امتاز رحمه الله بحس المرح.. والمواقف على ذلك كثيرة وجميلة

علي الهاشمي شاهداً على سنوات العمر: كثرة الحديث عن زايد لاتفي بعض حقه

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

ثماني سنوات، وعلى الرغم من ذلك، تمر اليوم الذكرى أليمة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ ودلالات، ليس على شعبنا فحسب، بل على العالم أجمع، ويبقى التاسع عشر من رمضان من عام 1425 للهجرة، تاريخاً فارقاً؛ ففيه فاضت الروح الطاهرة إلى بارئها، معلناً رحيل باني البلاد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، يرحل جسداً ويبقى حاضراً وإن غاب، الأرض والسماء، البلاد والعباد، المطر والشجر، الماء والهواء، كل شيء يشهد على صدق عطاء رجل لم يبخل على شعبه وكل محتاج، رجل لم يألُ جهداً في سبيل مصلحة شعبه وأمته، ودينه وعروبته، عاش محافظاً على القيم والعادات، وكان التراث الأصيل منهله إلى الحاضر، ومنهاجه إلى المستقبل، منه استقى جديده مردداً على الدوام «من لا ماضي له ليس له حاضر»، فعاش أبياً، مكانه الأعناق والأكتاف، رحل فأصبحت القلوب قبره، ذكراه لا تمحى من النفوس، وسيبقى ما بقي هذا الشعب يردد اسم «زايد الذي كان زائداً في كل شيء».

عاش محباً لشعبه ومن أجل رخائه وتحقيق العيش الكريم، عمل وبذل في وقت لم يكن البذل هيناً، ولم يكن العطاء يسيراً، لكنها الإرادة والعزيمة على قهر الصعاب وتحدي العثرات لصنع المعجزات، وكان له ما أراد، وكان لبلاده وشعبه ما تمنى، وما سعى من أجله.

هكذا يعبر الدكتور علي الهاشمي مستشار الشؤون القضائية والدينية في وزارة شؤون الرئاسة، في حديثه عن هذه الذكرى، مستذكراً فضائل ومآثر الراحل، وهو يردد معترفاً بصعوبة الخوض في هذا الأمر، والحديث عن زايد، خشية ألا يفيه حقه.

يقول الهاشمي، وهو الشاهد على عطاء زايد في جانب اختصاصه، إذ عمل مستشاراً للمغفور له بإذن الله، وقاضياً من الرعيل الأول، عن القائد المؤسس: زايد شخصية مخضرمة تحرض النفس على التأمل، هذا الرجل عاش الحياة بشظفها وشح مالها، وعاش حياة الرفاهية والسعة. لذلك كان قريباً جداً من المحرومين والمعوزين، سواء داخل الدولة أو خارجها، لم يفرق في حبه وحنانه وعطائه بين جنسية أو ديانة، كان يهب ما لديه للإنسان بغض النظر عن سواه.

الإنفاق بلا خوف

ويضيف قائلاً: كان رحمه الله متديناً واثقاً في ما عند الله سبحانه وتعالى، ينفق ولا يخشى الفقر، وكثيراً ما كان يذكر أن الله حَبَا الكثيرين من خيره ونعيمه، لكنهم لم يوفقوا في إنفاق هذا المال في أوجهه الصحيحة، وحرموا من يحتاج إليه مما أمنهم الله سبحانه وتعالى عليه، ولم يسخروا المال لإسعاد شعوبهم.

ويؤكد الهاشمي أن من مزايا الشيخ زايد وشمائله، حرصه على إصلاح ذات البين، وقد سعى بين الدول العربية من أجل الوئام والوحدة، مشيراً إلى أن خير مثال على عشقه للتعاضد والاتفاق، سعيه إلى توحيد قبائل الإمارات المتفرقة، فأقام أعظم اتحاد عرفته البشرية، بمعاونة إخوانه حكام الإمارات رحمهم الله - وضرب بذلك المثل والقدوة في زمن الفرقة والقطيعة، لم يكن ملائماً لبناء نهضة واعدة وشاملة، لكن إرادة زايد ومن معه تجاوزت الحدود وتغلبت على كل الظروف.

