الحكمة والأمثال والبلاغة عند العرب (27)

رُب حالٍ أفصح من لسان وبطول التجارب تُكشف المآرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.

والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.

 

للأندلس في قلب كل منا مكانة عميقة ومؤلمة، لكنها بالتأكيد مثال فيه من أعظم العبر، وأنقل اليوم قصتها.. قصة الأندلس مختصرة، كما ترويها أبيات شعر قليلة، وكما يقال: بيت من الشعر عن ألف كلمة.

الأندلس

 

في الحديث النبوي لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، قال: (توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. فقالوا: يا رسول الله! ما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).

بعد سقوط طليطلة دقّ ابن عسّال الطليطلي ناقوس الخطر، فقال: يا أهل أندلسٍ حثوا مطيكم/ فما المقام بها إلا من الغلطِ/ الثوب ينسل من أطرافه وأرى/ ثوب الجزيرة منسولاً من الوسطِ.

قال الشاعر: هل أتاك الدهرُ فيما قد أتى/ بحديث العُربِ في الأندلسِ.

نعي الصنهاجي

 

قال أبو العباس أحمد بن يوسف الصنهاجي المشهور بالدقون المتوفى سنة 921هـ ينعي الأندلس: فأصبحوا لا تُرى إلا مساكنهم/ كمثل عاد وما عاد بأشكالِ/ فلنكرم الآن من ينزل بمنزلنا/ فالدهر ذو دول فاسمع لأمثالِ.

وقال شاعر آخر: يا أهل أندلس لله دركم/ ماءٌ وظلٌ وأنهارٌ وأشجارُ/ ما جنة الخُلدِ إلا في دياركم/ ولو تخيرتُ هذا كنت أختارُ.

حال المعتمد بن عباد

 

قال أحد الشعراء يصف حالة المعتمد بن عباد ملك إشبيلية الذي وقع في أسر يوسف بن تاشفين، وأخذه أسيراً مع زوجته اعتماد الرميكية إلى المغرب وتعرضا للإهانة: مُلْكٌ عظيمٌ قد تولى عصره/ وكذا الزمان يؤول للإفسادِ.

وذات مرة اشتكت زوجته وقالت له إنها تتعرض للإهانة في سجنها هنا، فقال شعراً:

قالت: لقد هُنَّا هُنَا مولاي أين جاهُنا/ قلتُ لها هُنَا صيرنا إلهنا.

يوم الطين

 

حاول المعتمد تخفيف مصاب زوجته، فذكرها بيوم الطين، وقصة يوم الطين أن زوجته رأت فتيات الحي يلعبن في الطين بعد يوم ممطر، فسألته: لماذا لا تستطيع هي أن تلعب أيضاً بالطين، فأمر بإحضار المسك والزعفران والورد والكافور والياسمين إلى ساحة القصر وجعلها مع صديقاتها يمرحن فيه.

فقال متذكراً الماضي، بعد أن رأى حالة البؤس والعذاب التي يعيشانها: تراه عسيراً لا يسيراً مناله/ ألا كل ما شاء الإله يسيرُ/ يطأن في الطين والأقدام حافية/ كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا.

دورة الزمان

 

عند وفاة المعتمد بن عباد نودي للصلاة عليه، فقيل: (الصلاة على الغريب).. بعد عظم سلطانه وسعة ماله وأملاكه وجلال شأنه، فسبحان من له البقاء والعزة والكبرياء.

قول الوزير ابن عبدون

 

الدهر يُفْجِعُ بعد العينِ بالأثرِ/ فما البكاء على الأشباحِ والصورِ.

وتَذْكر كتب التاريخ أن يوسف بن تاشفين لا يجيد اللغة العربية بطلاقة، وذات مرة استشهد ابن عباد بأبيات في شعر من نونية ابن زيدون التي يقول فيها: حالت لفقدكم أيامنا فغدت/ سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا.

فوصل هذا الشعر إلى يوسف بن تاشفين الذي قال: هذا الرجل يهذي، لأنه الآن يريد نساء سوداً وبيضاً.

ونونية ابن زيدون تقول: أضْحَى التّنائي بَديلاً عنْ تَدانِينَا/ وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا/ إَنَّ الزَمانَ الَّذي مازالَ يُضحِكُنا/ أُنساً بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا/ بِنْتُم وَبِنّا، فَما ابتَلّتْ جَوَانِحُنَا/ شَوْقاً إلَيكُمْ، وَلا جَفّتْ مآقِينَا/ حَالَتْ لِفقدِكُمُ أيّامُنا، فغَدَتْ/ سُوداً وكانتْ بكُمْ بِيضاً لَيَالِينَا/ ليُسقَ عَهدُكُمُ عَهدُ السّرُورِ فَما/ كُنْتُمْ لأروَاحِنَا إلاّ رَياحينَا.

ولادة أخت المعتمد

 

ومن المعروف أن ابن زيدون كان يهوى ولادة بنت المستكفي أخت المعتمد بن عباد ملك إشبيلية التي قالت فيه: لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا/ لم تهوَ جاريتي ولم تتخيرِ/ وتركت غصناً مثمراً بجمالهِ/ وجنحت للغصنِ الذي لم يثمرِ.

