الجزء الحادي والـعـشرون

الآيات الحِسية لا تجدي مع الكافرين

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يبـدأ هـذا الجـزء من القـرآن الكريم، من الآيـة [ 46 ] من سورة الـعـنـكبوت، وحتى الآيـة [ 30 ] من سورة الأحــزاب، ومـمّـا ورَد فيـه:

(وَ قَالُـوا لَـوْلا أُنْزِلَ عَـلَـيْـهِ آيَاتٌ مِـنْ رَبِّهِ)[ العنكبوت 50 ]:

إنَّ الآيات الحِسِيّة المَرْئِيّة غيرَ القرآنِ، لاَ تُجْدي مَعَ إصْرارِ الكافرينَ عَلى الكُفْرِ وَالمعْصيةِ، لِذَلِكَ كانَ لاَ دَاعيَ لَهَا، حتّى إنّ مُعْجِزَةَ الإسْراءِ والمعْراجِ قَدْ حَصَلَتْ ليْلاً وسـِرّاً، (وَقَالَ الـذينَ لاَ يَعْـلَـمـونَ لَـوْلا يُكَـلِّـمـُنَا اللّـهُ أوْ تَأْتِينَا آيَةٌ) ثم قال (قَدْ بَيّنَا الآيَاتِ لِـقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [ البقرة 118 ]، تَأْتِينَا آيَةٌ: أي آية حِسـيَةٌ، بَيّنَا الآيَاتِ: آيات القرآن الكريم العِلميّة، (وَأقْسَـمـُوا بِاللّـهِ جَـهْـدَ أيْمَـانِهِـمْ لَـئِـنْ جَـاءَتْهُـمْ آيَةٌ لَـيُؤْمِـنُنَّ بِهَـا قُـلْ إنّمَـا الآيَاتُ عِـنْدَ اللّـهِ وَمَـا يُشْـعِـرِكُـمْ أنّهَـا إذا جَـاءَ تْ لا يُؤْمِـنون) [ الأنعام 109 ]، جَـاءَتْهُـمْ آيَةٌ: أي آية حِـسيّة مَاديّة، لا يُؤْمِـنون: دليل توكيد عَدَمِ الإيمانِ بِها، (وَإذا رَأوْا آيَةً يَسْـتَسْـخِـرونَ) [ الصافات 14 ]، (وَقَالـوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَـلَـيْهِ آيَةٌ مِـنْ رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللّـهَ قَادِرٌ عَـلَـى أنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَـكِـنَّ أكْـثَـرَهُـمْ لاَ يَعْـلَـمُـونَ) [ الأنعام 37 ]، (وَلَـئِـنْ جِـئْـتَـهُـمْ بِآيَةٍ لَـيَـقُـولَـنَّ الـذينَ كَـفَـروا إنْ أنْتُـمْ إلاَّ مُـبْطِـلُـونَ) [ الروم 58 ]، (وَلَـوْ نَزّلْـنَا عَـلَـيْكَ كِـتَابَاً فـي قِرْطَـاسٍ فَلَـمَـسُوهُ بِأيْـديهـِمْ لَـقَـالَ الـذينَ كَـفَـروا إنْ هَـذا إلاّ سِـحْـرٌ مُـبِينٌ) [ الأنعام 7 ]، فَالآيَاتُ المَطْلُوبـَةُ إذاً هيَ آيَاتٌ حِسّـِيَةٌ مَرْئِيـّةٌ، غَيْر آيَـاتِ القـُرْآنِ المُنْزَلَةِ أصْـلاً.

إذاً لاَ جَدْوى فِعْـلاً مِنْ تَعَدُّدِ الآياتِ الحِسّـيَةِ، فالقرآنُ كَافٍ وَوَافٍ لِمَنْ أرادَ الهُـدى: (إنّ هَـذا الـقُرآنَ يَهْـدي لِلّـتي هِـيَ أقْوَمُ) [ الإسراء 9 ]، (إنْ هُـو إلاَّ ذِكْـرٌ لـِلـعَـالَـمـينَ لـِمـَنْ شَـاءَ مـِنْكُـمْ أنْ يَسْـتقـيم) [ التكوير 28 ]، وَقَدْ كانَتِ الجِنُّ سَبّاَقَةً للإيْمـَانِ بِهَذا القُرْآنِ: (إنَّا سَـمِـعْـنَا قُرْآناً عَـجَـبَاً يَهْـدي إلـى الـرُشْـدِ فآمَـنّا بِهِ) [ الجن 1 / 2 ]، فآمَـنّا بِهِ : دونَ آيـاتٍ حسّـية بَصَريّـةٍ، (وَ قَالُـوا لَـوْلا أُنْزِلَ عَـلَـيْـهِ آيَاتٌ مِـنْ رَبِّهِ قُـلْ إنَّمَـا الآيَاتُ عِـنْدَ الّلـهِ وَإنّمَـا أنَا نَذِيرٌ مُـبينٌ أَوَ لَـمْ يَكْـفـِهِـمْ أنّا أَنْزَلْـنَا عَـلـَيـْكَ الـكِـتَابَ يُتْلى عَـلَـيْهِـمْ إنّ في ذَلِـكَ لـَرَحـْمَـة وَذِكْـرى لِـقَوْمٍ يُؤْمـِنُونَ) [ العنكبوت 50 / 51 ]، عَـلَـيْـهِ آيَاتٌ: أي آيات حِسّيَةٌ غَيْر القُرْآنِ، الآيَاتُ عِـنْدَ الّلـهِ: آيات حِسّيَةٌ غَيْر القُرْآنِ .

