مسامحة النفس صفاء روح

ت + ت - الحجم الطبيعي

«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».. دستور جليل وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحمل في طواياه معاني التسامح والتعايش، ويرسم خارطة للإنسانية جمعاء محورها قبول الآخر، ويبني مستقبلاً للمجتمعات لا يعرف الإقصاء. على امتداد الشهر الكريم نستشف عبق الأريج الإنساني في رسالة الإسلام، ونقف عند شخصيات من تاريخنا حققت معادلة الإيمان والإحسان.

كثير منا إذا سمع كلمة التسامح الآخرين، واعتبر أن هذا المفهوم مقصور على العلاقة بالآخرين دون غيرها، ومن نظر بتمعن إلى حقيقة التسامح يجد أنها منهج يعلمنا كيف نسامح أنفسنا كما نسامح الآخرين، فمسامحة النفس لها تأثير إيجابي عجيب في نيل السعادة، وتخفيف الأحزان، والخروج من عنق الزجاجة كما يقال، فما زال البعض منا يعيش في سجن ماضيه الحزين، وما زال يلوم نفسه ويقسو عليها، حتى يتأثر حاضره فيصير بلا حاضر وبلا مستقبل، ومن هنا يدخل في هذا الشخص اليأس والحكم على نفسه بأنه متأخر عن الآخرين وأنه ناقص، إلى أن تصل الحال بهذه النفس أن تنشغل ربما بالأمور الخاطئة لكي تنسى ما تعانيه من المتاعب النفسية التي تصيب هذه الشخصية، لذا تعد مسامحة النفس وترك القسوة عليها من أهم عوامل النجاح، إذ كيف تطلب من شخص أن ينطلق نحو التميز وهو في الحقيقة ينظر إلى نفسه نظرة عجز، وأنه تائه بسبب بعض أخطائه الماضية!

لكي تستقر في هذه الدنيا، وتنطلق نحو القمم وتنال عزيمة أهل الهمم، فإن عليك أولاً أن تتناسى الماضي الحزين الذي تذكر فيه أخطاءك، وتبدأ بالتركيز نحو السعادة في حاضرك، والتفاؤل في مستقبلك، لذا قال تعالى في كتابه العزيز: «قل للذين كفروا إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف» (الأنفال: 38) هنا تعليم وبيان أن الكافر إذا أسلم يغفر له الماضي بمجرد إسلامه، ولا يتخذه وسيلة إلى ظلم نفسه ويترك الإيمان والصلاح. نعم هي رسالة ربانية تدعو إلى مسامحة النفس مما بدر منها في ماضيها، وعدم ترك الخير في الحاضر بسبب الفائت المظلم، الذي ربما تكون فيه الذكريات العصيبة التي تدعو للقلق.

قصة زوج

شكت إليّ إحدى الزوجات أن زوجها تغيرت حاله، وبدأ يسهر خارج البيت بشكل يومي وصار منعزلاً عن الآخرين، ولم يكن التغير معي أنا فقط كزوجة، وإنما أهله نالوا ما نلته وهجر الجميع ما عدا أصدقاء السوء، فتم على حسب الإجراء المعمول فيه في إجراءات قسم الإصلاح الأسري تحديد لقاء معه، وجلست معه على انفراد، فرأيت منه فكرا عاجزاً، شخصية يحيطها الإحباط من هذه الدنيا، ومع الحوار تبين أنه كان يعمل ولكنه لم يحافظ على أمانة العمل، فتم فصله بسبب قضية معينة استحق على إثرها هذه النتيجة، إلا أنه بعد هذه الحادثة بدأ بالتهرب من أقرب الناس إليه، وكان يكرر كلمة «أنا فاشل»، إلى أن وصلت به الحال لمصاحبة رفقاء السوء وارتكاب المسكرات، ولا شك أن هذا أثر كثيرا في علاقته الزوجية، هنا قلت له: لا تجعل خطأك الذي تسببت فيه يكون ضدك، بل اجعله لصالحك، فليكن درساً لك في فهم الحياة أكثر، منهجاً يعلمك في عدم تكرار هذا الخطأ، فالإنسان في هذه الدنيا تأتيه البلايا لا من أجل أن ينتقم من نفسه وينتقل للأخطاء، وإنما لكي يرجع ويتفكر ويتدبر، كما قال تعالى: «وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون» فبين هنا أنه ابتلاهم لكي يرجعوا إليه ويتفكروا في الصواب، عليك أن تسامح نفسك على ما فات، وتكون لديك همة في أن تثبت أنك تعلمت من هذا الدرس، وأنك قادر أن تثبت أنك ناجح، اترك نجاحك وتميزك وإيجابيتك هي التي تتحدث عنك، وإياك أن تعالج الخطأ بالخطأ كما حدث معك.

هذا المثال ربما يتكرر مع حالات كثيرة منا، بسبب قسوتنا على النفس، وليس معنى مسامحة النفس أن نتغافل عن الأخطاء، ليس هذا المقصود، وإنما الشخص الناجح هو الذي يتجاوز الخطأ عن طريق الخطوات الصحيحة، وأهم خطوة هي الاعتراف بالخطأ أولا ثم مسامحة النفس لكي تهدأ وتنطلق نحو الطريق الصحيح.

* رئيس شعبة إدارة الجلسات الأسرية في محاكم دبي

Email