عطاء بن أبي رباح سلطان العلماء

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما تكون النفوس عظيمة والأرواح سابحة في عالم الأمل فإن كل نقص يُجبر،

هذا مفتي مكة وإمام عصره بلا منازع، الآخذ عن حبر الأمة وكبار أئمتها، عطاء بن أبي رباح، قد بلغ ذروة المجد والسؤدد والهيبة والوقار، يجلس إليه الخلفاء، يرتاده طلاب العلم من شرق الأرض وغربها، إذا تكلم صمت كل ناطق.

فلينظر من أصابه شيء من المعوقات في تحقيق أهدافه إلى هَوْل الأمر الذي تجاوزه ذلك الإمام ليقدم درساً للأمة في عُلوِّ هِمَّةٍ لا تؤمن بمستحيل في عالم الإمكان، فخلد التاريخ ذكره قدوة لأهل الأعذار.

الدكتور أحمد محمد سليمان الأهدل، كبير وعاظ، دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي، يحدثنا عن هذا الإمام الجليل:

مَن يُصدِّق أن هذا الإمام كان أعور وأعرج وأشلَّ، أفطس أسود، وعَمِي في آخر حياته، بل أشد المعوقات أنه كان لا يملك حريته فهو عبد لامرأة من مكة.

وصفه أحد الأدباء ببيت قال فيه:

أعور أسود أفطس * أعرج من أنواره يُقتبس

لم يتقاعس لحظة عن مجد بسبب أنه مملوك لا يملك وقته بل راح في الحياة مناضلاً منذ نعومة أظفاره يؤدي عمل سيدته ثم ينطلق إلى رحاب بيت الله الحرام يجالس عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما.

لم يكترث لنظر الناس وما يعيبون من صفاته، ولم يزل ذلك دأبه حتى عكس كل نظرة استصغار إلى تعظيم شهد بها القاصي والداني، فهذا شيخه ابن عباس يقول لأهل مكة: يا أهل مكة تجتمعون عليَّ وعندكم عطاء؟! قال ابن سعد: انتهت فتوى أهل مكة إليه وإلى مجاهد، وأكثر ذلك إلى عطاء. وقال أبو جعفر الباقر: عليكم بعطاء، هو والله خير لكم مني. قال الأصمعي: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك وهو جالس على السرير وحوله الأشراف وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته، فلما بَصُر به عبد الملك قام إليه فسلم عليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه، وقال: يا أبا محمد، حاجتُك، قال: يا أمير المؤمنين، اتق الله في حرم الله وحرم رسوله فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين، وتفقَّد أمور المسلمين فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم ولا تغلق دونهم بابك، فقال له: أفعل، ثم نهض وقام، فقبض عليه عبد الملك وقال: يا أبا محمد، إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها فما حاجتك؟ قال: ما لي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج، فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد!

نعم إنه المجد الذي جعل من عظماء زمانه كالأوزاعي والسفيانين وأبي حنيفة بعض تلاميذه!

رتَّب عمره على ثلاثة مسارات، جعَلَ قِسْماً من وقْتِهِ لِسَيِّدَتِهِ، يخْدمها أحسنَ ما تكون الخدمة، وجَعَلَ قِسْماً من وقْتِهِ لِرَبِّه، يَفْرُغُ فيه لِعِبادتِهِ، أصْفى ما تكون العبادة، وجعلَ قِسْماً ثالثاً لِطَلب العلم، حيث أقْبلَ على منْ بقِيَ حيًّا من أصْحاب رسول الله، وطفِقَ ينْهَلُ من مناهلِهم الثَّريّة الصافيَة، كأبي هريرة، وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن الزبير، حتى امتلأَ صدره علماً وفقْهاً وروايةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.

ولمَّا رأتْ السيّدة المكيّة أنّ غلامها قد باعَ نفسهُ لله، ووقفَ حياتهُ على طلب العلم، تخلَّتْ عن حقِّها فيه، وأعْتَقَتْ رقبَتَهُ تقَرُّباً لله عز وجل.

وُلِد رحمه الله في الجُند بمحافظة تعز باليمن لسنتين خلت من خلافة سيدنا عثمان بن عفان، رضي الله عنه سنة 17، وأصله من النوبة بأفريقيا، وتوفي بمكة سنة 115 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.

Email