ديلاكروا يسبر مكامن الأنوثة الشرقية

ت + ت - الحجم الطبيعي

اجتذبت شمس المغرب العديد من الرسامين والمصورين العالميين الذين سافروا إليها، مثل ديلاكروا، ماتيس، بول كلي، كاندينسكي، وآخرين، وكان ديلاكروا أول فنان أوروبي يتذوّق فنون الشرق العربي والإسلامي، ويتأثر بها.

وتُعد رحلة ديلاكروا الشهيرة إلى المغرب فى عام 1832 محطة فاصلة في التفاعل بين الشرق والغرب، حيث اعتبرها أندريه مالرو فيما بعد نقطة انعطاف في التصوير الفرنسي، وبداية التحول من الرومانسية الاستشراقية إلى بدايات الانطباعية.

وعلى العكس من كثير من معاصريه الذين كانوا مهتمّين بأفكار اليونان وروما القديمة وتصويرها في أعمالهم، فضّل ديلاكروا أن يرحل إلى بلاد الشرق، حيث انجذب إلى شعوبه وصوّر تقاليدهم وأزياءهم في أعماله. كان ديلاكروا يعتقد أن شمال إفريقيا بتراثها الغنيّ وتقاليدها العريقة هي المعادل البصري للثقافة الكلاسيكية لشعوب اليونان وروما القديمة. 

 المرأة العربية.. رمز الأنوثة

لم يكن من السهل على أي فنان أوروبي أن يزور بلدان المغرب العربي، لما فيها من حروب طاحنة، إلا إذا كان في صحبة أحد السفراء، كما فعل الفنان ديلاكروا حال وصوله إلى طنجة، بدأ برسم تخطيطات عنها لكي تصبح مادة للوحاته الكبيرة المقبلة التي عرضها في متحف اللوفر الشهير.

ابهره الضوء الأبيض الذي يمّيز البيوت، وكذلك الألوان المتألقة في كل مكان. «.. إنني أعيش وكأنني في حلم وأنظر إلى الأشياء بفضول خشية أن تهرب مني».

هكذا كان يقول وقد فتحت حكايات ألف ليلة وليلة آفاق مخيلته ليغرف من الواقع النابض بالحياة، وخاصة ما رآه من نساء، فرسم لوحته المعروفة بـ "نساء الجزائر".

ففي هذه اللوحة، ظهرت معالم إبداعية جديدة تتحكم في العمل الفني، ورغبته في ارتياد معالم الشرق، من عادات وأزياء وطقوس كانت تشغل الذهن الأوروبي لفترة من الزمن.

ثم رسم  لوحة «عرس شرقي في المغرب» التي نقل فيها تفاصيل ومظاهر الاحتفال الشعبي لزفاف ابنة ثري مغربي وسط المحتفلين بالعرس من عازف الكمان وضارب الدف والمنشد، والنساء اللاتي يبتهجن بالعرس بالرقص والتصفيق، وقد أذهله حركة أجساد النساء وهو ما يُعرف بالرقص الشرقي. ونقط التحوّل الرئيسية في حياة الرسام بدأت فعلياً برسم لوحة "السلطان في مكناس" وهو يستقبل الكونت دى مورنيه فيما يمتطي السلطان جواده المهيب بأنفة الفارس العربي الجموح من خلال الأضواء والظلال التي ظهرت بصورة جلية في هذه اللوحة. 

كان ديلاكروا يعتبر أنه لو لم ير النساء الشرقيات حقاً فمعنى هذا أنه ما كان ليتصور كلياً ماهية الشرق الحقيقي في أكثر عناصره غموضاً، وخفية وسحراً. وحال عودته إلى فرنسا بدأ يرسم لوحاته الشرقية، معتمداً على الكثير من الرسوم التمهيدية والتخطيطات التي تظهر داخل البيوت الشرقية بما فيها من زينة ولوازم. وكذلك تلك التي تصور نساء جالسات أو شبه مستلقيات على السجاجيد! وهكذا بدت جميلات الجزائر، رقة ورهافة وذوقاً، عبقاً وحزناً وجمالاً. وللتعبير عن رقة الجمال بصورة متكاملة وحيوية، عمد ديلاكروا إلى استخدام لعبة الضوء والظل بالشكل المناسب لإظهار مكامن الأنوثة والأناقة معاً.

فقد جدّد فنه بالكامل إثر هذه الزيارة، بل أنها بعثت روح الرسم في أعماقه بعد أن نضبت ريشته في فرنسا، فأراد أن يعبّر عن واقع جيد في طور الاكتشاف والتذوّق. 

 السحر في اللون الأبيض

  كان «ديلاكروا» دعا زملاءه من الفنانين الأوروبيين إلى زيارة بلاد المغرب قائلاً «إن هذه الأماكن خُلقت للفن فقط، تعالوا إلى هذه المناطق «البربرية» نشعر بطبيعة الأشياء وأثر الشمس في الكائنات التي تخترقها وتشعل فيها الحياة بألق مذهل. فالكل هنا يسير في حلة بيضاء، كأعضاء مجلس الشيوخ الروماني ودعاة ألوهية الكون اليونانيين... وإنك لتجد نفسك في روما وأثينا... تخيل يا صديقي... الرومان واليونان أمام بابي".

