور قلعتها كانت أولى مشاغباتي وفي حديقتها العامة ضربت أول مواعيد صباي، ولطالما تدرجت نزولاً من جامعتها نحو مقهى القصر، حيث دخلت غازياً مقاعده الجلدية مشرعاً غليوني كأني وحيد دخانه.

من تلك الأيام، أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بدأت تكبر فكرة المدينة النابضة بالتاريخ، وكان كافياً في أي مجلس أو مقهى يصدح فيه صوت صباح فخري أن تفاخر بمدينتك التي وصفها محمد عبد الوهاب في ثلاثينيات القرن الماضي بمدينة السمّيعة. وعلق قائلاً في حوار تلفزيوني: إنه صعد أحد مسارحها للغناء فوجد ثلاثة أشخاص من كبار السن في الصالة، فغنى مرتبكاً في ليلته الأولى، لكن في الثانية غصت الصالة بالجمهور، لقد كان الثلاثة من سمّيعة المدينة، فنشروا خبر حلاوة صوته وجودة موسيقاه، ومنحوه لقب مطرب.

وفي حكاية عذبة، قال القس للعريس اللبناني وهو يكلله (اللي بدو يعيش عيشة هنية ياخد وحدة حلبية)، فقد كانت العروس من حلب. وفي رواية أخرى (اللي بدو ياكل لقمة هنية يتزوج حلبية)، وذلك لشهرة طعامها وطيِّب أطباقها، ويكفي أن تقرأ إعلاناً في صحيفة ما (مطلوب معلم مشاوي حلبي) لتشعر بفخر مذاقك.

وفي حلب تكثر الحكايات من أغنية مطربة البادية سميرة توفيق (لو صفولي الدهب من بيروت لحلب.. ما أريده.. ما أريده ما هالأسمراني ما أريده)، وصولاً إلى تراث لا يموت من ذاكرة الغناء الشعبي (يا رايحين لحلب حبي معاكم راح، يا محملين الدهب.. تحت الدهب تفاح). ستظل ذاكرة خالدة لمدينة لم تقوَ عليها الحرائق والغزوات والزلازل (زلزال حلب عام 1138 الذي يصنف رابع أخطر زلازل التاريخ).

أحمق من يعتقد أن البراميل المتفجرة قادرة على مسح تاريخ مدينة تنتج 90 نوعاً من الكبة!

Email