زايد أيقونة التراث وباني أسس المستقبل

خلفان الظاهري.. مفتاح متحف العين

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أن تعيش أكثر من 40 عاماً بين الآثار، تشتم عبق الماضي، وترسم في مخيلتك صوراً لتاريخ ماضٍ مجيد وعتيد، وأن تقضي أيام الصبا طفلاً يلهو بين الآثار ويختبئ خلف جدرانها، يسترق السمع لنبض حياتها، فتلك لا شك قضية تعني ارتباط الإنسان بماضيه، وحرصه على مستقبل وطنه.. تلك هي حكاية العم خلفان الظاهري، حارس متحف العين وحامي آثاره، حاله كما القطع الأثرية، فهو يرفض القاعد الوظيفي، متمسكاً بكل قطعة منها، يحسبها جزءاً منه، بل هي توأم حياته.

حارس التاريخ

خلفان بن محمد بن مفتاح بن ملهم الظاهري، واحد من الرجال الأوفياء، وهو الموظف المعروف في إدارة الآثار والسياحة منذ أربعة عقود، كان رئيساً لقسم الآثار في متحف العين الوطني سابقاً، ويشغل حالياً منصب خبير التراث المعنوي في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث.

ولد عام 1939 في مدينة العين، وتعلم القراءة والكتابة على يد المطوع حميد بن سيف الدرمكي. بلغ من العمر 75 عاماً، إلا أنه لم يُحل نفسه ولم تُحله الإدارة إلى التقاعد، بعد أن أمضى أكثر من 40 عاماً وهو يحرس بوابة آثار متحف العين، ويعمل مرشداً ودليلاً سياحياً، ويؤدي أمانة ومسؤولية حملها على عاتقه بكل ثقه وأمان. مكتبه في متحف العين الوطني يشكل بالنسبة له المرفأ الأهم في حياته، فهو كنز ذكرياته.

روبية واحدة تكفي

يذكر الظاهري أن الحياة قديماً كانت بسيطة ومستقرة على الرغم من قلة الإمكانيات المتوافرة، فالأسرة في الماضي لا تتطلع إلى أكثر من الأكل والشرب، وروبية واحدة كانت تكفي لشراء ما تحتاج العائلة من مأكل وملبس، ومدينة العين كانت عبارة عن قرى متناثرة على مد البصر، والعمل آنذاك تركز في رعي الغنم وصيد الظباء والتجارة المحدودة بين العين ودبي والشارقة..

وكنا سابقاً نسكن شمال هيلي في البر، حيث يتبع الناس أثر العشب والمطر من أجل مواشيهم، وكان الناس يفضلون السكن في بيوت الشعر وبيوت العريش، أما المقتدرون وهم عادة من التجار، فكانوا يبنون ما كنا نطلق عليه اسم «مخزن»، وهو بيت مبني من الطين والحصى، وقد ظلت الحياة بسيطة، والعلاقات الاجتماعية جيدة، ومنذ طفولتي حرص والدي على تعليمي القنص والتجارة، فلم يدع لي مجالاً للعب على الإطلاق، كما هو حال أطفالنا اليوم.

ويضيف: حين بدأت العمل لم يكن عمري يتجاوز 12 عاماً، فعرّفني والديّ على أدوات القنص، وكيفية تربية الطيور والصقور، والاعتناء بالبوش من أجل التجارة بها، وكان والدي يعمل أيضاً في صيد اللؤلؤ بالإضافة إلى بعض الأنشطة الأخرى، مثل تجارة الحبوب، وكنت أقصد معه سوق العين الشعبي الذي كان يجمع التجار وأهالي المناطق المجاورة، إذ كانت المقايضة سائدة بين الناس لتأمين احتياجاتهم، كما كنت أتردد كثيراً برفقه والدي، رحمه الله، على دبي والشارقة، لتأمين لقمه العيش.

عشق الآثار

وعن المحطات الأولى في شبابه قال الظاهري: عام 1955 حين بلغت سن الرشد، كانت الوظيفة حلماً بالنسبة لي، وبواسطة أحد الاصدقاء وبالصدفة، التحقت بالقوات المسلحة البريطانية «قوة كشافة ساحل عمان»، في ظل ظروف معيشية صعبة..

وأسندت إلي الحراسة الليلية بالقرب من الحدود العمانية، وكان راتبي الشهري 75 روبية، ثم التحقت بشرطة أبوظبي وعملت في شركة بترول، وبعد التحول الذي شهدته مدينة العين مع وصول الشيخ زايد، طيب الله ثراه، إلى حكم إمارة أبوظبي، وظهور النفط في الستينيات، فكرت بالعمل في مجال الآثار والمقتنيات الأثرية والتراثية الذي أعشقه منذ الصغر.

مرشد سياحي

وأضاف: عشت في مدينة العين التي تزخر بالمواقع الأثرية والقلاع، وعملت مرشداً مع البعثات الأجنبية التي كانت تجوب المنطقة للتنقيب عن الآثار قبل أن ألتحق رسمياً كموظف في إدارة الآثار والسياحة في العين في يناير عام 1972، ومنذ ذلك الوقت وأنا أعمل في متحف العين الذي أعتبره المرفأ الأهم في حياتي.

وقد تأسس في عام 1971 بناء على رغبه الشيخ زايد، رحمه الله، ومنذ تأسيسه بدأت تجميع الآثار المكتشفة التي يعود تاريخها إلى حوالي 5 آلاف عام، وخلال فترة عملي زادت معرفتي بالقطع الأثرية، فأصبحت جزءاً من حياتي، ولم تبخل علينا الإدارة بالدورات التدريبية والمعرفية، للتعامل مع المقتنيات الأثرية، وصيانتها، وجعلها تحفه أمام رواد المتحف والمهتمين، كونها وسيلة للتعرف على تاريخنا الموغل في القدم.