(وَلـيأتينّـهُـمْ بغْـتةً وهُمْ لا يشـعرون) [ العنكبوت 53 ]:

سَـتَحْدُثُ السَـاعَةُ [القيامَـةُ] فَجْـأةً وَبِسُـرْعَةٍ وَدُونَ سَـابِقِ إنْذارٍ: (مَـا يَـنْظُـرونَ إلَّا صَـيْحَـةً واحِـدَةً تَأْخُـذُهُـمْ وَهُـمْ يَخِـصِّـمـونَ فَلاَ يَسْـتَـطـيعُـونَ تَـوْصِـيَـةً وَلاَ إلـى أَهْـلِـهِـمْ يَـرْجِـعُـونَ) [ يس 49/ 50 ]، يَخِـصِّـمـونَ: يَتجادَلونَ في الأسواقِ، وَلا إلـى أَهْـلِـهِـمْ يَـرْجِـعُـونَ: دَليل ُ قِصَرِ الوَقْتِ بِحَيْثُ لاَ وَقْـتَ حتَّى لِلْعَـوْدَةِ إلى المنـازل وَالأهلِ، (هَـلْ يَـنـظُـرونَ إلاَّ الـسَـاعَـةَ أَنْ تَـأْتِـيَـهُـمْ بَـغْــتَـةً وَهُـمْ لا يَـشْـعُـرونَ) [ الزخرف 66 ]، وأمْرُ السَـاعة عَمليّةٌ خَـاطِفَةٌ بِسُـرْعَةِ الضَـوْءِ أوْ أسْرع: (وَ مَـا أَمْـرُنا إلاَّ وَاحِـدَةٌ كَــلَـمْـحٍ بِالـبَصَـرِ) [ القمر 50 ].

 

(كُـلُّ نَفْسٍ ذَائِـقَـةُ الـمَـوْتِ) [ العنكـبوت 57 ]:

النفس: هيَ التي لَهَـا الصِفَـاتُ الآتِيَـةُ:

مَخْـلُوقَـةٌ: (وَنَفْـسٍ وَمَـا سَـوَّاهَـا) [ الشمس 7 ] .

تُخَـطِّـطُ: (قَالَ بَلْ سَـوَّلَـتْ لَـكُـمْ أنْفُسُـكُـمْ أمْـراً) [ يوسف 18 / 83 ] .

فالنفْسُ: هِيَ كُلُّ المَشَاعِرِ وَالأَحَاسِيسِ وَالعُقُولِ التي نَتَّخِذُ عَنْ طَريقِهَا القَرارات.

تُعْطي الأوامِرَ: (إنَّ الـنَفْـسَ لأَمَّـارَةٌ بِالـسُـوءِ) [ يوسف 53 ].

تَمُــوتُ: (كُـلُّ نَفْسٍ ذَائِـقَـةُ الـمَـوْتِ) [ الأنبياء 35 ].

تُحَاسَـبُ: (يَوْمَ تَجِـدُ كُـلُّ نَفْـسٍ مَـا عَـمِـلَـتْ) [ آل عمران 30 ] وذلك في يَوْمِ البَعْثِ.

وَالحِسَابِ: (عَـلِـمَـتْ نَفْـسٌ مَـا قَدَّمَـتْ وَأَخَّـرَتْ) [ الانفطار 5 ].

