التعريف والتنكير في القرآن

ت + ت - الحجم الطبيعي

أخبرنا الله عزَّ وجل في سورة النمل أنَّ سليمان عليه الصلاة والسلام تفقَّد الطير فلم يجد الهدهد، فتوعَّده بالعذاب الشديد أو الذبح ما لم يأته الهدهد بعذر يبين سبب تخلفه. فجاءه الهدهد وأخبره عمَّا شاهده في مملكة سبأ، وعن ملكتهم وعرشِها العظيم، كما أخبره عن تزين الشيطان لهم وأمره إياهم بالسجود للشمس من دون الله عزَّ وجل، كل ذلك جاء في قوله تعالى حكاية عن الهدهد «إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدَّهم عن السبيل فهم لا يهتدون» «النمل 23-24».

وتعجب الهدهد من صنيعهم، فكيف يسجدون للشمس ويتركون السجود لله عزَّ وجل الذي يخرج المخبَّأ في السماء من الأمطار وغيرها، ويخرج المخبَّأ في الأرض من النباتات وغيرها مما لا يعلمه إلا الله. ثم ختم الهدهد كلامه مع سليمان عليه السلام بتوحيد الله تعالى وتعظيمه فقال «الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم» «النمل 26».

عرش بلقيس

ونلاحظ هنا أنَّ الهدهد وصف عرش بلقيس بالعظمة، ووصف عرش الله عزَّ وجل بالعظمة أيضاً، إلا أنَّ التعبير عن عرشها جاء بالتنكير «ولها عرشٌ عظيم». أمَّا التعبير عن عرش الله عزَّ وجل فقد جاء بالتعريف «ربُّ العرش العظيم» فتعريف عرش الله عزَّ وجل دليل على كماله، وتنكير عرش بلقيس دليل على نقصانه. والتعريف معناه جعل الاسم معرفة، والمعرفة هي ما دلَّ على معين من أفراد جنسه مثل (أنت – خالد – الرجل – وهذا - شقيقي)، والتنكير هو جعل الاسم نكرة، والنكرة اسم يدلُّ على شيء غير معين، أو على شائع في أفراد جنسه مثل (رجلٌ – بيتٌ).

وهذه الظاهرة – أعني التعريف والتنكير- تخضع لمقتضيات السياق، وهذا يعني أنَّ أحدهما ليس أولى من الآخر، بل كل واحد منهما أولى من الآخر حسب ما يقتضيه السياق والمعنى، وفي هذا يقول الزملكاني: (قد يظنُّ البعض أنَّ المعرفة أَجلَى، فهي من النكرة أولى، ويخفى عليه أنَّ الإبهام في مواطنَ خليق، وأنَّ سلوك الإيضاح ليس بسلوك الطريق..).

أمثلة قرآنية

وسنحاول أن نوضِّح بعض مقتضيات التعريف والتنكير التي ذكرها العلماء من خلال استعراض بعض الأمثلة القرآنية التي جاءت فيها الكلمات إما منكرة أو معرفة حسب ما يقتضيه الحال.

المثال الأول قوله تعالى «فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه..» «الأعراف 131». ونلاحظ في هذه الآية الكريمة مجيء لفظ «الحسنة» معرَّفاً بالألف واللام، ومجيء لفظ «سيئة» منكراً، فما السرَّ في هذا التمايز بين اللفظين؟!

الجواب هو أنَّ الآية تُخبِر عن حال فرعون وملئه مع نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، وتبين مدى عنادهم رغم كثرة الحسنات والخيرات التي تأتيهم، وقلة السيئات والمصائب التي تصيبهم ابتلاء من ربهم. لذا جاء لفظ الحسنة معرفاً للدلالة على كثرة وقوعها وتحققها وعظمها لدرجة أنهم باتوا يعرفونها ولا يستطيعون إنكارها، إلا أنهم ينسبونها لأنفسهم ويعتبرونها حقاً من حقوقهم. وفي المقابل جاء لفظ السيئة منكراً للدلالة على ندرة وقوعها عليهم، ولأنها غير مألوفة لهم، وكذا لتدل على أنهم يطيرون بأي شيء يصيبهم ولو كان صغيراً، فهم يتطيرون بموسى ومن معه من المؤمنين مهما قلَّ حجمها وقلَّ ضررها عليهم.

المثال الثاني: قوله تعالى «ولتجدنهم أحرص الناس على حياة» «البقرة 96».

نلاحظ في هذه الآية أنَّ لفظ «حياة» جاء منكراً، ومن الممكن في غير هذا المقام أن يأتيَ معرفاً، فما السر البلاغي في تنكير هذه الكلمة؟!

إجابة الجرجاني

نترك الإجابة عن هذا التساؤل للجرجاني، فقد قال في كتابه دلائل الإعجاز: (إذا أنت راجعت نفسك وأذكيت حسك وجدت لهذا التنكير حسناً وروعة ولطفَ موقعٍ لا يُقَادَر قدره، وتجدك تعدم ذلك مع التعريف، وتخرج من الأريحية والأنس إلى خلافهما. والسبب في ذلك أنَّ المعنى على الازدياد من الحياة لا الحياة من أصلها، وذلك لا يحرص عليه إلا الحي، فأما العادم للحياة فلا يصح منه الحرص على الحياة ولا على غيرها، وإذا كان كذلك صار كأنَّه قيل: ولتجدنهم أحرص الناس ولو عاشوا ما عاشوا).

فهم حريصون على حياتهم بأي شكل من الأشكال، ويتمنون الرجوع إلى الدنيا بأي حال. ولو قيل: ولتجدنهم أحرص الناس على الحياة، لاقتضى ذلك أنَّهم أحياء وهم حريصون على استمرار هذه الحياة التي يعيشونها لا على أي حياة.

ومن هذه الأمثلة نعلم أنَّ التعريف والتنكير ضرب من ضروب البلاغة التي تراعي مقتضيات السياق، وهذا ما أكده جلال الدين القزويني في كتابه الإيضاح في علوم البلاغة حيث قال: (وأمَّا بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته، ومقتضى الحال مختلف، فإنَّ مقامات الكلام متفاوتة، فمقام التنكير يباين مقام التعريف، ومقام الإطلاق يباين مقام التقيد...).

والمقصود من ذكر هذه الأمثلة، ومناقشة هذا الموضوع هو استثارة الذهن حول هذا المعنى البلاغي الدقيق، والدعوة إلى الاستفادة منه، واعتباره مفتاحاً جديداً من مفاتيح التدبر التي أشرنا إليها في هذه السلسلة من المقالات.

Email