إيجاز القصر والحذف في كلام الله

1

ت + ت - الحجم الطبيعي

صُحَار العبدي -رضي الله عنه- صحابي جليل، كان خطيباً مفوهاً، وبليغاً لَسِناً، عاش صدراً من خلافة معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- ولازمه مدة، وبينهما محاورات تدلُّ على ما كان يتمتع به من فصاحة اللسان، ومن ذلك أنَّ معاوية سأله يوماً فقال: ما هذه البلاغة فيكم؟ قال: شيء تجيش به صدورنا فنقذفه على ألسنتنا، فقال له: ما تعدُّون البلاغة فيكم؟ قال صُحار: الإيجاز، قال له معاوية: ما الإيجاز؟ قال صحار: أن تـجيب فلا تبطئ وتصيب فلا تخطئ، فقال معاوية: أوَ كذلك تقول يا صحار، قال صحار: عذراً يا أمير المؤمنين، الإيجاز أن لا تبطئ ولا تخطئ، فتكلَّم بأوجز مما قال أولاً.

والإيجاز عند أهل اللغة نوعان، الأول: إيجاز القصر، وهو تضمين العبارات القصيرة معانِـيَ كثيرة من غير حذف. وسمي بذلك لعدم وجود الحذف في الكلام. ومن أمثلة هذا النوع قول الله تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) (البقرة: 179)، فهذه الآية رغم قلة حروفها إلا أنها تضمنت معاني كثيرة، فالقصاص لفظ يشمل الضرب والجرح والقتل، وبلفظ القصاص خرج القتل الخطأ وشبهه والدفاع عن النفس الذي لا يعاقب فاعله بالقتل.

كما أن لفظ الحياة جاء مُنَكراً ليشمل المتطلع للاعتداء، لأنه إذا علم أن العاقبة هي القصاص ارتدع، فيكون سبباً في حياة نفسين. كما أن في القصاص حياة للجماعة لأنهم كانوا يقتلون الجماعة بالواحد، ويظل الثأر مستمراً بينهم، فإذا اقـــتُص من القاتل سلم الباقون، فيكون ذلك سبباً في حياتهم. كما أن تنكير الحياة يتضمن دخول الحياة الآخرة بناءً على أن القاتل إذا اقتص منه لم يؤاخذ بحق المقتول في الآخرة.

وفي تخصيص أصحاب العقول بالنداء في قول الله تعالى: (يا أولي الألباب) إشارة إلى أنهم هم المستفيدون من القصاص وآثاره دون غيرهم، وفيه إشارة إلى أن الحكم مخصوص بالبالغين دون الصبيان. وختمت الآية بقوله تعالى: (لعلكم تتقون) أي تتقون ربكم باجتناب معاصيه، أو تتقون الاعتداء خوفاً من القصاص. كلُّ هذه المعاني تضمنتها هذه الكلمات القليلة.

أما النوع الثاني فهو إيجاز الحذف، ويكون بحذف كلمة أو جملة أو أكثر من جملة مع وجود قرينة تعين المحذوف.

ومن أمثلة حذف الكلمة قوله تعالى: (واسأل القرية التي كنَّا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون) (يوسف82)، أي اسأل أهل القرية التي كنَّا فيها، وأصحاب العير التي أقبلنا فيها، وقولهم إنا لصادقون أي فيما أخبرناك. قال الفخر الرازي في تفسيره: (إن الأمر إذا ظهر ظُهوراً تاماً كاملاً فقد يقال فيه، سل الماء والأرض وجميع الأشياء عنه، والمراد أنه بلغ في الظهور إلى الغاية التي ما بقي للشك فيها مجال) انتهى كلامه. كما أن قولهم (وإنا لصادقون) أبلغ من قولهم: وإنا لصادقون فيما أخبرناك، لأنهم بذلك وصفوا أنفسهم بالصدق في كل الأحوال لا في هذه الحادثة بالذات.

ومن الأمثلة أيضاً قوله تعالى: (وأنعام حرمت ظهورها). أي حُرموا ركوب ظهورها أو التحميل عليها، لذا كان ترك الذكر أفصح من الذكر، لأنه يشمل كل أنواع الانتفاع بظهور تلك الأنعام. وقد أشاد العلماء بفن الحذف في الإيجاز كثيراً، وأرى أن من المناسب أن نختم المقال بما ذكره ابن الأثير - في كتابه «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر»-: (أما الإيجاز بالحذف فإنه عجيب الأمر شبيه بالسحر، وذاك أنك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيدَ للإفادة، وتجدك أنْطَقَ ما تكون إذا لم تَنطِقْ، وأتَـمَّ ما تكون مبيناً إذا لم تُبِنْ). انتهى كلامه.

Email