مروة أحمد: الإسعاف قيمة إنسانية مضافة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

الإسعاف مهنة إنسانية بامتياز، مكانها مقدمة المهن والخدمات ذات الاتصال المباشر بصحة البشر وأرواحهم، لا سيما في حالات المرض، والحوادث المرورية والكوارث الطبيعية، التـي يعتبر فيها تدخل المسعفين أمراً في غاية الأهمية والضرورة، بصفتهــم نــداء الاستجابة الأول، والحلقة المفصلية والحرجة في تأمين المريض..

وتقــديم رعايــة طبية أولية سريعــة ومهنية، ولهم يدٌ في الحد من مضاعفات ومخاطر المرض أو الإصابة، بما يقلل من فرص الوفــاة أو الضرر، ويزيد مــن احتمالات التمـاثــل للعــلاج والشفــاء.

ولأن الإسعاف بهذه المرتبة الإنسانية السامية التي تستحق الاحترام والتقدير، ويطمح الكثيرون لبلوغها، ولأنها تعزز قيم الشعور بالآخرين، والإحساس بألمهم وحاجتهم، وعدم التخلف عن مساعدتهم، أو إنقاذهم مــن خطــر الموت، أصرت مروة جعفر أحمد فنية طب طوارئ في إسعاف دبي، على التخصص في هذا المجال...

وقد تخرجت من كليات التقنية لتكون إحدى ملائكة الرحمة التي تقدم الرعاية الطبية لمحتاجيها لأربعة أعوام ممتدة، وتظفــر بالأجـــر والثواب والسعادة لقاء قيامها بذلك، بالرغم من المخاطر التي تحيط بهذا العمل «الـذكــوري»، والتبعــات النفسية المتعلقة به.

ليست حكراً

عن دراستها وطبيعة عملها والأسباب التي شجعتها، على الالتحاق بهذا التخصص، قالت مروة:

لاشك أن مهنة الإسعاف لها خصوصية، وظروف عمل تختلف عن بقية التخصصات، وقد يحسبها البعض حكراً على الرجال، على اعتبار أنها تحتاج إلى مهارات ومواصفات قد لا تتوفر في غيرهم، مثل الجرأة، وعدم التأثر بالمشاهد والمشاعر الإنسانية، والشجاعة والثقة العالية بالنفس..

وعدم التردد في تقديم العلاج والأدوية اللازمة والصحيحة، إلى جانب مهارة القدرة على المناورة على الطرق، والفوز في السباق مع الدقيقة التي قد تكون سبباً في وفاة إنسان، أو إنقاذه من الموت. وهو ما تحرص عليه مروة بحكم أنها تقود سيارة الإسعاف أيضاً.

أسباب أخرى جعلتني أختار هذا التخصص، غــير إنسانيته وموقعه الاجتماعي، تضيف مروة، ليس أقلها حلمها الذي لازمها منذ الطفولة بأن تصبح طبيبة، وتفضيلها للعمل في الميدان بعيداً عن المكاتب، والتنقل بين مكان وآخر، وتنشئتها على حب الإيثار، وتقديم المعونة للآخرين، بصرف النظر عن دياناتهم، وجنسياتهم، وصلــة الــدم التي تربطها بهم.

حقيبة الإسعاف

وتقول: قد تبــدو الأسباب السابقة مقنعة للبعض، بأن تتأخر المرأة عن العمل في الخدمات الطبية والإسعاف، لكن ما زاد إصراري على التخصــص في هذا القطــاع هو قيمته الإنسانية، وحبي اللامتناهي لتقديم المساعــدة للمحتاجين، خصوصاً أولئك الذين لا يملكــون القدرة على إسعاف وإنقاذ حياتهم، والمحتاجين لأي مساعدة قد تبعــد عنهم قســوة الألم، وشبح الموت.

ليس هذا فحسب بل إن حقيبة الإسعافات الأولية، وبعض أدوات وأجهــزة التطبيب، لا تغادر مركبتها الخاصة، وتستخدمها في أوقات الطوارئ والحوادث حتى لو لم تكن على رأس عملها.