ويشير إلى أن مجالسه رحمه الله، كانت مدارس يتعلم منها الجميع، يتعلم منها العلماء قبل العامة، وهذه منة من الله تعالى، مؤكداً أن هذا الحديث ليس للثناء والمدح، وإنما حقيقة يجزم بها الجميع، وإفصاح عن بعض ما كان يتمثل به زايد طيب الله ثراه.

ويستطرد: لا يمكن حصر مآثر هذا الرجل العظيم في سطور أو صفحات، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه يمكن أن يوفي هذا القائد حقه، ويذكر ما له من دين يطوق الأعناق، إذ يكفي أن يذهب ابن الإمارات إلى أي مكان في العالم حتى يجد حسن الاستقبال والحفاوة والتقدير والاحترام والاطمئنان إليه، لم يأت هذا من فراغ، بل هو نتاج غرس زرعه هذا الرجل في قلوب الشعوب بالمحبة، من خلال تواضعه وحلمه وسخائه، فقد جعل الجميع يكن للإماراتي الكثير من الحب.

أصول الشريعة

ويشير الهاشمي إلى أن زايد كان يهتم بالدين كثيراً، وكان يحرص على أن يتسلح الأبناء بالعلم، ويشبوا على تعلم أصول الشريعة الإسلامية، فأنشأ مراكز تحفيظ القرآن التي كانت تفتح أبوابها أمام الجميع خلال شهور الصيف، يستثمرون وقتهم بما يعود عليهم بالنفع والفائدة، وتشجيعاً لهم على الاهتمام والمواظبة على حضور هذه الفصول، فقد أمر بصرف مكافأة للدارسين والدارسات، إذ لم يكن يفرق بين الذكر والأنثى.

كما أنه كان يحث دائماً على تطبيق الشريعة الإسلامية والأخذ بها، وأنشأ في سبيل ذلك لجنة عليا، ليس لتطبيق الشريعة الإسلامية، وإنما لتقنينها، وهذا أمر قد يجهله الكثير من الناس.

ويضيف: كان حينها محمد البكر وزيراً للعدل، وكنت أنا من ضمن الأعضاء في هذه اللجنة التي أمر الشيخ زايد بتشكيلها، فاستقدمنا كوكبة من العلماء الأفاضل من عدد من البلدان العربية، منهم المستشار علي منصور، والمستشار محمود الشربيني، ومحمد عبد اللطيف، وعدداً كبيراً من المستشارين العرب، فأُنشِئت هذه اللجنة، وأسفر عنها إنجاز 26 مشروع قانون، خضعت جميعها إلى لجان وزارية، وقد أنهت اللجنة أعمالها خلال عامين فقط في نهاية السبعينيات، بإشراف واهتمام ودعم من الشيخ زايد شخصياً.

ويذكر الهاشمي عن اهتمام الشيخ زايد بالمحتاج أينما كان، وفي هذا يقول: كنت ولا أزال إلى يومنا هذا أحضر الدروس الحسنية للملك الحسن في المملكة المغربية الهاشمية، وذات يوم، تجولت في مناطق عديدة، ولفت نظري أحياء بها وحدات سكنية تحمل اسم الشيخ زايد رحمه الله، فدخلتها، وقابلني الناس فيها بكلمات الشكر والثناء بما جادت به يدا قلب الأمة.

وحينما عدت إلى البلاد، وكنت حينها مستشاراً في وزارة العدل، أخبرته عن رحلتي، وعرضت عليه صور المنازل المشيدة، فسألني رحمه الله: «هل يفرشونها لقاطنيها؟» فأجبته بالنفي، وأردفت القول إنهم يأخذون مبلغاً من المال لإيصال خدمات الماء والكهرباء إليها، فقال رحمه: «لماذا لا يخبروننا بذلك، نحن نعطي هؤلاء الفقراء لكي نخفف عنهم، لا لكي نحملهم عبء توصيل خدمات أساسية لا غنى عنها».

ويشير إلى أن هذا الموقف تكرر في أكثر من دولة وموقع، كما حدث في مدينة 6 أكتوبر في مصر، وكان يصر طيب الله ثراه على أن تسلم المساكن إلى مستحقيها دون تحميلها أي رسم.