(لَـنُبَـوِّئَـنَّهُـمْ مِـنَ الـجَـنَّةِ غُـرَفاً) [العنكبوت 58 ] :

مثـال ذلك جـنات عَـدْن:

هِيَ أكْثَرُ الجَنَّاتِ ذِكْرَاً وَمِنَ الجَنَّاتِ التي تَجْري مِنْ تَحْتِها الأنْهَارُ، وَفيهَا مَسَاكِنُ طيّبةٌ: (تُؤْمِـنونَ بِاللَّـهِ وَرَسُـولِـهِ وَتُجَـاهِـدونَ في سَبيلِ اللَّـهِ بِأَمْـوالِـكُـمْ وَأَنْفُـسِـكُـمْ ذَلِـكُـمْ خَـيْرٌ لَـكُـمْ إنْ كُـنْتُمْ تَعْـلَـمـونَ يَغْـفِـرْ لَـكُمْ ذُنوبَكُـمْ وَيُدْخِـلْـكُمْ جَــنَّاتٍ تَجْـري مِـنْ تَحْـتِهَـا الأَنْهـارُ وَمَـسَـاكِـنَ طَـيِّبَةً في جَـنَّاتِ عَـدْنٍ) [ الصف 11 /12 ]، (وَإنَّ لِلـمُـتَّقينَ لَـحُـسْـنَ مَـآبٍ جَـنَّاتُ عَـدْنٍ مُـفَتَّحَـةً لَـهُـمُ الأَبْوابُ مُـتَّكِـئـينَ فيهَـا يَدْعُـوْنَ فيهَـا بِفَاكِـهَـةٍ كَـثيرَةٍ وَشَـرابٍ وَعِـنْدَهُـمْ قَاصِـراتُ الـطَـرْفِ أَتْرابٌ) [ ص 49 ]، (إنَّ الـذينَ آمَـنوا وَعَـمِـلـوا الـصَّـالِـحَـاتِ أُولَـئِـكَ هُـمْ خَـيْرُ الـبَريَّةِ جَـزاؤهُـمْ عِــنْدَ رَبِّهِــمْ جَـنَّـاتُ عَـدْنٍ تَجْـري مِـنْ تَحْـتِهَـا الأَنْهـارُ خـالِـدينَ فيهَـا أَبَداً رَضـيَ اللَّـهُ عَـنْهُـمْ وَرَضـوا عَـنْهُ ذَلِـكَ لِـمَـنْ خَـشـيَ رَبَّهُ )[ البينة 7 / 8 ]، ( وَالـذينَ آمَـنوا وَعَـمِـلـوا الـصَّـالِـحَـاتِ لَـنُبَـوِّئَـنَّهُـمْ مِـنَ الـجَـنَّةِ غُـرَفاً تَجْـري مِـنْ تَحْـتِهَـا الأَنْهَـارُ خَـالِـدينَ فـيهَـا نِعْـمَ أَجْـرُ الـعَـامِـلـينَ) [العنكبوت 58 ] .

(وإنّ اللـه لـمَـعَ المحـسـنين) [العنكبوت 69 ] :