مطارحة على وزن نونية ابن زيدون

 

قال أحمد شوقي في منفاه في الأندلس في رسالة إلى حافظ إبراهيم: يا ساكني مصر إنَّا لا نزالُ على/ عهد الوفاءِ وإن غبنا مقيمينا/ هلا بعثتم لنا من ماء نهركم/ شيئاً نبلُّ به أحشاء صادينا/ كل المناهل بعد النيل آسنة/ ما أبعد النيل إلا عن أمانينا.

فيرد عليه حافظ إبراهيم: عجبتُ للنيل يدري أنَّ بلبلهُ/ صادٍ يسقي رُبا مصرٍ ويسقينا/ والله ما طاب للأصحاب مورده/ ولا ارتضوا بعدكم من عيشهم لينا/ لم تنأ عنه وإن فارقت شاطئه/ وقد نأينا وإن كنا مقيمينا.

الجزيرة الخضراء

 

قالوا عن جزيرة مايوركا، وسماها العرب الجزيرة الخضراء، وكانت آخر معاقلهم في الأندلس: بلد أعارته الحمامة طوقها/ وكساه حلة ريشه الطاووس/ فكأنما الأنهارُ فيه مدامة/ وكأن ساحات الديار كؤوس.

قال ابن عمَّار: مما يقبح عندي ذكر أندلس/ سماع معتضد فيها ومعتمدِ/ ألقاب مملكة في غير موضعها/ كالهرِ يحكي انتفاخاً صولة الأسدِ.

هجوها فقالوا

 

وقالوا في هجاء الأندلس: ومفاتيحها مقاليدُ مُلكٍ/ باعها الوارثُ المضيعُ ببخسِ/ إمرةُ الناسِ همةٌ لا تأنىَ/ لجبان ولا تسنىَ لحبسِ.

وعن قرطبة قالوا: بأربع فاقت الأقطار قرطبة/ وهن قنطرة الوادي وجامعها/ هاتان ثنتان والزهراء ثالثة/ والعلم أفضل شيء وهو رابعها.

قال أبو البقاء صالح بن الشريف الرندي من الرندة في الأندلس والمتوفى سنة 798 هـ:

لكل شيء إذا ما تم نقصان/ فلا يغر بطيب العيش إنسانُ/ هي الأمور كما شاهدتها دول/

من سرّه زمن ساءته أزمانُ.

حتى يقول: ماذا التقاطع في الإسلام بينكم/ وأنتم يا عباد الله إخوانُ/ بالأمسِ كانوا ملوكاً في منازلهم/ واليوم هم في بلاد الكفر عبدانُ.

أمثال رُبَّ

 

وهنا بعض الأمثال التي تبدأ بـ (رُبَّ).

قيل: رُبَّ صدفة خير من ألف ميعاد، و.. رُبَّ عجلة تهب ريثاً (الريث بمعنى البطء)، و.. رُبَّ رمية من غير رامٍ، و.. رُبَّ ضارة نافعة، و.. رُبَّ أكلة تمنع أكلات، و.. رُبَّ أمرٍ أتاك لا تحمد الفعَّال فيه وتحمد الأفعال، و.. رُبَّ ساعةٍ ليس بها طاعة، و.. رُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، و.. رُبَّ أخ لك لم تلده أمك، و.. رُبَّ بعيد أقرب من قريب، و.. رُبَّ ابنة أنفع من غلام، و.. رُبَّ أمريءٍ يسعى لآخر قاعد.

قال الشاعر: أتى قومهُ منه حِباءٌ وكسوةٌ/ ورُبَّ امرئٍ يسعى لآخر قاعد.

ويقال: رُبَّ شيخٍ أعطى وقد ناهز القرن/ وغِرٍّ عاش الشباب كسولا.

ويقال: رُبَّ ذنبٍ محوتُهُ باعتذاري/ وحملتُ الورى على إكباري/ وإذا قيست الفضائلُ فاقت/ كرم العفوِ جُرأة الإقرارِ.

وأيضا: رُبَّ طمع أدى إلى عطب، و.. رُبَّ ملومٍ لا ذنب له، و.. رُبَّ عين أنمّ من لسان (المعنى: شاهد اللحظ أصدق).

قصة بن زريق البغدادي

 

قيل: رُبَّ ساعٍ لحتفهِ وهو ممن/ ظنّ بالسعي للعُلا يتوصلُ.

وهذا البيت من الشعر يُذكِّر بقصة محمد بن زريق البغدادي الذي ترك بغداد ذاهباً إلى الأندلس في طلب الرزق، تاركاً وراءه زوجته التي توسلت إليه بأن لا يذهب إلى الأندلس، ونعلم أنه لم يوفق بل ومات هناك؛ لكنه قال هذا الشعر: والدهر يعطي الفتى ما ليس يطلبه/ يوماً ويمنعه من حيث يطمعهُ/ استودع الله في بغداد لي قمراً/ بالكرخ من فلك الأزرار مطلعهُ/ أُعطيت ملكاً لم أحسن سياستهُ/ كذاك من لا يسوس الملك يخلعهُ/ ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا/ شكر الإله فعنه الله ينزعهُ/ كم قائل لي ذنب البين قلت له/ الذنب والله ذنبي لست أدفعه.