الرئيس المصري

وفي السياق نفسه، يذكر الهاشمي حين مر موكب الشيخ زايد مع مضيفه الرئيس المصري السابق عبر بوابة بين مدينتي القاهرة والاسكندرية فسأل عنها، فأجابه الرئيس المصري أنها لتحصيل رسوم المرور، فقال تأخذون من الفقراء ومررنا دون أن ندفع، فأمر بمليوني دولار مساهمة منه تخفيفاً عن الشعب المصري.

ويستطرد: من يتحدث عن الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله، يتحدث على استحياء، خشية ألا يفي هذا الرجل الاستثنائي في كل شيء ما يستحقه من الذكر، كان معتزاً بدينه وعروبته، متمسكاً بما تربى عليه من قيم ومثل، عاملاً بها في حياته، نشيطاً ومجداً في حياته، يحب الصدق والحق، ويكره الكذب والخداع. ما عرف به من حكمة وذكاء وفراسة كان كافياً ليكشف الذي أمامه ويعرف نواياه وما يبطنه.

حبه للعمل كان يدفعه رحمه الله إلى أن يتابع ميدانياً أي مشروع يأمر بتنفيذه، وأذكر، وقد كان قد خرج قبل أيام من المستشفى بعد إجراء عملية جراحية، أنه توجه لمتابعة سير العمل في مشروع إنجاز طريق في المنطقة الغربية ليطمئن أن الأمور تسير وفق ما يريد.. نعم لم يكن يدخر جهداً في سبيل الإسراع بتنفيذ ما يحقق الرخاء والرفاهية لشعبه.

أكثر من ذلك، فإن الشيخ زايد رحمه الله، كان يتابع الصغيرة قبل الكبيرة، ويعطي كل ذي حق حقه، ويسأل عن تفاصيل دقيقة قد يراها البعض غير مهمة، لكن للراحل كان رأي آخر في كل شيء، وأي أمر يتعلق بالمواطنين فهو مهم عنده، ويكون ضمن أولوياته، وحدث أن سألني ذات مرة عن أسباب شكاوى الناس على القضاء وتذمرهم، فأجبته «الناس يخافون.. ومن لا يخاف الله لا يخاف أحداً»، فضحك مقهقهاً.

أكاديمية زايد

حياة الشيخ زايد تستحق أن تدرس في الجامعات والكليات، فهو أكاديمية بحد ذاتها، على الرغم من أنه لم يتخرج من أي جامعة أو كلية، إذ كان أوسع علماً من الذين يتهافتون على اقتناء الشهادات، لكنهم مهما بلغوا من العلم لن يأتوا بما أتى به رحمه الله، ويردف قائلاً: أذكر حين كنت في ديوان الرئاسة، وكان رحمه الله في استقبال عدد من السفراء العرب والأجانب، وكنت أستمع من خلال المذياع إلى حديثه معهم، وعند انتهاء العمل ظهراً ذهبت إلى تناول الغداء بصحبته في قصر البحر.

وأثنيت على ما تحدث به إلى السفراء أثناء حضوره معهم، لأن ذلك الحديث اختزل جوانب إيجابية عدة، منها على سبيل المثال، دور السفراء في تقريب وجهات النظر بين كافة الأقطار، ودور الدولة مادياً ومعنوياً في مساندة كافة الشعوب لتجاوز ضيقها، وغيره الكثير مما لا يحضرني، كلها معان تدل على عظمة خطابه ورقيه في التعامل مع كافة الجنسيات، فأخجلني برده المتواضع، وبحضور أنجاله قائلاً: «إن هذا الحديث الذي استمعت إليه نسمعه منك ومن غيرك ونقوله».