المُحْسِنُونَ: يَأتي الإحْسَانُ مَعَ التَقْوى: (إذا مَـا اتَّقَـوْا وَآمَـنُوا وَعَـمِـلـوا الـصَّـالِـحَـاتِ ثُمَّ اتَّقَـوْا وَآمَـنُوا ثُـمَّ اتَّقَـوْا وَأَحْـسَـنُوا وَاللَّـهُ يُحِـبُّ الـمُـحْـسِـنينَ)[ المائدة 93 ]، (هُـدَىً وَرَحْـمَـةً لِلـمُـحْـسِـنينَ الـذينَ يُقِيمُـونَ الـصَـلاَةَ وَيُؤتُونَ الـزَكَـاةَ وَهُـمْ بِالآخِـرَةِ هُـمْ يُوقِنُونَ أُولَـئِـكَ عَـلـى هُـدَىً مِـنْ رَبِّهِـمْ وَأُولـئِـكَ هُـمُ الـمُـفْـلِـحُونَ) [ لقمان 3 / 5 ]، وَثَوابُ المُحْسنينَ يُعَادِلُ ثَوابَ المُتَّقينَ: (إنَّ الـمُـتَّقينَ فـي ظِـلاَلٍ وَعُـيُونٍ وَفَـواكِـهَ مِـمَّـا يَشْـتَهُـونَ كُـلُـوا وَاشْـرَبُوا هَـنِيئَـاً بِمَـا كُـنْتُمْ تَعْـمَـلُـونَ إنَّا كَـذَلِـكَ نَجْـزي الـمُـحْـسِـنينَ) [ المرسلات 41 / 44 ]، وَمِنْ صِفَاتِ المُحْسِنينَ أيْضَاً: (الـذينَ يُنْفِقُونَ فـي الـسَّـرَّاءِ وَالـضَـرَّاءِ وَالـكَـاظِـمِـينَ الـغَـيْظَ وَالـعَـافينَ عَـنِ الـنَاسِ وَاللَّـهُ يُحِـبُّ الـمُـحْـسِـنينَ) [ آل عمران 134 ]، (إنَّهُـمْ كَـانُوا قَبْلَ ذَلِـكَ مُـحْـسِـنينَ كَـانُوا قَـلـيلاً مِـنَ اللَّـيْلِ مَـا يَهْـجَـعُـونَ وَبِالأَسْـحَـارِ هُـمْ يَسْـتَغْـفِـرونَ وَفـي أَمْـوالِـهِـمْ حَـقٌّ لِلـسَّـائِـلِ وَالـمَـحْـرومِ) [الذاريات 16 / 19 ]، وَللمُحْسنينَ عَطَاءٌ فريدٌ في الدُنْيا قَبْلَ الآخِرَةِ: (وَلَـمَّـا بَلَـغَ أَشُـدَّهُ آتَيْنَاهُ حُـكْـمَـاً وَعِـلْـمَـاً وَكَـذَلِـكَ نَجْـزي الـمُـحْـسِـنينَ) [ يوسف 22 ]، وَاللَّـهُ مَعَهُمْ في الدُنْيَا وَالآخِرَةِ: (إنَّ اللَّـهَ لَـمَـعَ الـمُـحْـسِـنينَ)[ العنكبوت 69 ]، وَيُحِبُّهُمْ: (وَاللَّـهُ يُحِـبُّ الـمُـحْـسِـنينَ)[ المائدة 93 ] [ آل عمران 148 ]، وَيَرْحَمُهُمْ: (إنَّ رَحْـمَـةَ اللَّـهِ قَـريبٌ مِـنَ الـمُـحْـسِـنينَ) [ الأعراف 56 ]، وَيُبَشِّرُهُمْ بالجَنَّاتِ التي تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ: (وَبَشِّـرِ الـمُـحْـسِـنينَ)[ الحج 37 ]، (جَـنَّاتٍ تَجْـري مِـنْ تَحْـتِهَـا الأَنْهَـارُ خَـالِـدينَ فـِيهَـا وَذَلِــكَ جَـزاءُ الـمُـحْـسِـنينَ) [ المائدة 85 ]، (وَلَـهُـمْ مَا يَشَــاؤونَ عِـنْدَ رَبِّهِـمْ ذَلِـكَ جَـزاءُ الـمُـحْـسِـنينَ ) [ الزمر 34 ]، (لِلَّـذينَ أَحْـسَـنُوا مِـنْهُـمْ وَاتَّقُـوا أَجْرٌ عَـظِـيمٌ ) [ آل عمران 172 ]، (وَالـسَـابِقُونَ الأَوَّلُـونَ مِـنَ الـمُـهَـاجِـرينَ وَالأَنْصَـارِ وَالـذينَ اتَّبَعُـوهُـمْ بِإحْـسَـانٍ رَضِـيَ اللَّـهُ عَـنْهُـمْ وَرَضُـوا عَـنْه ُوَأَعَـدَّ لَـهُـمْ جَـنَّاتٍ تَجْـري مِـنْ تَحْـتِهَـا الأَنْهَـارُ خَـالِـدينَ فِيهَـا أَبَداً ذَلِـكَ الـفَـوْزُ الـعِـظِـيمُ)[ التوبة 100 ]، وَالإحْسَانُ هُوَ أنْ تَعْبُدَ اللّهَ كَأنَّكَ تَراهُ. رواه البخاري برقم 50، كَمَا أوْضَحَ ذَلِكَ صلى الله عليه و سلّم، وَالسَلامُ في الدنيا والآخرة يكون للمُحسنينَ: (سَلامٌ عَـلى إبْراهـيم إنّا كَـذَلِـكَ نـجْـزي الـمُـحْـسِـنينَ) [الصافات 109/ 110 ].

(لِلّـهِ الأمْـرُ)[ الروم 4 ] :

الفَرْقُ بَيْنَ: (لِلّـهِ الأمْـرُ) [ الروم 4 ]، وَبَيْنَ: (الأمْـرُ يَوْمَئِـذٍ لِلّـهِ) [ الانفطار 19]، فَفي سُـوْرَةِ الرومِ يُوجَدُ اخْتِصاصٌ: [ مَوْضُوعُ انْتِصَارِ الرومِ فَقَطْ ] لِذَلِكَ قَدَّمَ لَفْظَ الجَلالَةِ (لِلّـهِ)، بَيْنَمَا في يَوْمِ القِيَامَةِ كُلُّ الأمْرِ للّهِ، وَلاَ أمْـرَ لأحَدٍ سِواهُ: (يَوْمَ لاَ تَمْـلِـكُ نَفْـسٌ لِـنَفْسٍ شَـيْئَـاً)[ الانفطار 19]، أيْ إنَّ الأمْرَ مُطْلـَقٌ للّهِ، لِذَلِكَ قَـدَّمَ هَـذِهِ المَرَّة كَلِمَةَ (الأمْـرُ) على لَفْظِ الجَلاَلَةِ.

