عبرة

محمد.. دعوة إبراهيم وبشرى عيسى 3-3

ت + ت - الحجم الطبيعي

القصة نسيج لحدث يحكي عبرة، ويوصل فكرة وقد حث القرآن عليه قال تعالى (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الأعراف: 176) وأحسن القصص ما قصه القرآن في كتابه قال تعالى (نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) (يوسف: 3) فقصص القرآن حق لا يعتريه الزيغ ولا الكذب قال تعالى (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) (آل عمران: 62) ولقد قص علينا القرآن حكاية أمم غابرة يذكرنا بحالهم ومآلهم قال تعالى (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) (طـه: 99) فذكرنا بأحوال قرى آمنت وأخرى عتت عن أمر ربها قال تعالى (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا) (الأعراف: 101) وأردف القرآن بقصص للأنبياء لا غنى للذاكرة عنها فذكرها وأعرض عن أخرى قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) وقصص الأنبياء في القرآن عبر وحكم يستنير بها الضال ويسترشد بها الحائر قال تعالى (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111) فشأن القصة تثبيت الأفئدة وعظة من حكم الزمان مع الإنسان قال تعالى (وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (هود: 120) وسوف نعيش في رحاب القرآن نسترشد بقصصه ونتعظ بعبره ونستفيد من أحكامه فننال من الله تعالى السداد والقبول.

ما إن علم الأوس والخزرج بنبوءات اليهود عن قرب موعد مجيء النبي الخاتم، ولاحت لهم بشائره، قال قائلهم: »هذا هو النبي الذي تحدثكم عنه اليهود، فلا يسبقونكم إليه، وآمنوا به صلى الله عليه وسلم، ولما سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مَكَّةَ، كَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ، يَنْتَظِرُونَ حَتَّى يُؤْذِيَهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا، ولَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ، أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ حصن- لأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ مُبَيَّضِينَ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ نَفْسَهُ أَنْ صَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ هَذَا صَاحِبُكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى سِلاَحِهِمْ، وَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَقَوْهُ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمُ الاِثْنَيْنِ لِهِلاَلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ«.

عند ذلك قَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَذَكَّرَ النَّاسَ، وَجَلَسَ صلى اللَّهِ عليه وسلم صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ رآه يَحْسِبُهُ أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى إِذَا أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى أَظَلَّ عَلَيه بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ محمداً عليه الصلاة والسلام (دلائل النبوة للبيهقي).

تأسيس الدولة

انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من فقه الدعوة في مكة، إلى فقه الدولة في المدينة، فكان لابد من تأسيس بعض الأعمال التي تقوم عليها تلك الدولة، ولعل أبرز تلك الأعمال ما يأتي:

بناء المسجد: إذ كان لابد للمسلمين من بناء مسجد ليجمعهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة الشعائر، وتعلُّم أحكام الشرع، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ نَزَلَ فِي عُلْوِها فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُ: بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَام فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.. وكَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ، ثُمَّ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلَإِ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاؤُوا، فَقَالَ : يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا؟ قَالُوا: لاَ، وَاللَّهِ لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ ، مَا هُوَ إِلاَّ إِلَى اللهِ - قَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: كَانَتْ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ وَحَرْثٌ - فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْحَرْثِ فَسُوِّيَ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَتْ، فَوَضَعُوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً، قَالَ: فَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ ذَلِكَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الآخِرَةْ فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةْ.

المؤاخاة: حيث كان المجتمع المدني خليطاً من القبائل التي تسكن يثرب من الأوس والخزرج واليهود، وغيرهم من قبائل العرب، ثم لحق بهم المهاجرون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أبرز التحديات التي واجهها عليه الصلاة والسلام في المدينة، هو الصراع القبلي بين الأوس والخزرج، فعمد إلى تأصيل مبدأ الإخاء القائم على المحبة والتعاضد، فآخى بين الأوس والخزرج وسماهم الأنصار، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار فَقَالَ -فِيمَا بَلَغَنَا، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ: تآخَوْا فِي اللَّهِ أخَوَيْن أخَوَيْن ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: هَذَا أَخِي. (السيرة النبوية لابن هشام).