حس الفكاهة

ولطالما تمسك زايد بالإيثار، وله من مكارم الأخلاق ما يجعل من يعمل معه يخلص في عمله دون أن يفكر في المردود المالي، وأذكر بعد مرور عامين على مجيئي من البحرين استأذنته بالمغادرة، إذ إن زيارتي إلى الإمارات كانت بصفتي قاضياً منتدباً من قِبل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة رحمه الله حاكم البحرين، فقال لي: أين ستذهب؟ وتأثرت حقاً بما قاله لي، وحدثني حديث الأب إلى ابنه، وكأن ذلك الذي أمامي ليس رئيس الدولة، وقال لي: لن تستطيع المغادرة في أي حال من الأحوال، حتى لو طلبك الشيخ عيسى رحمه الله، فقبلته على رأسه دون أن أشعر، هكذا كان زايد يأسر قلوب الناس، يحب الجميع، ولا يفاضل أحداً على آخر إلا بالعمل، ولديه مساحة من التسامح مع كافة الأديان والمذاهب.

ويستطرد قائلاً: قلت له ذات يوم، إن مذهبنا مالكي، يجيز وقع الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد، لكن المذاهب الأخرى، ومعهم ابن تيمية رحمه الله، مغايرة لنهجنا، فرد: «طالما أن هناك شيئاً ينفع المسلمين نذهب إلى ما ذهب إليه ابن تيمية»، فلم يكن متعصباً بتاتاً، ويحرص على مصلحة المسلمين جميعاً.

مقاطعة مصر

محبة زايد للعرب بارزة، وحينما قاطع العرب مصر على خلفية مبادرة السادات للسلام وزيارة إسرائيل، تصدى لذلك، ووقف وقفة تاريخية لا تبرح عقل كل من شهد تلك الحقبة ومن جاء من بعدهم، وقد استهجن موقف الرؤساء والملوك العرب السلبي حيال مصر وشعبها في مؤتمر بغداد، إلى حد قال فيه الرئيس العراقي السابق صدام حسين، سنقتل كل من يعارض قرارات المؤتمر في مخدعه، وخاف الجميع من التهديدات المتصاعدة، وصمتوا إلا زايد رحمه الله، أبى مقاطعة مصر دون الإصغاء لمبررات موقف رئيس مصر آنذاك، وقال: إن هذه دولة عربية تضم نحو 50 مليون مواطن مصري لا يمكن عزلها، لافتاً إلى أن القادة لو أصغوا لزايد لما حدثت تلك التداعيات في بعض الأقطار العربية.

وقد كان لمصر عشق خاص في قلب زايد، وكلما كنت أستأذنه بالسفر إلى دولة ما كان يقول مداعباً: «قطعاً عن طريق مطار القاهرة». ولعل سر اهتمامه بمصر والشعب المصري على وجه الخصوص، كان لإدراكه أن هذه الدولة هي أمة من البشر، وذلك دون إغفال محبته للبلدان الأخرى، وقد سمعته بأذني يوماً يقول لناصر النويس، عقب عودته من تدشين سد مأرب: «اليمن موطن العرب وموطننا، وأي حصاة في اليمن اعتنِ بها». أما فلسطين فاحتلت في نفسه مكانة عظيمة، مبعث تلك المنزلة بالدرجة الأولى كونها قبلة المسلمين الأولى، وكان يعتبرها أرضاً من السماء، مستدلاً بالحديث «من مات في القدس كأنما مات في السماء»، فضلاً عن دعمه الكبير للقضية الفلسطينية التي سكنت أعماقه.

إن أحب الله سبحانه وتعالى إنساناً أنزل ملكاً من السماء يقول «إن الله أحب فلاناً فأحِبوه» هكذا يقول جبريل، ثم تنادي الملائكة الناس.. المحبة التي سكنت قلوب الناس للشيخ زايد رحمه الله لم تأت من فراغ، وسيبقى على الرغم من غياب جسده حاضراً يمثل القدوة للجميع، وما المحبة التي يكنها الناس ويظهرونها اليوم لشخص صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، إلا لأنه اقتدى بالراحل وأصبح، بحق، خير خلف لخير سلف.