ومثله عِبـَارَةَ: (لِلّـهِ الـحَـمْـدُ) [ الجاثية 36 ] فيهـَا اختصاصٌ أوْ إزَالَةُ شَـكٍّ، عَمَّنْ ادّعى الحَمْدَ لِغَيْـرِ اللـهِ، فَتَمَّ تَقْديمُ الجَـارّ وَالمَجْرور (للّـهِ)، مِنْ أجْلِ هَـذا الاختصَاصِ، حَيْثُ وَحْـدَهُ سُـبحانَهُ الجَـديرُ بالحَمْـدِ، وَهُـوَ المُخْتَصُّ بِـهِ، وَهُـوَ سَـبَبُهُ كُلُّـهُ، لِذَلِكَ تَـمَّ تَقْديمُ الذاتِ الإلهيّـةِ (اللّـه) المُسْـتَحِقّةِ للحَمْدِ.

بَيْنَمَا عِبَـارةُ: (الـحَـمْـد لِلّـهِ) في بِدايَـةِ سُورَةِ الفَاتِحَـةِ، فَهيَ مُطْلَقَـةٌ وَغَيْرُ مُقَـيَّدَةٍ بِزَمَـانٍ أوْ مَكانٍ خَاصَّـةً وَأنَّ (الـحَـمْـد) مُعَرَّفَةٌ بِـألْ التَعْـريفِ، فَهيَ تَدُلُّ عَلى الحَمْـدِ المُتَعَـارَفِ عليْهِ بَيْنَ الخَالِقِ وَالمَخْلوقِ، وَبِمَـا أنَّ عِبَـارَةَ: (الحَـمْـد لِلـّهِ) هيَ جُمْلَـةٌ خَبَريَّـةٌ، فَهيَ تُفيدُ الثَّباتَ، أيْ إنَّ الحَمْـدَ ثَابِتٌ وَدائِمٌ للـّهِ، وَالحَمْدُ يَكُونُ بَعْدَ العَطَاءِ وَالإحْسَانِ وَمَنْ أكْثَرُ عَطاءً وَإحْسَاناً مِنَ اللـهِ سُبْحَانَهُ، أمَّـا المَـدْحُ فَيَكُونُ قَبْلَ الإحْسَانِ وَبَعْـدَهُ كَمَا يَجُوزُ للحيّ وَالميّتِ، بَيْنَمَا الحَمْـدُ لا يَكُونُ إلاّ للحَيّ، فـَالحَمْـدُ للّـهِ وَحْدَهُ، بَيْنَمَا المَـدْحُ أوْلى لِسِواهُ، وَلَيْسَ الحَمْدُ: (وَ يُحِـبُّـونَ أنْ يُحْـمَـدوا بِـمَـا لَـمْ يَفْـعَـلُـوا) [ آل عمران 188 ] .

إخراج الحياة من الموت أمر إلهي فقط

[يُخْرِجُ وَمُـخْـرِجُ]:

