التهكم.. ظاهره المدح وباطنه القدح

ت + ت - الحجم الطبيعي

من كلام الخالق عز وجل وبلاغة قوله في الذكر الحكيم؛ القرآن الكريم، نغوص في تفاصيل الحروف ونبحر في كمال المعاني، لنرسم لقرائنا الأعزاء أجمل الصور الكتابية على هيئة أسرار ربانية بديعة. هذه الأسرار التي نستشفها من آيات قرآنية، تجسد بجمال تعابيرها واكتمال معانيها، كل ما لا يستطيعه بشر ولا يقوى عليه مخلوق. فيها تجد الكلمة الأوفى والصورة الأنقى والإعجاز الأبقى، فيها أيضاً القول الفصل لكلام الخالق ذي الكمال، فليس أبلغ من كلام الله عز وجل قولاً. هو أصدق الحديث كلاً وجزءاً، وهو أوفى فاتحة وأكمل خاتمة، إنه القرآن الكريم الكتاب المحفوظ الذي لا ينقص تلاوة وإبحاراً واستزادة في العلم والنور؛ ولقارئه السرور.

»بديع الأسرار« محطة رمضانية ارتضيناها لكم من أنوارنا »أنوار رمضان«، لنمتع العقول ونقنع القلوب، بكلمات ربانية تتجلى فيها كل المسميات الحصرية؛ فيها الجمال والكمال والمثال، والإيحاء والوفاء والبناء؛ والتمام ختام.

إذا ذكر الذَّم ذكر الحطيئة، أبو مُلَيْكة جرول بن أوس بن مالك العبسي، شاعرٌ مخضرم ولد في بني عبس من أَمَةٍ اسمها »الضراء«، دَعِيٌّ لا يُعرَف له نسب، شب محروماً مظلوماً، لا يجد مدداً من أهله ولا سنداً من قومه، فاضطر إلى قرض الشعر يجلب به القوت، ويدفع به العدوان، وينتقم به لنفسه. ولعل هذا هو السبب في شدة هجائه للناس، فلم يكد يسلم أحدٌ من لسانه، فقد هجا أمه وأباه، بل وهجا نفسه.

ومن هجائه ما قاله في الزبرقان بن بدر:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي وظاهر هذه الأبيات المدح، إلا أنَّه مدح يراد به الذم، لأن الأصل في الرجل أن يسعى إلى المكارم ويرحلَ في طلبها، وألا يكون كالنساء، يُطعَم ويُكسَى. وقد فَطِن الزبرقان لهذا الهجاء، فشكاه إلى عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ ، فقال عمر: ما في هذا هجاء! إنما هي معاتبة، فقال: يا أمير المؤمنين إنَّه عراني عمَّا ابتنيته من المعالي، فدعا عمر حساناً وسأله عن ذلك، فقال: ما هجاه ولكن سلح عليه. والسَلَحُ هو ما يخرج من البطن من فضلات، ويَغلِب على المائع منه.

ومقصدنا من إيرادنا هذه القصة أن نبين هذه الظاهرة البلاغية، وهي إيراد الكلام الذي ظاهره المدح، ولكنَّ المقصود منه الذم.

ومن أغراضه في القرآن الكريم التهكم، وهو أن يُؤتى بألفاظ ظاهرها المدح وباطنها القدح، وذلك مثل قوله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم) (الدخان: 43-49). فهذا المقام ليس مقام عزة وتكريم، بل هو مقام ذلٍّ وتهوين، إذاً فقوله تعالى:

(إنك أنت العزيز الكريم) مدحٌ يراد به التهكم بمن كان يتعزز ويتكرم على قومه. وجاء في سورة هود مثل هذا في قوله تعالى: (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد) (هود: 87) ولا شك أنَّ أهل مدين لم يقصدوا بقولهم: (إنك لأنت الحليم الرشيد) مدحَ نبيهم، بل أرادوا التهكم والازدراء.

ومن أغراضه أيضاً الاستهزاء، وهو الإتيان بلفظ البشارة في موضع النذارة، كقوله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً) (النساء: 138)، فَوَضعُ (بشر) في موضع (أنذر) فيه استهزاء بهؤلاء المنافقين.