زراعة الأرض

في الحديث عن الزراعة يقول الهاشمي، كانت الشكوك كبيرة حول إمكانية نجاح التشجير، وكانوا يرونه سراباً أو مجرد رغبة لزايد، لن تتعدى الحلم الذي لا يتحقق، ولم تفلح جهود كبار المهندسين الذين استقدمهم لاستشارتهم في هذا الشأن، وكل ما خلصوا إليه كان محبطاً، إذ قدموا تقارير كثيرة كلها تلتقي عند رأي واحد، وهو أن التربة غير مجدية للزراعة، وعليه إن أراد زراعتها فليس أمامه سوى وضع طبقة إسفلت في المناطق المراد زراعتها، تليها طبقة كي ينجح في مسعاه، عدا ذلك فليس سوى التخلي عن حلم الزراعة والتشجير، وآخرون اختصروا الطريق، ونصحوه ألا يهدر ماله، لأن زراعة الأرض شبه مستحيلة.

لكن إرادته القوية وعزيمته الصلبة كانتا أقوى من تلك الآراء، وأشد من تلك التقارير، فحدد هدفه، ورسم خطته في العمل، واعتمد على خبرته الواسعة بالأرض والماء، و قبل كل شيء إيمانه العميق بأن الله لن يتخلى عنه وسيعينه في ما فشل فيه الخبراء، وبعد نحو ست سنوات أرسل في طلب أولئك الخبراء الذين لم يسمع منهم سوى كلمات الإحباط والتذمر، فاستقبلهم وأكرمهم وقدم لهم واجب الضيافة، ثم أمر باصطحابهم في جولة خاطفة على شوارع الإمارة وأراضيها.

بعد ذلك سألهم الشيخ زايد رحمه الله عما رصدوه خلال الجولة، فأجابوه أنهم أعدوا تقارير العجز الماضية بناءً على ما تعلموه، وهذا الإنجاز الذي تحقق يصل إلى حد المعجزة، متسائلين عما فعله لإحياء الأرض على هذا النحو.

لقد ظل زايد رحمه الله متشبثاً بالأمل، وإن كان ضئيلاً، فمن كان يتوقع أنه سيرى يوماً هذه الرقعة الخضراء المنتشرة على مد البصر، فأكثر المتفائلين لم يكن يظن ذلك.

يقول الهاشمي: أذكر أنه في عام 1973 كنت قاضياً، وأذهب إلى مدينة العين كلما سافر قاضيها لقضاء إجازته لأنوب عنه، وفي الطريق من أبو ظبي إلى العين لا تكاد العين تقع على غصن أخضر وسط رمال كثيفة تطل منها نخلتان بالعدد، في منطقة المضيف، ومن يرى هذا الطريق الآن، يعي ما صنعه زايد، وما المعجزة التي تحققت على يديه.

إنسانية تتحرى العفو عن المحكومين

 

يقول علي الهاشمي مستشار الشؤون القضائية والدينية في وزارة شؤون الرئاسة، إن قلب زايد لا تحكمه مساحات وزوايا، ولا نوفق في وصفه مهما سطرنا من حروف ونمقنا من كلمات، وسمة العفو كانت مسيطرة على هذا القلب الناصع.

واستدلالاً على ذلك، يؤكد الهاشمي: في حدود عملي معه في الشؤون القضائية والدينية، كان يحث دائماً القاضي بالتأني في إصدار الأحكام، وكنت أعرض عليه القضايا ذات الصلة بالإعدام، فعندما نأتيه بنحو سبع قضايا، قلما يؤشر على قضية أو قضيتين، ويقول انتظروا ربما يعفو أولياء الدم ويتراجعون عن قرارهم، فكان رحمه الله لا يحب القتل، ويحب العفو والتسامح. وله مبدأ في ذلك، فيقول: إن العبد يذنب والله يغفر له، نحن لا نغفر لبعضنا بعضاً. هذا المعنى العربي البسيط التلقائي.

ويحث دائماً رحمه الله على التقاء العلماء، ويقول لماذا لا يلتقي العلماء؟ وأذكر ذات يوم ذهبت إلى محمد البكر وزير العدل الأسبق ووزير الشؤون الإسلامية والأوقاف في الوقت ذاته في أواخر رمضان، وقلنا لزايد رحمه الله إنه ليس لدينا سوى ثلاثة وعاظ، فأشار علينا أن نستقدم من العالم الإسلامي، وكان ذلك في عام 1981، وكان أول من أتانا من العلماء: معروف الدواليبي، والشيخ محمد الغزالي، وآخرون من مختلف الأقطار. وتوالت السنوات ثم استقبلنا 180 عالماً، وتطور الأمر بدعوة السيدات الداعيات. وكان رحمه الله يحتفل بهم عند وصولهم، وأثناء مغادرتهم، ويستضيفهم ويتسحر معهم، ويقدم لهم الإيضاحات في بعض الجوانب.