اللون الأحمر

على الضفــة الأخرى، ثمــة انعكاسات مؤلمة لهذه المهنة، على سلوك وشخصية وحياة مروة التي باتت ترى كل الألوان أحمرَ بلون الدم، من كثرة الإصابات والحوادث التي تتعامل معها بشكل يومــي..

وتقــول إنها أصبحت قلقة على مشاعرها وأحاسيسها وذكرياتها، التي أضحت مخلوطة بالدــماء والمآسي والحزن، وأمست مشاهد الموت والإصابات الخطيرة مألوفة لديها حد الروتي ن، بل وصلت إلى مرحلة غاب فيها الخوف من حياتها، حتى لو باتت ليلة كاملة إلى جانب جثة شخص.

وتضيف: في السابق كنت أتأثر بالمشاهد الدموية التي أراها أثناء العمل، وكانت ردة فعلي مختلفة عما هي عليه الآن، بل كنت أنتفض لمجرد أن أشاهد شخصاً مجروحاً بإصابة بسيطة لا تتطلب تدخل المسعف أو الطبيب.

مشاهد ودرس

أما الآن فقد أمست مشاهد الموت والدم النازف من المصابين، أمراً عادياً ومألوفاً بالنسبة لمروة جعفر التي باتت تشعر بتجمد في المشاعر تَسبّب بفقدانها جزءاً ليس هيناً من إحساسها الإنساني التقليدي، على حد تعبيرها، إلى أن وصلت إلى قناعة بأنه يجب أن تبقى إيجابية وموضوعية، وأن ما رأته أمس عليها أن تنساه اليوم، حتى لا يتوقف أمر حاضرها ومستقبلها على الأمس.

وبشأن الدرس الذي تعلمته خلال العمل تقول مروة: تعلمت من هذه المهنة أن الإنسان مهما علا وقوي وتمادى، فإنه يبقى ضعيفاً ذليلاً أمام إرادة اللــه وقــدره...

وكذا حين المرض والإصابة، فهو غير قادر على إنقاذ نفسه بنفسه، ولا علاجهـــا، أو حمايتها من الموت، وهذا أمر زاد إيماننا بالله تعالى، وجعلنــا نستشعره في كل كبيرة وصغيرة، مثلما صرنا نشعر بأن المسعف شخص مميز، يقدم خدمات عاجلة ومهمة لإنقاذ حياة البشر في ظروف لا يستطيع الآخــرون توفيرهــا أو القيام بها.

الواجب الإنساني أقوى من الظروف الاجتماعية

في الوقت الذي تخف فيه وطأة ضغط العمل في الكثير من الوظائف والمهن في رمضان، بموازاة تخفيض عدد ساعات الدوام مراعاة لأحوال الصائمين، فإن واجبات ومسؤوليــات المسعفين تتضاعف في هذا الشهر الكريم، لا سيما مع ازدياد أعداد الحوادث المرورية..

وتحديداً قبيل الإفطار، إلى جانب ازدياد حالات إسعاف المرضى الذين يؤثــر عليهــم الصيام، وزيادة الحاجة إلى بقائهم متواجدين أمام المساجد التي تقام فيها صلوات التراويح وقيام الليل. وتعقيباً على ذلك تقول مروة: دوام المسعفين في رمضان متعب جداً، وصيامهم كذلك، لأن عملهم يتطلب منهم الحركة والتنقل وأداء الواجب تحت أشعة الشمس،..

وتحت ثقــل الأزمات المرورية وما ينتج عنها من توترات ناتجة عن الصراع مع الثانية لإيصال المريض أو المصاب إلى المستشفى في أســرع وقت ممكن لاستكمال علاجه، ناهيـــك عن تألمنــا لحالة المصاب أو المريض، لكن ما يفرحنا ويصبرنا على العمل هو أننــا نخدم الناس في أيام مباركة يتضاعف فيها الأجر والثواب.

وتضيف: في هذا الشهر تجد كل الناس، أو الموظفين، أو العمال، متحلقين حول مائدة الإفطار قبيل الأذان إلا المسعفين، الذين عادة ما تشاهدهم ملتفين حول المصابين والمرضى على الطرقات وأمام البيوت، فهذه المهنة لا يهمها إن كان الوقت صباحاً أو مساءً، ولا إن اقترب موعد الإفطار أو لا، لأن ما يعنيها بالدرجة الأولى هو سلامة الناس، والحفاظ على حياتهم...