هَذِهِ الثُنَائِيَّـةُ هِيَ ثُنَائِيّـةٌ مُتَنَـاوِبَةٌ: (إنَّ اللهَ فَالِـقُ الـحَـبِّ وَالـنَّوى يُخْرِجُ الـحَـيَّ مِنَ الـمَـيِّتِ وَمُـخْـرِجُ الـمَـيِّـتِ مِـنَ الـحَـيِّ) [ الأنعام 95 ]، نُلاَحِظُ أنَّ اللّفْظَةَ الأُولى لِلإِخْراجِ قَدْ جَاءَتْ _ يُخْرِجُ _ في صِيغَةِ الفِعْلِ المضَارِعِ لِلدَلاَلَةِ عَلى أنَّ هَذا الأمْرَ يَتَعَلَّقُ بالله وَحْدَهُ _ إخْرَاجُ الحَياةِ مِنَ الموْتِ _ وَلاَ يَقْدِرُ سِواهُ عَلى هَذا الأمْرِ، فالحيَاةُ أَمْرٌ إلَهِيٌّ فَقَطْ، بَيْنَما جَاءَتْ اللَّفْظَةُ الثَّانيةُ لِلإخْرَاجِ _ مُخْرِجُ _ في صِيغَةِ اسْمِ الفَاعِلِ، لِلدلاَلَةِ عَلى أنَّ هَذا الأمْرَ يُمْكِنُ أنْ يَقُومَ بِـهِ غَيْرُ الله _ إخْراجُ الميّتِ مِنَ الحَيِّ _ كَأنْ يَقْتُلَ مَخْلوقٌ مَخْلوقاً آخَرَ، أمّا في الآخِرَةِ فإنَّ الأمْرَ كُلَّهُ يُصْبِحُ بِيَدِ الله وَلا يَسْتَطيعُ أَحَدٌ أنْ يقتل أحَداً [أنْ يُخْرِجَ الميِّتَ مِنَ الحَيِّ]، لِذَلِكَ فَإنَّ اللّهَ (يُخْـرِجُ الـحَـيَّ مِـنَ الـمَـيِّتِ وَيُخْرِجُ الـمَـيِّـتَ مِـنَ الـحَـيِّ وَيُحْـيِي الأَرْضَ بَعْـدَ مَـوْتِهَـا وَكَـذَلِـكَ تُخْـرَجُـونَ) [ الروم 19 ] لِلدلاَلَةِ عَلى أنَّ هَذا الأَمْرَ يَخُصُّ يَوْمَ القِيَامَةِ فَقَطْ: (تُخْـرِجُ الـحَـيَّ مِـنَ الـمَـيِّتِ وَتُخْـرِجُ الـمَـيِّتَ مِـنَ الـحَـيِّ) [ آل عمران 27 ].

(لِــتـَسْــكُــنـوا إلَـيْهَـا) [الروم 21]:

إنَّ حَنينَ الذَّكَرِ للأنْثى، مِنْ أجْلِ أنْ يَسـْكُنَ إلَيْها: (خَـلَـق َ لَـكُـمْ مِـنْ أنْـفُـسِـكُـمْ أزْواجَـاً لِــتـَسْــكُــنـوا إلَـيْهَـا) [ الروم 21 ]، إذْ لاَ يُوجَدُ بالفِطْرَةِ الإنْسَـانيّةِ، حَنينٌ وَرَغْبَةُ لَـذَّةٍ بَيْنَ أبْناءِ الجِنْسِ الواحِدِ، لِذَلِكَ كَانَتْ اللذَّةُ بَيْنَ أبْنَـاءِ الجنْسِ الواحِدِ اِبْتِـكاراً شَـاذّاً عِنْدَ قَوْمِ لُوط: ( وَ لُـوطَـاً إذْ قَـالَ لِـقَـوْمِـهِ أَتَأْتُونَ الـفَـاحِـشَـةَ مَـا سَـبَقَـكُـمْ بِهَـا مِـنْ أحَـدٍ مِــنَ الـعَـالَـمـينَ أَئِـنَّكُـمْ لَـتَأْتُونَ الـرِّجَـالَ شَـهْـوَةً مِـنْ دُونِ الـنِّسَـاءِ بَلْ أَنْتُـمْ قَـوْمٌ مُـسْـرِفُون) [ الأعراف 80 / 81 ] .

(الـبَـرْقَ خـوفاً و طـمعـاً)[ الروم 24 ]:

إنَّ السُّؤَالَ الذي يَطْرَحُ نَفْسَهُ بِقُوَّةٍ هُوَ: لِمَاذَا تَكُونُ الغُيومُ مَشْحُونَةً بِشُـحْنَةٍ سَـالِبَةٍ مِنَ الأَسْفَلِ وَشُـحْنَةٍ مُوجِبَـةٍ مِنَ الأَعْلى؟ وَلَوْ كَانَ العَكْسُ لَمَـا حَصَلَتِ الصًـواعِقُ وَالبَـرْقُ نَحْوَ الأَرْضِ، وَالسَبَبُ الذي اقْتَضَتْهُ المَشيئَةُ الإلهِيَّةُ، هُوَ أنَّ طَبَقَةَ [الأَيُونُوسْـفير] الجَويَّـة، شُحْنَتُهَا الكَهْربائِيَّةُ سَـالِبَةٌ، فَعنْدَمَا تَتَشَكَّلُ الغُيُومُ أَسْفَلَ هَذِهِ الطَّبَقَةِ [طَبَقَةِ التروبوسْفير ذَاتُ التَقَلُّبَاتِ الجَوِيَّةِ]، تَتَكَهْرَبُ بالتَأْثيرِ عَكْسَ الشُّحْنَةِ، مِمَّا يَقْتَضي أَنْ تَكُونَ ذَات شُـحْنَةٍ مُوجِبَةٍ مِنَ الأَعْلى وَسَـالِبَةٍ مِنَ الأَسْفَلِ، فَيَحْدُثُ البَرْقُ السَالِبُ وَالصَّواعِقُ نَحْوَ الأرْضِ: (وَ يُرْسِـلُ الـصَّـواعِـقَ فَيُصِـيْبُ بِهَـا مَـنْ يَشَـاءُ)[ الرعد 13 ] .

