واجب رب الأسرة تحري الرزق الحلال لأسرته

ت + ت - الحجم الطبيعي

يأتي رمضان كل عام ليطهر نفوسنا وقلوبنا مما علق بها من أدران الدنيا وليحذرنا من التعلق بالشهوات الفانية، والمسلم الحق هو الذي يبصر طريق حق فيسلكه وطريق الهوى فيتجنبه، ليس بمفرده بل كل من يرعاهم ويقوم على شؤونهم لأنه مسؤول عن رعيته يوم القيامة، كما قال الرسول صلى الله عليه (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته).

ولا شك في أن من أول أبواب رعاية الأسرة، هي تحرى الحلال والحرص عليه، وتجنب الحرام والابتعاد عنه مهما كانت الحاجة إليه، وعلى الأسر أن تستغل مثل هذه المناسبات الطيبة لتراجع نفسها وتستعين بهذا الجو الروحاني للتخلص من العادات السيئة مثل التبذير والإسراف والإفراط الذي يفسد البيوت، ويكون مضراً بالمجتمعات وعكس المقصد الشرعي الحقيقي من الصيام، وهو تهذيب النفس وتخليصها طمعها.

وقد وصف الله عز وجل المسرفين قال: وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا )الإسراء/26-27(

وكما أمرنا المولى عز وجل بعدم الإسراف فقد أمر بعدم أكل الحرام والاقتداء مهما كانت الظروف التي تدعو لذلك، وعلينا أن نقتدي في ذلك بالسلف الصالح في تدبير أمورنا ومعيشتنا لأنهم بالرغم مما كانوا فيه من شدة إلا أنهم أبوا إلا أن يأكلوا من كسب ايديهم مهما اشتدت بهم الفاقة أو المرض أو الجوع، ولنا في قصة أبى غياث المكي وزوجته لبابة العبرة في مقاومة مغريات الحياة والترفع عنها.

فقد كان أبو غياث لا يملك من متاع الدنيا شيئاً إلا ثوباً بالياً وكان يعيش في بيته مع أربع بنات وأختين وزوجة ووالدتها، وفي يوم من الايام عجز عن أن يعود إلى أسرته بالطعام فنام تحت شجرة وبكى وسأل الله أن يخرجه من هذا الموقف، ولما قرر الرجوع إلى بيته وهو في الطريق وجد كيساً به الف دينار، فرفض أن ينفق منه على أهله درهماً واحدا حتى يتبين حقيقة هذا المال، وفي اليوم الثاني ذهب إلى السوق فسمع من يقول فقدت كيسا فيه ألف دينار، فمن رده إلى جزاه الله خيراً وأعتقه من النار، وله الأجر والثواب يوم الحساب.

فقام إليه أبو غياث قائلاً: يا هذا بلدنا حالتها شديدة ، وأيام الحج معدودة، ومواسمه محدودة، فلعل هذا المال يقع في يد مؤمن فقير، يطمع في عهد عليك، لو رد المال إليك ، تمنحه شيئا يسيرا ، ومالا حلالا، فقال الرجل فما مقدار حلوانه ؟

فقال: يريد العشر مائة دينار عشر الألف .

فلم يرض الرجل وقال : لا أفعل ولكنى أفوض أمره إلى الله، وأشكوه إليه يوم نلقاه، فقال لزوجته لبابة، وجدت صاحب الدنانير ينادي، ولا يريد أن يجعل لواجده شيئا ، فقلت له: أعطنا منه مائة دينار ، فأبى وفوض أمره إلى الله ، لا بد لي من رده ، إني أخاف ربى ، أخاف أن يضاعف ذنبي.

فقالت: نحن نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة، ولك أربع بنات وأختان وأنا وأمي ، وأنت تاسعنا، لا شاة لنا ولا مرعى، خذ المال كله ، أشبعنا منه فإننا جوعى، واكسنا به فأنت بحالنا أوعى، ولعل الله عز وجل يغنيك بعد ذلك، فتعطيه المال بعد إطعامك لعيالك، أو يقضي الله دينك يوم يكون الملك للمالك .

فقال لها يا لبابة: آكل حراما بعد ست وثمانين عاما بلغها عمري، وأحرق أحشائي بالنار بعد أن صبرت على فقرى، وأنا قريب من قبري، لا والله لا أفعل.

وفي اليوم الثاني قال الرجل: يا أهل مكة، يا وفد الله من الحاضر والبادي، من وجد كيسا فيه ألف دينار، فليرده إلي وله الأجر والثواب عند الله .

فقام إليه ابو غياث ثانية وقال له قلت لك بالأمس ونصحتك ، وبلدنا والله قليلة الزرع والضرع ، فجد على من وجد المال بشيء، وقد قلت لك أن تدفع لمن وجده مئة دينار فأبيت، فإن وقع مالك في يد رجل يخاف الله عز وجل، فهلا أعطيتهم عشرة دنانير فقط، يكون لهم فيها ستر وصيانة، وكفاف وأمانة.

فقال له: لا أفعل، وأحتسب مالي عند الله، وأشكوه إليه يوم نلقاه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وفي اليوم الثالث تكرر الموقف فقام إليه فقال له، قلت لك أول أمس امنح من وجده مائة دينار فأبيت، ثم عشرة فأبيت، فهلا منحت من وجده ديناراً واحداً، يشتري شاة يحلبها، فيسقى الناس ويكتسب، ويطعم أولاده ويحتسب، فقال الرجل لا أفعل ولكن أحيله على الله وأشكوه لربه يوم نلقاه، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

فجذبه وقال له: تعال يا هذا وخذ دنانيرك ودعني أنام الليل، فلم يهنأ لي بال منذ أن وجدت هذا المال.

فأخذها الرجل وأراد الخروج، فلما بلغ الباب، قال : يا شيخ مات أبي رحمه الله وترك لي ثلاثة آلاف دينار، وقال لي: أخرج ثلثها ففرقه على أحق الناس عندك، فربطتها في هذا الكيس حتى أنفقه على من يستحق، والله ما رأيت ههنا رجلا أولى بها منك، فخذه بارك الله لك فيه، وجزاك خيرا على أمانتك، وصبرك على فقرك، ثم ذهب وترك المال.

Email