وتقديم المساعدة الطبية العاجلة لهم في كل الأوقات والأمكنة، بعيداً عن أي اعتبارات أخرى، فكم شخص توفي أو أصيب في حوادث مرورية قبل أذان المغرب، وكم مريض نقل إلى المستشفى في هذا الوقت كذلك.

ذكريات مؤلمة

مواقف إنسانيةٌ محزنة مرت بها مروة خلال مسيرة عملهــا في الإسعاف وطب الطوارئ، تسببت لها بأزمات نفسية مؤلمة، تستحضر منهــا مشهد ذلك الآسيوي المصاب، الذي فاضت روحه بين يديها بينما كانت تنقله في سيارة الإسعاف لاستكمال علاجه في المستشفى، متأثـــراً بجرح خطير تعــرض له أثناء عمله في أحد المواقع الإنشائية، ومما زاد الموقف مرارة هو أن ذلك المصاب لم يكـــن يحسن التحـــدث باللغــة العربية، ولم يتمكن من شرح ما يؤلمه لمروة التي اكتشفت بعد وفاته، أنه مات نتيجة كسر في أحد أضلاع القفص الصدري تسبب بثقب في جدار الرئة.

وتضيـف مروة في سياق حديثها عن المواقف التي خلفــت في مشاعرها عُطباً، ما انفــك يزعجها كلمــا مر على شريط ذكرياتها: الحــادث الآخر الذي لا يقل وجعاً وتأثيراً في حياتي عن الموقــف السابق، ومن الصعب أن أنساه، هو أنه بينما كنت على رأس عملي تلقيــت والطبيــب المرافــق، بلاغاً لنقل إحدى المسنات من عيادة إلى المستشفى..

وأثناء تقديم المساعدات الطبية لها في السيارة، تفاجأنا أنها وحيدة، من دون مرافــق، وغير قادرة على الحركة أو على التنفس، بل إنها ذهبت من بيتها إلى تلك العيادة بسيارة أجرة، بالرغم من أن لهــا أولاداً وبناتاً كثيرين، وما ضاعف حالة الشفقة والحزن عليها، أنها كانت جائعة جداً، وطلبــت إحضار طعــام لها، بعد أن ظلــت من دون أكــل ساعات طويلة.

 الوقت لا يسعف

ثمة أوقات للذروة والازدحام عادة ما ينتج عنها حوادث وإصابات أو وفيات، تبدأ من السادسة والنصف وحتى العاشرة صباحاً من كل يوم ومن الخامسة مساء إلى الثامنة مساء، أما في رمضان فالوضع مختلف تماماً، كما تقول مروة، إذ تنشط حركة الناس، وتبدأ الاختناقات من التاسعة وحتى الحادية عشرة صباحاً، فيما يزداد عدد بلاغات الإسعاف من وقت قبيل الافطار إلى موعد السحور، نتيجة كثرة الحوادث المرورية الناتجة عن تزاحم الكثيرين وتسابقهم للوصول إلى البيت قبل الإفطار.

وفي رمضان نفتقد نحن المسعفين كثيراً للمة الأهل، والجلوس معهم على مائدة الإفطار، ومشاركتهم فرحة الاحتفال بالعيد، مثلما نشتاق إلى صلاة التراويح والقيام وإحياء ليلة القدر في المسجد، هكذا تقول مروة التي لا تفطر مع عائلتها سوى في الأيام التي يكون دوامها صباحاً أو ليلاً فقط.

وتضيف: في الأيام التي نفطر فيها خارج المنزل، لا نجد لذة للطعام، لأنه ليس من صنع الأهل، وأحياناً نضطر إلى تناول حبات تمر، وكوب ماء داخل سيارة الإسعاف، خصوصاً إذا تصادف موعد الأذان مع أحد البلاغات، وأحياناً نترك المائدة ونذهب لتلبية النداء.

Email