الدستور القانوني: ففي الإطار التنظيمي لأية دولة لابد من تنظيم العلاقات بين أبنائها، ورعاياها، والمجتمع المدني مجتمع متعدد التوجهات، فيه من أهل الكتاب، واليهود والنصارى، ولأجل ضبط سياق التعامل بين عموم الناس، وضع النبي صلى الله عليه وسلم وثيقة تنظم العلاقات بين المسلمين وغيرهم، قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَادَعَ فِيهِ يَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ، وأقرَّهم عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَشَرَطَ لَهُمْ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ: وكان منه (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ.

تحديات المدينة

لم يرُق وجود النبي صلى الله عليه وسلم لبعض زعامات القبائل من أهل المدينة وغيرهم، فبرزت على الصعيد الداخلي مظاهر النفاق التي تولى كِبَرها عبدالله بن أبي بن سلول الذي كان على وشك أن يكون ملكاً للعرب، لكن مع مجيء رسول الله فاته ذلك المُلك، فأضمر ذلك في قلبه، وصار يوالي المسلمين في ظاهره، ويناصبهم العداء والكفر في باطنه، يقول تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة: 8/10).

كما واجه النبي صلى الله عليه وسلم عداءً من اليهود في المدينة، له ولدعوته، فناصبوا له العداء، وألبوا عليه، ونقضوا ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من عهود واتفاقات، وحاولوا الغدر به عليه الصلاة والسلام في أكثر من واقعة، لولا عناية الله تعالى، مما ترتب عليه إجلاؤهم من المدينة.

أما على الصعيد الخارجي، فكانت قريش دؤوبة في محاربته عليه الصلاة والسلام، فسلبت أموال المسلمين في مكة، وعذبت أهاليهم، مما حدا به أن يحاول استرداد بعض ما سلبوه، بالتعرض لقوافلهم، فكانت معركة بدر التي انتصر فيها المسلمون، وأوقعوا هزيمة نكراء بالمشركين، جعلت الناس من حولهم يعيدون حساباتهم في ما جرى، إلا أن المشركين في مكة لم تهدأ لهم بال حتى جيَّش لهم أبو سفيان، والتقاهم في معركة أخرى كان النصر فيها للمسلمين لولا مخالفتهم أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، وفطنة خالد بن الوليد الذي حول النصر إلى هزيمة، فانتكس المسلمون آنذاك في تلك المعركة، ثم استقر الأمر للمسلمين بعد غزوة الخندق.

الفتح الأعظم

جاء في زاد المعاد: هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحرمه الأمين، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكفار والمشركين، وهو الفتح الذي استبشر به أهل السماء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً.

خرج له صلى الله عليه وسلم بجنده بعد أن نقضت قريش عهدها في صلح الحديبية، وذلك في رمضان سنة ثمان، وفي البخاري: على رأس ثمان ونصف من مقدمه المدينة.

 وخرج منها يوم الاثنين غرة ذي القعدة من السنة السادسة ومعه زوجته أم سلمة في ألف وأربعمائة، ويقال ألف وخمسمائة، ولم يخرج معه بسلاح إلا بسلاح المسافر، السيوف في القرب. ففتح الله تعالى عليه مكة وانقادت الجزيرة للإسلام، وقد كان للعفو في صدر النبي صلى الله عليه وسلم أن عفا عمن أخرجوه وناصبوه العداء، فقال لقومه: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).

وبعدها عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، يعلم أصحابه أحكام الإسلام، ويبلغ رسالة ربه إلى الأمم الأخرى، وبقي على ذلك حتى لقي ربه في الثاني عشر من ربيع الأول في الحادي عشر للهجرة، بعد أن أرسى تعاليم السلام والرحمة، وأصَّل للمبادئ الأخلاقية القائمة على التسامح والعدل، فصلِّ اللهم عليه في الأولين، وصل عليه في الآخرين، وصلّ عليه حتى ترث الأرض ومن عليها وأنت خير الوارثين.

Email