وأذكر ذات مرة أنه قال لهم: «هذا الطعام إكراماً لكم، لكن لا تظنوا أن هذه الولائم ستُرمى بعد الانتهاء من تناول الطعام، وإنما سنضعه في أطباق نظيفة، وستذهب به السيارات إلى الفقراء والفئات العاملة». هذا الدرس قدمه زايد كي لا يظنوا أننا مسرفون، وأذكر أنه قال: «نحن نطبق ما تقولون، فلا تضنوا علينا ولا تبخلوا بالنصيحة». وبكلامه هذا يعيد ما كان يفعله أولياء أمور المسلمين في العهد الأول من الإسلام.

قلب زايد يتسع لعتب الشعراوي

 

يتحدث الهاشمي عن كرم زايد رحمه الله قائلاً: إذا جاء أحد من العلماء يكرمه إكراماً كبيراً، وهذا الحديث ليس عني، وإنما عن الإمام محمد متولي الشعراوي، رحمه الله، وكان من بين الذين استقدمهم الشيخ زايد. وكلما دعوته لزيارة الإمارات خلال شهر رمضان يعتذر، فشدني ذلك للتحري عن سبب اعراضه، وأدركت أنه عاتب على الجهة المعنية باستضافتهم، لعدم موافاته بالمكافآت المالية الخاصة بالعمل، فاتضح أن هذا المال يُحجب من قبل وزارة الإعلام في مصر، فذهبت إلى صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، ولي العهد آنذاك، بالقصة كاملة، وقلت له إن الشعراوي رحمه الله يبني مسجداً، ولديه نحو 600 طالب في الأزهر يتعلمون على حسابه، وكعادته قدم سموه مبلغاً ضخماً لوجه الله تعالى.

وحينما دعا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، الشعراوي لتكريمه في حفل جائزة دبي للقرآن الكريم، أشار الشيخ زايد رحمه الله علي بمخاطبة الشعراوي رحمه الله كي يزوره، فذهبت له أنا والشيخ منصور الرفاعي، أحد علماء مصر وكيل وزارة الأوقاف المصرية. وزرناه في أحد المستشفيات في دبي، وعندما أردنا الدخول رفض الحراس ذلك، فكان يراقب الزائرين رحمه الله عن طريق شاشة إلكترونية، فأمر بأن يسمحوا لي بالدخول وهو يقول «هذا حبيبي».

وقلت له: إن الشيخ زايد رحمه الله يدعوه إلى ضيافته، فأجاب بالقبول، وقد اضطررت للسفر إلى المغرب في تلك الأثناء، وذهب الشعراوي لزيارة زايد رحمهما الله وقابله ورأى منه إكراماً منقطع النظير دعاه للتعجب والدهشة. وقال لي في زيارتي له في مصر إنه خسر طوال هذا السنوات لإعراضه عن زيارة الإمارات، وقال: هل يعقل أن يكون على هذا النحو، إنه إنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وقال: كيف لي أن أجد رجلاً كزايد، يحمل اللقمة في يده ويضعها في فمي، وهو في منتهى التأثر أثناء حديثه.

 

«لم تكتحل عيناه برؤية مسجده.. فليدفن بجانبه»

كان وقع فراق الشيخ زايد رحمه الله صعباً على المستشار علي الهاشمي، وعلى الأمة بكاملها، وهو من أصدر فتوى جواز دفن جثمان الفقيد في مسجده الذي لم تكتحل عيناه رحمة الله عليه برؤيته مكتملاً، ويعلم المقربون منه كم كان في شوق لرؤيته، لذا لا ضير من دفنه هناك.

