د. أحمد الحداد: رمضان شهر الإقبال وليس الإدبار

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

صباح كل يوم، أنتم على موعد مع تفاصيل حصرية لشخصيات تختلف في المسميات وتتحد في الإنجازات، نحاور لمساحة ثابتة؛ ضيفاً رمضانياً في موقعه، نتعرف منه على يوم رمضاني، وندقق في التفاصيل التي يؤديها على رأس عمله، ونعرج على صعوبات لابد وأن تنغص بعض وقته، حتى نصل إلى مواقف وطرائف مُندسّة بين سطور العمل، تمنح صاحبها طاقة إيجابية نحو مزيد من المثابرة والجد والاجتهاد، من منطلق أن «العمل عبادة».

كل يوم ستجدون في هذه المساحة «شخصية ومهنة»، ندخل إلى ميدان عملها من باب رمضاني يُعنى بكل ما يحيط بواقعها المهني؛ نهاراً وقت الصوم أو ليلاً بعد الإفطار، المهم أننا نحاور مسميات مهنية لا تتشابه، لنجسد لكم قالباً صحافياً جديراً بالاهتمام، ففي كل يوم تجدون «شخصية ومهنة»، وهذه إحدى المهن التي طرقناها؛ فدخلت بابنا الرمضاني.

الدكتور أحمد بن عبد العزيز الحداد كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي أكد أن شهر رمضان المبارك فرصة للفوز برضوان الله، وأن الحر وطول النهار، غير عائقين للمسلم الطامح لمرضاة الله تعالى الذي يعرف أن صومه في محل الرضا من الله، وأن جزاءه لا يدخل تحت حصر أو عد كما أخبر سبحانه في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

وقال الدكتور الحداد في حواره مع «البيان» إن ما عند الله من الفضل ينسي ما يجده المرء من الشدة والمشقة، فإن المرء إذا عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، وهنا يتحقق معنى جهاد النفس والصبر على المشاق ابتغاء فضل الله ورضوانه، وقد كان رسول الله يعطي المثل الأعلى لمثل هذه الحال كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم، وابن رواحة»، فتأمل شدة الحر وطول السفر والجهاد في سبيل الله تعالى، ومع ذلك كان صائماً محتسباً لأن في ذلك رضوان الله تعالى، ويقول أبو الدرداء هذه الغزوة وما فينا صائم إلا رسول الله وعبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه، لكن في مواطن أخرى لا تقل شدة عن ذلك كان جل الصحابة رضوان الله تعالى عنهم صائمين، كما روى مسلم من حديث سعد بن مالك بن سنان الأنصاري رضي الله تعالى عنه، قال سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم» فكانت رخصة، فمنا من صام، ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر، فقال: « إنكم مصبحو عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا» وكانت عزمة، فأفطرنا، ثم قال: لقد رأيتنا نصوم، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، في السفر».

فهكذا كانوا يتحملون مشاق الصيام في شدة الحر وطول السفر وهم أعلم الناس برخصة الله تعالى في السفر، ولكن رغبتهم في الصــوم ومحبتهــم له لأن الله تعالى يحبه جعلتهم يتناسون أنفسهــم ويتلذذون بهذه العبــادة وينســون مشقتها، فكم تكون مشقة أحد منا بجانب مشقتهم؟ لا شيء، فينبغي علينا أن نكــون بهــم متأسين وبهم مفاخريــن وبمثــل طريقتهم عاملين.

لا للسلبيات

وقال إنه يتعين على المسلم أن ينسى ويتناسى السلبيات في شهر رمضان، فهو شهر الإقبال وليس شهر الإدبار، فإذا جعل هذا الشهر كغيره غفلة وإعراضاً فإنه سيكون من الخاسرين ولا شك، فقد روى ابن خزيمة والبيهقي وابن حجر في المطالب العالية عن أبي هريرة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال :« آمين، آمين، آمين».

فقيل: يا رسول الله إنك حين صعدت فقلت: آمين، آمين، آمين قال صلى الله عليه وسلم: « إن جبريل عليه الصلاة والسلام أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل: آمين، فقلت: آمين.

ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل: آمين، فقلت: آمين.

ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين»، والذي لا يغفر له في هذا الشهر هو ذلك الذي مر عليه هذا الشهر فلم يتعرض فيه لنفحات الله تعالى وفيوضاته الكبيرة الكثيرة، والعاقل من جعل هذا الشهر فرصته الكبيرة للفوز برضوان الله، فإن لله فيه من النفحات ما لا يكون في غيره.

