"المائدة".. رزق الحواريين ومعجزة عيسى

ت + ت - الحجم الطبيعي

 

في عجالة من التأمل لقصة المائدة التي طلبها حواريو عيسى عليه السلام، نرى مدى عظمة أصحاب رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، هؤلاء القوم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقوه وحملوا هذا الدين يقيناً في قلوبهم وتبليغاً على ألسنتهم إلى أن صدحت الدنيا بنداء الحق، ودانت أقاصيها بدين الإسلام.

ما أعظمهم من أصحاب.. لم يطلبوا منه خارقة واحدة بعد إسلامهم، بل خالطت قلوبَهم بشاشةُ الإيمان وصدقوا رسول الله وفدوا هذا الدين بالمهج، وآمنوا برسالة الإسلام دون أن يروا منه آية إلا القرآن الكريم.

المائدة هي اسم للطعام الذي أنزل على حواريي عيسى عليه الصلاة والسلام، ذكرها سبحانه وتعالى في قوله: (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) المائدة: 112، قال صاحب التحرير والتنوير: «المائدة اسم الطعام وإن لم يكن في وعاء ولا على خوان، وجزم بذلك بعض المحققين، ولعله مجاز مرسل بعلاقة المحل.. واسم السفرة غلب إطلاقه على وعاء من أديم مستدير، وسميت سفرة لأنها يتخذها المسافر».

والعلة في طلب الحواريين لهذه المائدة مذكورة في قوله تعالى (قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلمَ أن قد صدقتنا ونكونَ عليها من الشاهدين) المائدة: 113. فكان طلبهم لها زيادة في البرهان على صدق عيسى عليه السلام في دعوته.

روى الترمذي عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً».

ولسائل أن يسأل أليس قولهم (هل يستطيع ربك) شكاً منهم في قدرة الله تعالى؟ مع أنه قال قبل آية (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون).

قال العلامة ابن عاشور في التحرير والتنوير: «وجرى قوله تعالى (هل يستطيع ربك) على طريقة عربية في العرض والدعاء، يقولون للمستطيع لأمر: هل تستطيع كذا؟ على معنى تطلّب العذر له إن لم يجبك إلى مطلوبك، وأن السائل لا يحب أن يكلف المسؤول ما يشق عليه، وذلك كناية، فلم يبق منظوراً فيه إلى صريح المعنى المقتضى أنه يشك في استطاعة المسؤول، وإنما يقول ذلك الأدنى للأعلى منه، ومنه ما جاء في حديث يحيى المازني أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضأ؟ فإن السائل يعلم أن عبد الله لا يشق عليه ذلك، فليس قول الحواريين المحكي بهذا اللفظ في القرآن إلا لفظاً من لغتهم يدل على التلطف والتأدب في السؤال».

دعاء وخطاب

2شتان بين مستوى الخطاب الذي كان عليه الحواريون ومستوى الدعاء الذي لهج به نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام، وذلك في النواحي التالية:

- أما هم فقالوا: هل يستطيع ربك، فبدأوا باسم الربوبية (ربك)، والربوبية تعني التربية، وأما عيسى فبدأ بقوله: (اللهم ربنا)، والفرق بين الصفتين أن الأولى يلحظ فيها معنى النفعية بالتربية، وأما الألوهية فتتمثل فيها العبودية الخالصة لله تعالى لأنه إله يستحق العبادة.

- ذكر الحواريون علة طلبهم المائدة بقولهم (نريد أن نأكل منها) فابتدأوا بالهدف النفعي أولاً، وهو الأكل، وعيسى بدأه بقوله: (تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك) أي تكون آية باهرة دالة على عظمتك يا رب، نعود بهذه الآية إليك، ونقبل عليك، فبدأ بالهدف التعبدي، ثم قال (وارزقنا وأنت خير الرازقين).

قال الرازي في مفاتيح الغيب: «تأمل في هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضاً، فقدموا ذكر الأكل فقالوا (نريد أن نأكل منها) وأخّروا الأغراض الدينية الروحانية، فأما عيسى فإنه لما طلب المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخّر غرض الأكل.. ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء دينه وإشراق روحه لما ذكر الرزق بقوله (وَٱرْزُقْنَا) لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرازق فقال (وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ)».

بهذا النداء الذي انطلق به لسان عيسى عليه الصلاة والسلام، يظهر لنا بجلاء فضل الاصطفاء الذي خص الله به أنبياءه ورسله من بين الخلق، فهم خيرة العباد العارفون بالله، إن نطقوا كان كلامهم حكمة، وإن سكتوا كان سكوتهم فكرة، ولهذا اصطفاهم الله تعالى منذرين مبلغين، ينيرون للخلق حياتهم بالإيمان الذي إذا خالطت بشاشته قلوبهم نالوا سعادة الدنيا والآخرة.

Email