وقال الهاشمي عن اللحظات التي رافقت إعلان الوفاة أنها كانت صعبة وحزينة للغاية، وأضاف: صافحت صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان آنذاك، وأصحاب السمو، واستأذنتهم في هذا الأمر، إذ قال الله تعالى في كتابه: «قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً». ولا يمنع من دفن الرجل الصالح بجوار المسجد. وفي العهود الإسلامية القديمة التي زخرت بكبار العلماء، أجيز الأمر والنصوص الشرعية تبيح ذلك، وقد توالت بعض الاعتراضات التي لا صحة في مرجعيتها.

و قبيل صلاة الجنازة، وقد كان الموقف مهيباً بمعنى الكلمة، والتأثر كان بالغاً على أنجال الغفور له بإذن الله، وجموع المصلين، يقول علي الهاشمي: التفت إلى الملوك والرؤساء من خلفي ونحن نهم بالصلاة، فقلت في ما قلت: «أريد أن أذكر أن أي متوفى فنحن ندعو له بالرحمة والمغفرة، ودعاؤنا قد يشفع له، إلا هذا المسجى أمامنا، فإننا نطلب منه أن يشفع لنا يوم القيامة بأعماله الصالحة»، فرد الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود خادم الحرمين الشريفين من خلفي قائلاً: «هذا الكلام الذي تقوله هو عين الصواب»، في لحظة كان جميع القادة والحضور متأثرين وفي غاية الحزن.

مدارس الصحراء

 

يذكر الهاشمي حديث عبد الملك الحمر رحمه الله وكيل وزارة التربية والتعليم البحريني الأسبق، إذ طلب منه الشيخ زايد رحمه الله مرافقتنا يوماً إلى منطقة الخزنة في العين، وكانت المنطقة في تلك الفترة صحراء قاحلة، تكاد تخلو من البشر والحياة، فاستقرت السيارة على تلك الأرض الجامدة، فطلب زايد من الحمر رحمهما الله أن ينشئ مدرسة للبنين وأخرى للبنات، فسأله متعجباً: مدرسة! هنا! أين المدرسون! أين الطلاب!، فطلب منه الشيخ زايد أن يجري اتصالاً مع الشيخ محمد بن بطي لتأمين عشرين «كرافاناً» للطلاب، ومثلها للمعلمين والمعلمات، فزادت علامات الاستفهام على وجه الحمر رحمه الله، لكن كل ذلك كان الماضي بعد سنوات قليلة، حين تحولت الخزنة من صحراء إلى منطقة تشع حيوية، حيث شيدت البيوت، وأخضرت المزارع، والحياة دبت فيها بشكل كبير.

كاسر الأمواج

 

في عام 1971 لم يكن هناك أكثر من 5 بنايات بالعدد على أهم شوارع مدينة أبو ظبي، وكان البعض حين يمرون على كورنيش أبو ظبي ينتقدون كاسر الأمواج والصخور الكبيرة الملقاة في البحر، ولم يدركوا أهمية الكاسر والحماية الذي يؤمنه للمدينة والسكان إلا بعد سنوات، حين أصبح لكاسر الأمواج منافع كثيرة، فضلاً عن كونه معلماً سياحياً مهماً، وضربة البداية لنهضة عمرانية واسعة وكبيرة شهدتها تلك المنطقة.

المرض والسجن

لم يثنِ المرض الشيخ زايد، وقبيل إجراء العملية الجراحية، قال له مجموعة من الأطباء إن هذه العملية خطيرة جداً، سألهم رحمه الله قائلاً: هل أنتم واثقون أنكم تؤدون عملكم على أكمل وجه، أجابوا: نعم، قال: وأنا مؤمن بأنه لن يصيبني إلا ما كتبه الله لي، وكل شيء بمشيئة رب العالمين، وبعد خروجه من العلاج، توافد عليه الناس ليسلموا عليه، ومن بينهم كنت أنا، فقال: أنا غبت عنكم شهرين أو ثلاثة، فما بال أولئك الذين في السجون لا يرون النور. وكأنه يعطي درساً للآخرين في حديثه، وقد أقبلت إليه بعد هذا الحديث وقلت له: لو أنهم يسمحون لنا بتقبيلك لقبلتك فقال: هات خدك، وقال «حبتك العافية».

Email