يُوجَدُ فَوْقَ سَطْحِ أَيِّ مَادَّةٍ سَحَابَةٌ إلكِترونيَّةٌ، وَتَكُونُ الإلِكِتروناتُ ذَاتُ طَاقَةٍ حَرَكيَّةٍ حَراريَّةٍ عالِيَة تُسَمَّى [الإصْدارُ الحَراريّ الإلِكِتْرونيِّ]، وَتَحْتَوي الغُيُومُ عَلى قَطَراتِ مَاءٍ وَبَلُّوراتٍ جَليدِيَّةٍ، وَيَكُونُ المَاءُ وَالجَليدُ في حَالَةِ تَمَاسٍ، فَتَنْتَقِلُ الإلِكِتْروناتُ مِنْ أَحَدِهِمَا إلى الآخَرِ، وَلِذَلِكَ تَتَكَهْرَبُ الغَيْمَـةُ، وَالقَطَراتُ السَاقِطَةُ دَاخِلَ الغَيْمَة تَزْدَادُ كَهْربائِيَّتُهَا السَالِبَة، كَمَا أَنَّ تَجَمُّد الجِزْء العُلْويِّ مِنَ الغَيْمَةِ يُسْهِمُ بِشَكْلٍ أَسَاسِيٍّ بِكَهْرَبَتِهَا، عِلْمَاً أنَّ أكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ عَملِيَّاتٍ ميكانيكِيَّةٍ تَحْدُثُ دَاخِلَ الغُيُومُ لِتُوَزِّعَ الشُحْنَات.

البَـرْقُ الشَـريطيّ [الخَطِّـيّ] :

هُوَ مَجْمُوعَـةُ نَبَضَاتٍ كَهْرُبائِيَّـةٍ، تَجْري تِبَـاعَاً خَلْفَ بَعْضِهَا، وتُكَوِّنُ في النِهَايَةِ شَرارَةَ التَفْريغِ الكَهْرَبَائِيِّ، وَيَسْري هَذَا النَوْعُ مِنَ البَرْقِ الشَريطِيّ عَبْرَ قَنَاةٍ بِـلازْمِيَّةٍ مَلِيْئَةٍ بَإلِكِتْرونَاتٍ وَشَوارِدَ كَهْرُبائِيَّةٍ حُرَّةٍ، وَتُدْعى هَذِهِ القَنَـاةُ الدَلِيـْلَ المُتَدَرِّجِ [لأنَّهُ يَتَشَكَّلُ عَلى دُفَعَاتٍ] وَتَتَشَكَّلُ بالطَريقَةِ الفِيزْيَائِيَّةِ التَالِيَةِ:

تَبْلُغُ سُرْعَةُ الدَليلِ نَحْوَ الأَرْضِ 000 10 كم / ثانيَة، وَ تَبْلُغُ فَتْرَةُ التَوَقُّفِ 50 / 000 000 1 [ 50 ميكرو ثانيَة ]، وَيَسْتَغْرِقُ زَمَنُ وُصولِهِ إلى الأَرْضِ 20 / 1000 ثانية [20 ميلي ثانية ]، وَبَعْدَ أنْ يَصِلَ الأَرْضَ تُصْبِحُ [الدَارَةُ الكَهْربائِيَّةُ مُغْلَقَةً ]، عِنْدَهَا يَسْـري التَيَّـارُ الكَهْرُبائِيِّ عَلى شَكْلِ نَبْضَـةٍ تَسْتَغْرِقُ حَوالي 1 / 10 ميلي ثانيَة، وَبِشِـدَّةٍ حَوالي 000 100 آمبير، وَطَاقَـةٍ حَوالي 000 000 1000 جول، وَدَرَجَةِ حَرارَةٍ حوالي 1000 مئويّة، فَيَنْشَأُ ضَوْءُ البَرْقِ السَاطِعِ: (يَكَادُ سَـنَا بَرْقِه يَذْهَـبُ بِالأَبْصَـارِ) [ النور 43 ]، وَيَتمُّ تَفْريغُ عِدَّةِ نَبَضَاتٍ خِلاَلَ أَجْزاءٍ مِنَ الثَانِيَةِ، تَبْدو كَأنَّهَا نَبْضَةٌ واحِدَةٌ، يَتْبَعُهَا هَـزيْمُ الرَعْدِ نَتِيْجَةَ تَمَدُّدِ الغَازِ الفُجَائِيِّ وَالحَادّ: (وَيُسَـبِّحُ الـرَّعْـدُ بِحَـمْـدِهِ) [ الرعد 13 ]، وَييَبْلُغُ طُـولُ البَرْقِ الخَـطيِّ عِدَّةَ كيلومِتْراتٍ، وَيُقَدَّرُ فَرْقُ الكُمُونِ بَيْنَ الغُيُومِ وَالأَرْضِ 000 000 1000 فولط، وَقُطْرُ القَناةِ البِلازْمِيَّةِ = 1 سم فقط.