رحلة العمر

تدرج خلفان الظاهري في مناصب عدة، وأصبح منذ مطلع التسعينيات رئيساً لقسم الآثار، واليوم يعمل خبيراً للتراث المعنوي بعد أن انضمت إدارة الآثار والسياحة إلى هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، وقد جمع في مهامه السابقة العديد من شهادات التقدير، وشارك في معارض عدة، أسهم المتحف في إقامتها داخل الدولة وخارجها، منها معرض مراكش في المغرب الذي أقيم عام 1995، وصادف وجود الشيخ زايد رحمه الله، في زيارة رسمية إلى المغرب.

ويعتبر الظاهري أن عشق المهنة أو العمل، هو أهم عناصر النجاح في أي موقع وظيفي، مهما كان متواضعاً، وسر النجاح هو إتقان العمل وتأديته بإخلاص. ويضيف: كثيراً ما يطلب مني أصدقائي التقاعد بعد أربعة عقود من العمل المتواصل في متحف العين، فأجيبهم: ماذا تريدونني أن أفعل؟

مؤكداً أن مهنته أصبحت جزءاً منه، ولا يستطيع يوماً مفارقة مقتنيات المتحف التي جمع بعضها بيديه وعاملها بمحبة وعناية، وحرص عليها كما لو كانت في منزله وملكاً له، ويقول: أنا ومتحف العين توأمان لا ينفصلان.

مساجد العين

للمساجد القديمة في العين أهمية كبيرة في نظر خلفان، وخصوصية ولا تغيب عن ذاكرته، إذ كانت واحات النخيل تحتضن عشرات المساجد التي كانت تستأثر باهتمام الناس الذين كانوا يأتون إليها من مسافات بعيدة، حرصاً على أداء صلاة الجماعة، بالإضافة إلى الاستزادة في علوم الدين، وكانت المساجد في هذه المنطقة تحقق نفعاً كبيراً للمجتمع المحلي في ذلك الزمان. وتؤكد عمارة هذه المساجد الطينية، النموذج الشعبي للعمارة المألوفة حسب البيئة المحيطة بها، في حين يؤكد المعمرون في مدينة العين أن بعضها يعود إلى 200 سنة، وهي مبنية من الطين والرمل والقش.

من هذه المساجد، مسجد «بني الحايمة» في منطقة الجيمي، ومسجد الواجدي، ومسجد الجيمي في منطقة الخريس، ومسجد عيسى بن سلطان الظاهري، ومسجد المواش في واحة القطارة، بالإضافة إلى مساجد موجودة في واحتي العين والقطارة تعود إلى القرن الـ19، ومنها مسجد بن حمودة، ومسجد الحميساني، ومسجدعاتي، ومسجد بن رحمه، ومسجد الدرمكي، علاوة على مسجد بن هزام في واحة الجيمي..

ومسجد بن سرور في واحة المعترض، أما مسجد الشيخ زايد في واحة المويجعي الأثرية، فهو أحد أبرز المساجد التاريخية، ويرجع تاريخه إلى حوالي 60 عاماً، وقد بادرت إدارة الآثار بإعادة ترميمه وفق الطراز الإسلامي القديم، اعتماداً على الجص والحجر، وسعت إلى تأهيله وتأثيثه وافتتاحه أمام المصلين، وذلك بالتعاون مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

الطابع التاريخي

وعن الاكتشافات الأثرية التي تتعلق بالمساجد، أوضح خلفان الظاهري أنه ومنذ 10 سنوات تم الكشف عن بقايا مسجد قديم يعود إلى العصر الإسلامي القديم، وذلك بالقرب من فلج قديم في منطقة ميدان الاحتفالات، جنوب المعهد الاسلامي قرب جامعة الإمارات، ويبلغ طول المسجد 8 أمتار، وعرضه 4 أمتار..

ويشتمل على محراب صغير يتوسط جدار القبلة وله مدخلان، وقد بني من طوب اللبن المجفف بالشمس، وبشكل عام تتألف معظم المساجد القديمة في العين، من محراب ومبني رئيسي وساحة خارجية تسمى «إيوان» تتسع لـ 20 إلى 30 شخصاً.

وأكد الظاهري أن أهالي العين اهتموا ببناء تلك المساجد منذ وقت طويل، وجعلوا لكل مسجد وقفاً خاصاً، هو عبارة عن مجموعة من أشجار النخيل يعود إنتاجها لصيانة المسجد، وتأمين الاحتياجات المطلوبة، وهذه المساجد على الرغم من بساطتها وبدائيتها، إلا أن سكان المنطقة بذلوا الغالي والنفيس في سبيل إقامتها، وقد تمثلت المواد المستخدمة في بنائها من الطين والطوب اللبن وجذوع وسعف النخيل.

المتحف الوطني

في العام 1971 أمر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، بأن تكون مدينة العين مقراً للمتحف الوطني، واختار بنفسه موقع المتحف ليحتضن واحة العين، ويجاور أحد أهم المباني التاريخية، وهي قلعة الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان، والد الشيخ زايد، التي بناها عام 1328 هجرية، كما يشير التاريخ المدون على مدخلها. وهذه القلعة التي تسمى الحصن الشرقي، هي واحدة من العديد من القلاع التي بناها آل نهيان في مدينة العين، وقد رممتها إدارة الآثار والسياحة قبل 30 عاماً.

Email