غائب عزيز

وعن استقبال المسلمين لهذا الشهر الكريم قال: يستقبل شهر رمضان كأعز غائب ينتظر، وحبيب يترقب وصوله، لأنه الشهر الذي يعيش فيه المرء بين رياض العبادات يتفيأ ظلالها ويسعد بروحها وريحانها، بين صيام يعجب الحق سبحانه ويفرح به ويخصه لنفسه، وقيام يتلذذ فيه بمناجاة الحق بكلامه والوقوف بين يديه متملقاً خاشعاً، فكيف لا يكون هذا الضيف أعز غائب ينتظر، وحبيب يترقب وصوله، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدومه ليهيئ نفوسهم لحسن استقباله بنيات صالحة وأمنيات مباركة فيقول:

«أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما مر بالمسلمين شهر خير لهم منه، ولا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكتب أجره ونوافله قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه قبل أن يدخله، وذلك أن المؤمن يعد فيه القوة من النفقة للعبادة، ويعد فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم، فغنم يغنمه المؤمن» هذا حديث يحيى، وقال بندار: «فهو غنم للمؤمنين، يغتنمه الفاجر» كما أخرجه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فدل الحديث على أن التهيئة لاستقباله بنية صالحة تجعل المسلم مدركاً لفضله بنيته وإن لم يبلغه عمله لعجز من مرض أو موت.

وأخرج أيضاً من حديث سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يوم من شعبان فقال : « يا أيها الناس، قد أظلكم شهر مبارك، فيه ليلة خير من ألف شهر، فرض الله فيه صيامه، وجعل قيام ليله تطوعاً، فمن تطوع فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة...».

خير الإمارات

دولة الإمارات من أوائل الدول السباقة لمساعدة الدول والشعوب الإنسانية عامة والإسلامية خاصة، لأنهــا تعنى بسعــادة الإنســان فلا تدخر وسعـــاً ولا تألو جهـداً في ذلك، وقــد وصل خيرها كل الشعـــوب في جميع المجـــالات، وقد شهــد لها بذلك العالم والمؤسسات المعنية العالمية، والشعوب كلها تشهد بذلك فإنه لا يصيبها بلاء ولا تقع في شدة إلا كانت الإمارات سباقة للمساعدات النافعة والملموسة.

الصيام مضمار تسابق وتنافس في الخيرات

 قال الدكتور أحمد الحداد الظالم لنفسه فهو الذي يرى أن الشهر الكريم في هذا القيظ والنهار الطويل شاقاً وثقيلاً، فلا يؤدي واجب العبادة فيه إلا كرهاً أو استحياء، ولعله يرى أنه عائق له عن دنياه وطموحه فيها، فهذا كيف يكون حاله في مقام الصائمين، أم كيف يتمنى أن يناديه باب الريان ليكون من أول الداخلين؟

وأما المقتصد فهو الذي لم يهيئ نفسه ليكون في هذا الشهر من الفائزين من الذين يدركونه فيغفر لهم، الذين يرجون أن يصوموه إيماناً واحتساباً فيغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم، الذين يرونه شهرا فرض الله صيامه فعلينا أداء فرضه طوعا أو كرها، تحقيقا لواجب العبودية، وهذا النوع وإن كان قد أسقط الفرض لكنه لم يطمح للفضل، فلم يكن الصيام مؤثرا في سلوكه ولعله لا يكون من عتقائه، لأن أداء العبادة من غير رغبة ولا محبة ولا تنافس فيها يجعلها أشبه ما تكون بالعادة.

السابق للخيرات

أما السابق للخيرات فهو ذلك الذي وطن نفسه ليكون صائماً قائماً منافساً في الخيرات مسابقاً لها، عازماً على أن يدرك ليلة القدر، وعلى أن يكون ممن يدرك رمضان فيغفر له، لا أن يكون مرغم الأنف خائباً، الذي يرى أن هذا الشهر هو مضمار التسابق والتنافس للخيرات، لا يألو جهداً على أن يكون صائماً بجوارحه وحواسه وأنفاسه، وأن يكون ممن يباهي به ملائكته، لتشبهه بهم في الصيام وعدم العصيان في الحضرات والخطرات،

وهذا النوع هو الذي كان يحث النبي صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه، فيقول: «الصيام جنة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل :إني صائم مرتين» كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، ويقول من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه إذ ليس القصد من الصيام أن تمسك عما أحل الله من الطيبات بل أن تمسك عن كل ما يبعدك عن الله من المعاصي، وما يبعدك عنه من الغفلة.

المواساة

وأضاف أن هذا الشهر الكريم شهر المواساة كما قال صلى الله عليه وسلم : «وهو شهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائما كان له عتق رقبة، ومغفرة لذنوبه » قيل: يا رسول الله، كلنا نجد ما نفطر به الصائم قال : «يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على مذقة لبن، أو تمر، أو شربة ماء، ومن أشبع صائماً كان له مغفرة لذنوبه، وسقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها أبدا حتى يدخل الجنة، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئا.

وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، ومن خفف فيه عن مملوك أعتقه الله من النار» فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الجانب من خطبته في البشارة بهذا الشهر الكريم أكثرها، ليحث الأمة على أن يكون الصيام مقترنا بالإكرام، ليجمع المرء بين عبادة الجسد والمال والنفس، فتكمل فيه جوانب العبادة، وينال المرء مرتبة المتقين، الذي كان الصيام سبباً لنيلها كما قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ومن أهم معالم التقوى الإنفاق في سبيل الله والجود بمال الله تعالى فإنه غالبا ما يقترن بالتقوى كما قال سبحانه: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ.

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» وهو ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبينه بفعله فقد كان أجود بالخير في هذا الشهر من الريح المرسلة كما روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة».

Email