وذلك يشبه قول: قد يرزق المرء لم تتعب رواحله/ ويُحرم المرء ذو الأسفار والتعب.

وقيل: ولرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى/ ذرعاً وعند الله منها المخرجُ/ ضاقت فلما استحكمت حلقاتها/ فُرِجَتْ وكنت أظنها لا تُفْرجُ.

رب عالم قتله جهله

 

وقيل في ذلك هذه الأمثال: رُبَّ عالم قد قتله جهلهُ وعلمه معه لا ينفعه، و .. ربما كان السكوت جواباً، أو رُبَّ قول جوابه في السكوت، و.. رُبَّ قول أشد من صول (يضرب عند الكلام الذي يؤثر على من يواجه به)، و.. رُبَّ سامع بخبري لم يسمع عذري، و.. رُبَّ صباح لامرئٍ لم يمسه، و.. ربما أراد الأحمق نفعك فضرك.

قال الشاعر: ورب امرئٍ تزدريه العيو/ ن يأتيك بالأمرِ من فصّهِ/ ُربَّ صبابة غُرِست من لحظةٍ/ ورب حربٍ جُنيت من لفظةٍ.

وأيضا قيل: رُبَّ زارعٍ لنفسه حاصد سواه، و.. رب طلبْ جَرَّ إلى حربْ، و.. رب أمنية جلبت منية، و.. رب كلمة سلبت نعمة، و.. رب طرفٍ أفصح من لسان، و.. رب كلمة تقول لصاحبها دعني، و.. رب مملولٍ لا يستطاع فراقه، و.. رب رأس حصيد لسان، و.. رب طمع يهدي إلى طبع، و.. رب حمقاء منجية، و.. رب كلمة أفادت نعمة، و.. رب بعيد لا يفقد بره وقريب لا يؤمن شره، و.. رب عزيز أذله خرقه وذليل أعزه خلقه، و.. رب قولٍ يبقي وسماً، و.. رب حالٍ أفصح من لسان، و.. رب مؤتمن ظنين ومتهم أمين.

رشد الضرير وقصد البصير

 

يقال: ربما أبصر الأعمى رشده/ وأضلَّ البصير قصدهُ.

وقيل: رُبَّ يومٍ بكيتُ منه فلما/ صرت في غيرهِ بكيت عليه.

وذلك يشبه قول: عتبتُ على عمرو فلما تركته/ وجربت أقواماً بكيت على عمرو.

ويشبه أيضا: ستذكرني إذا جربت غيري/ وتعلم أنني نعم الصديق. وهو يشبه: عتبت على سلمٍ فلما فقدته/ وصاحبت أقواماً بكيت على سلمِ/ رجعت إليه بعد تجريب غيره/ فكان كبيراً بعد طولٍ من السقمِ.

أعلم بها من غَصَّ بها

 

أي أن من وُلِّي الأمر ومارسه، كان أعلم به من الذي ابتعد عنه وفارقه. ويقال: إن المائح أعلم بمقدار الماء في البئر من الماتح. (والمائح: هو الذي ينزل البئر إذا قلَّ الماء، فيملأ الدلو، والماتح المستقي من رأس البئر على بكرة). ويقال: متح متحاً، والنازع الذي يستقي من غير بكرة وقد نزع نزعاً.

بطول التجارب تكشف المآرب

 

يقال: بطول التجارب تكشف المآرب.

وقيل: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب، و.. اعط الخبز للخبار ولو أكل نصفه، و.. طول الاعتبار من حسن الاختيار، و.. من تداوى بدائه لم يصل إلى شفائه. ويقال: فلان يعرف من أين تؤكل الكتف (أي أنه يعرف كيف يتصرف بالتجربة).

قال الشاعر: ولم استشر إلا تجاربي/ وهل يُصدِقُ الإنسانَ إلا تجاربهْ.

قال حفني ناصف المتوفى سنة 1919م: أتقضي معي إن حان حين تجاربي/ وما نلتها إلا بطول عنائي/ وأبذل جهدي في اكتساب معارفٍ/ ويفنى الذي حصلته بفنائي.

ويقال: لولا التجربة ما عرفتُ النجاح، و.. التجارب ليست لها نهاية والمرء منها في زيادة، و.. طول التجارب زيادة في العقل.

ابن جَلاَ

 

يقال: أنا ابن جَلاَ، ويضرب هذا المثل في المشهور المتعالم، وهو من قول سحيم بن وثيل الرياحي: أنا ابنُ جَلاَ وطلاَّع الثنايا/ متى أضع العمامةَ تعرفوني.

وتمثل به الحجاج بن يوسف الثقفي من على منبره في الكوفة.

يقال: ابن جلا النهار، وجلا على وزن فَعَلَ.

والشاعر أراد الحكاية، فحكى الاسم على ما كان عليه قبل التسمية، وتقديره: أنا ابن جلا الذي يقال له جلا الأمور وكشفها.

Email