الفرق بين الحجرات والغُرف

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحجرات جمع حُجرة، بضم الحاء وسكون الجيم، وهي البقعة المحجورة، أي التي منعت من أن يستعملها غير حاجرها، وبها سميت سورة الحجرات، وهي حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تفتح إلى المسجد.

وأما الغرف فجمع غرفة، قال الراغب في الأصفهاني في المفردات (360): «والغُرفة: عُلِّيَّةٌ من البناء، وسميت منازل الجنة غرفاً».

وقال البغوي في تفسيره (6/100): «والغرفة: كل بناء مرتفع عال».

وقال ابن عاشور في تفسيره (19/84): «والغرفة: البيت المعتلي يصعد إليه بدرج، وهو أعز منزلاً من البيت الأرضي».

وبذلك يظهر الفرق بين الحجرة والغرفة، فالحجرة سميت لأنها تمنع من بداخلها، من (حجَر) أي منع. أو تحجز بين من هم بداخلها ومن هم بخارجها، وتكون في سفل، فهي سهلة الغشيان من كل أحد، وسميت بيوت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حجرات، لأنها أجزاء منه، وكانت تسعا، وكانت في سفل.

وسميت الغرفة لأن من فيها ينتخب ويختار، ليرفع إليها، وتكون في علٍ. فهي عسرة الغشيان، فلا يدخلها كل أحد. وسمى الله بها مساكن الجنان (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا) الفرقان: 75، (وهم في الغرفات آمنون) سبأ: 37.

كل آية من سورة الحجرات هي قرآن قائم بذاته. كل آية من سورة الحجرات، هي منهج حياة ونبراس يضيء للبشرية طريقها. مخزن من الآداب والفضائل في سورة نزلت على أمة الصحراء لا يسع المتمعنَ فيها إلا أن يعلم أنها أنزلت من لدن حكيم عليم.

ومع ذلك، فما زالت الاتهامات تكال للإسلام، وكأن الآذان صمت والأعين عميت عن مثل هذه السورة التي عقِمَت الأيام أن تلد للإنسانية بمثلها، والعجيب في الأمر، أنهم يتهمون الإسلام ثم هم يتخبطون في عالم مليء بالشقاء والفساد الذي ما فتئ يزداد حتى الْتَهمَ المجتمعات برذائله ونظرياته العفنة التي جرّت الناس من شقاء إلى آخر.

بكل إيجاز معجز، يقف المتأمل لهذه السورة، فيجدها تناولت، على قلة آياتها الثمانية عشرة، كل محاور العلاقات الاجتماعية، مبينة علاقة المسلم بالله تعالى، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وعلاقة المسلمين مع بعضهم أفراداً وجماعات، ومع غيرهم من المجتمعات، ومنظومة المجتمع الأخلاقية التي يقوم عليها، والرابطة الإنسانية التي تربط البشر جميعاً بأصلهم من ذكر وأنثى، والغاية السامية التي تجمع ولا تفرق، وتصلح ولا تفسد. آيات قدمت ما عجزت الحضارات الإنسانية جمعاء من تقديمه أو تقديم جزء منه على مدى التاريخ.

ليس هذا المقال بصدد تفسير سورة الحجرات، وإنما هو بقعة ضوء تسلَّط على عظم ما في هذه السورة من أركان، لعله يكون دليلاً يهتدي به القارئ إلى معرفة عظمة هذا الدين.

تناولت هذه السورة آداب المسلم مع الله تعالى ورسوله، بتحريم الافتئات على الله ورسوله، وتوقير الرسول صلى الله عليه وسلم.

وتناولت علاقة المجتمعات الإسلامية من التثبت في الأخبار، والإصلاح بين المؤمنين، وقتال البغاة. ثم علاقة المسلمين مع بعضهم في النهي عن السخرية، والنهي عن اللمز والنهي عن التنابز بالألقاب، واجتناب الظن السيئ، والنهي عن التجسس، والنهي عن الغيبة، وفضل الجهاد بالنفس والمال.

ثم بيَّنت مبادئ المساواة بين الناس جميعاً، باعتبارهم أبناء لآدم وحواء، وأن المقياس لرفعة الإنسان وشرفه، هو ميزان واحد يقوّم الله به الجميع، إنه ميزان التقوى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وبهذا، هدم كل ما رفعه البشر من ضوابط للرفعة والتكريم.

والسورة بعد عرض هذه الحقائق، تحدد معالم الإيمان الذي به دعي المؤمنون، إنه الإيمان الذي وقر في القلب، لا ما جرى على اللسان.

وفي ختام هذه المعجزة الأخلاقية الرفيعة، يبين سبحانه وتعالى قيمة المنحة الإلهية التي وهبها للبشر، التي لا تعدلها هبة، إنها نعمة الإيمان، التي يمن بها الله على من يشاء من عباده (يمنُّون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليَّ إسلامكم بل الله يمنُّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين).

ما أنظفه من مجتمع تقوم فيه هذه الأخلاق، وما أطهرهم من بشر يتحلون بمثل هذه الفضائل، ويا لها من أمة عظيمة تلك التي أنزلت عليها سورة تتلى إلى يوم القيامة، ترفع الأخلاق وتساوي بين البشر، وتغرز فيهم أن قيمتهم بارتباطهم بالعلو الأعلى. بهذه الأخلاق، أشرقت تلك الومضة الرائعة في تاريخ الإنسانية، ووُجدت هذه الحقيقة واقعاً كان معاشاً على أرض الجزيرة العربية، التي حمل أصحابها شعلة من هذا النور، وبلغوه إلى أهل الأرض لينيروا به حياتهم، وتسمو بتعاليمه أرواحهم.

Email