[المطـر، والغـيث ]:

المَطَـرُ : للشَـرِّ وَالعِقَـابِ، بينمـا الغَـيْثُ للرَحْمَـةِ وَالخَيْـرِ: (وَأَمْـطَـرْنَا عَـلَـيْهِـمْ مَـطَـراً فَانْظُـرْ كَـيْفَ كَـانَ عَـاقِبَةُ الـمُـجْـرمِـينَ) [ الأعراف 84 ]، (وَأَمْـطَـرْنَا عَـلَـيْهِـمْ مَـطَـراً فَسـَاءَ مَـطَـرُ الـمُـنْذَرينَ) [ الشعراء 173 ] [النمل 58 ]، (وَإنْ كَـانَ بِكُـمْ أَذَىً مِـنْ مَـطَـرٍ) [ النساء 102 ]، (وَلَـقَدْ أَتَوْا عَـلـى الـقَرْيَةِ الـتي أُمْـطـرَتْ مَـطَـرَ الـسوءِ) [ الفرقان 40 ]، (وَأَمْـطَـرْنَا عَـلَـيْهِـمْ حِـجَـارَةً مِـنْ سِـجِّـيلٍ) [ الحجر 74 ][ هود 82 ]، أمّا [الغيث] فهو للرحمة: (وَ هُـوَ الـذي يُنَزِّلُ الـغَـيْثَ مِـنْ بَعْـدِ مَـا قَـنَطُـوا وَيَنْشُـرُ رَحْـمَـتَهُ) [ الشورى 28 ]، (ثُمَّ يَأْتي مِـنْ بَعْـدِ ذَلِـكَ عَـامٌ فيهِ يُغَـاثُ الـنَاسُ وَفيهِ يَعْـصِـرونَ) [ يوسف 48 ]، (إنَّ اللّـهَ عِـنْدَهُ عِـلْـمُ الـسَاعَـةِ وَيُنَزِّلُ الـغَـيْثَ) [ لقمان 34 ]، (كَـمَثَلِ غَـيْثٍ أعْـجَـبَ الـكُـفَّارَ نَبَاتُهُ) [ الحديد 20 ]، الـكُـفَّار هُنَا: المُزارعون وَالفلاَّحُونَ، لأنَّهُمْ يَغَطُّـونَ الأرْضَ بالنَّباتِ وَالمَزروعَاتِ.

(رَبَّـنَا أَبْصَـرْنا وَسَـمِـعْـنَا) [ السجدة 12 ] :

في جميع آيات القرآن الكريم يأتي ذكْر [السمع] قبل [البصر]، مـا عدا ثلاث حالات جَـاءَ ذِكْـرُ البَصَـرِ قَبْلَ السَـمْعِ وهي:

أولاً : عِنْدَ ذِكْرِ الحَواسِّ بالتسَلسُلِ مِنَ الأمَـامِ إلى الخَلْفِ بالنسْبةِ لجِسْمِ الإنْسـَانِ : (لَـهُـمْ قُـلُـوبٌ لاَ يَفـْقَـهُـونَ بِهَـا وَلَـهُـمْ أَعْـيُـنٌ لاَ يُبْصِـرونَ بِهَـا وَلَـهُـمْ آذانٌ لاَ يَسْـمَعُـونَ بِهَـا) [ الأعراف 179]، (أمْ لَـهُـمْ أَعْــيُنٌ يُبْصِـرونَ بِهَـا أَمْ لَـهُـمْ آذانٌ يَسْـمَـعُـونَ بِهَـا) [ الأعراف195 ] .

ثانياً: عِنْدَ المُقَارَنَةِ: (مَـثَلُ الـفَـريقَيْنِ كَــالأَعْـمَـى وَالأَصَـمِّ وَالـبَصِـيرِ وَالـسَـمـيعِ) [ هود 24 ] .

ثَالِثَاً: يومَ القيامَـةِ عِندما تظْهَرُ الحقَائِقُ وَتصبحُ مُشـَاهَدة: (رَبَّـنَا أَبْصَـرْنا وَسَمِعْـنَا) [ السجدة 12 ] .

 

كـل هـذا واللـه أعلـم.

Email