وهناك نوع آخر - ذكره غير واحد من العلماء، منهم السيوطي في كتابه »الإتقان في علوم القرآن« - يسمونه تأكيد المدح بما يشبه الذم. ومعناه كما ذكره بدر الدين بن مالك: (أن تنفي عن الممدوح وصفاً معيباً ثم تعقبه بالاستثناء، فتُوهِم أنَّك ستثبت له ما يُذم به، وتأتي بما من شأنه أن يُذم به وفيه المبالغة في المدح). ومثلوا له بقول النابغة الذبياني:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بِـهِنَّ فُلولٌ من قراع الكتائب

ونلاحظ هنا أنَّ الشاعر مدح القوم بقوله: لا عيب فيها، ثُـمَّ جاء بأداة الاستثناء التي يلزم منها ذكر شيء من عيوبهم، وجاء فعلاً بما من شأنه الذم، وذلك بقوله في حق تلك السيوف: (بهن فلول) والفلول هي الكسور في حد السيف، ولكن هذا وإن كان عيباً أصاب السيف، إلا أنَّ الشاعر أراد مدحهم بكثرة خوضهم للمعارك، وهذا يقتضي الشجاعة والإقدام.

وهذا النوع من المدح يتضمن عنصر المفاجأة، لأن السامع يتوقع وقع الذم بعد المدح، لما ألفه من كون الاستثناء يقتضي المغايرة بين المستثنى والمستثنى منه، فإذا به يتفاجأ بأن الطرفين متشابهان على غير المألوف لدى السامع.

وقد جاء هذا النوع في القرآن في قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منَّا إلا أن آمنا بالله وما أُنزِل إلينا وما أُنزِل من قبل وأنَّ أكثركم فاسقون) (المائدة: 59). ونلاحظ هنا أن صدر الآية فيه استفهام إنكاري غرضه التوبيخ والإنكار لصنيعهم، لأنهم عابوا على المؤمنين إيمانهم بالله وما أُنزِل عليهم وعلى الذين من قبلهم من كتاب، ثُـمَّ جاء الاستثناء الذي يُوهِم السامع بأن يأتي بعده ما يوجب أن يُنقَم على فاعله مما يُذم به، ولكنْ لما أتى بعد الاستثناء ما يوجب مدح فاعله وهو الإيمان بالله وما أُنزِل من كتاب، كان الكلام متضمناً المدح بما يشبه الذم.

ومثله قوله تعالى: (وما تنقم منَّا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين) (الأعراف: 126)، وهذه الآية تحكي ما قاله سحرة فرعون لما رأوا معجزة موسى ــ عليه السلام ــ ، فقالوا: وهل تعيب علينا من شيء؟! ثم جاءت أداة الاستثناء التي توهم أنهم فعلوا شيئاً يستحقون عليه الذم والنقمة، ولكن المفاجأة أنهم قالوا لفرعون: إنك تعيب علينا ما لا يُعاب، وهو الإيمان بالآيات البينات لما جاءتنا، وهذا ليس بعيب، بل هو أصل المناقب والمفاخر.

والآيات في هذا المعنى كثيرة، ومنها قوله تعالى: (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله..) (الحج: 40) وهنا وُصِف المهاجرون بأنهم أُخرِجوا من ديارهم بغير وجه حق، وجاء الاستثناء الذي يشعر أن الآية ستذكر وجهاً يستحقون به الإخراج، ولكنَّهم وصفوا بأنهم إنما أخرجوا لأنهم قالوا: (ربنا الله) وهذا مدح على مدح.

لا شك أن للمدح والذم أسباباً كثيرة، فقد يَـمدَح المرء أو يَذم من يستحق ومن لا يستحق، وقد يَـمدَح المرء أو يَذم من يرجو نواله أو يخشى عقابه. ولكنْ من الضروري أن نعلم أنَّ مدح الناس أو ذمهم لا يضر ولا ينفع، إنما من مدحه الله فهو الممدوح ومن ذمه الله فهو المذموم، وفي الحديث أنَّ رجلاً قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إنَّ حمدي زين، وإنَّ ذمي شين، فقال عليه الصلاة والسلام: (ذاك هو الله).

 

Email