لقد أمضى ديلاكروا في المغرب ستة أشهر، كانت بالنسبة له إعادة اكتشاف جديد لماهية الفن والحضارة ومفهوم الجمال والكلاسيكية والأصالة. وقال في وصف الطبيعة المغربية: «كنت أتنقل على صهوة جواد. إنها بلاد خلابة! جبال زرقاء ساطعة، بنفسجية من جهة اليمين في الصباح والمساء، بينما تبدو زرقاء عند الظهيرة، وثمة سجادة من الألوان المائلة إلى الاصفرار والبنفسجية، تفترش الطريق المؤدي إلى النهر.. كنت أراقب الظلال التي تولدها هياكل المسافرين وأرجل الفرنسيين؛ فالظل يرتسم دائماً كشبح من أسفل الردفين والساقين، ويبدو الخصر بدون أحزمة بينما تلمع «الإبزيمات» على الصدر ناصعة البياض كأنها بقع من نور»! 

كانت لوحاته بمثابة صور فوتوغرافية إذ لم تكن متوفرة آنذاك، فهي خلدت تلك الإنسانية التي لا نمتلك نسخاً منها سوى بريشة الرسام الذي تعلقت روحه بالشرق وظل يفكر به على  الدوام، حتى وهو يرسم موضوعات أخرى في لوحاته.

 

 الشرق أرض الأحلام 

ساعدت رحلة المغرب على استحداث مبدأ جديد للموضوعات الشرقية ففي العشرينيات رسم ديلاكروا مواضيع لوحاته الاستشراقية بعد أن توفرت لديه بعض الأشياء المادية (جلها من المنمنمات واللوازم البيئية والأزياء والأسلحة، والمصنوعات الفنية الشرقية)، مصوراً إياها بمعونة روح الشرق.  وجرى توليف الواقع والخيال، علماً أن وزن الأخير كان أكبر بشكل لا يقاس. أما في أعوام الثلاثينيات فقد حصل الفنان على تصورات غنية عن الطبيعة والإنسان في الشرق، ورأى بأم عينيه تنوع الألوان في البلدان الجديدة. وكانت الرحلة الواحدة هذه كافية للرسام أن تمدّه بالرؤى على الحياة.

وبالرغم من أن موضوع الشرق لم يفارقه حتى آخر أيامه، مثل رفاقه في الفن - شامارتان وديكان وماريلا، معللاً ذلك بقوله «سمات هذه البلاد بقيت راسخة في ذاكرتي وتتمثل أمام عيني دائماً».    ويحاول ديلاكروا فهم قوانين الإسلام وأنظمته وشعائره، بتدوين المعلومات عن التقاليد والعادات والشعائر كالخطوبة والزفاف والجنازة ومراسيم التخرج من المدرسة. كما يركز الفنان على كرم الضيافة ودور المرأة ومكانتها، وحاجات حياة الإنسان الشرقي وبساطتها، ويهتم الفنان بالشارع والسوق والمراسيم الرسمية والأعياد الدينية وملابس رجال الدين.

إن الشرق بالنسبة إلى الرسام هو بمثابة «أرض الأحلام» بعيداً عن نزاعات وهزات أوروبا في القرن التاسع عشر.  ويسعى الفنان عن طريق «التجاوب في المشاعر» إلى التوغل في جوهر الحضارة الشرقية، وماضيها ومستقبلها، وأدى الطموح إلى تكريس الإيجابي والمثالي إلى دفع الرسام إلى البحث عن التناسق الروحي في الشرق، إن رحلة المغرب ساعدت ديلاكروا على تطويره لنظرية اللون، فقد هيأ له الشرق فرصة اكتشاف العلاقة بين الضوء واللون، مسجلاً في «يومياته» ولوحاته الفنية الخصائص المناخية للشرق الأوسط والمغرب العربي وبين ألوان الملابس والأبنية المعمارية والطبيعية وغيرها.  وتكشف لوحاته عن الحس الحقيقي للفنان الذي أخلص لما رآه، وهو في جوهره ضد كل ما كان يبشّر به بعض المستشرقين الاستعماريين الذين نقلوا صورة غير حقيقية عن الإسلام من خلال تشويه الحقائق، لأن ديلاكروا لم يقدم إلى المغرب بأفكار مسبّقة، مرسومة من بعض الدوائر السياسية بل انبثقت ريشته من الواقع بدون تشويه ولا تزويق.

سيرة

فرديناند فيكتور أوجين ديلاكروا (26 أبريل 1798 - 13 أغسطس 1863)، رسام فرنسي من رواد المدرسة الرومانسية الفرنسية. له العديد من اللوحات الفنية المحفوظة في متحف اللوفر والمتاحف العالمية الأخرى. من أشهر لوحاته "الحرية تقود الشعب" التي رسمها عام 1830 ولوحة "سلطان المغرب" التي رسمها عام 1845 ولوحة "نساء جزائريات" التي رسمها عام 1830 التي تكشف عن تأثره بسفرته إلى شمال أفريقيا. كان والده سفيراً لفرنسا في هولندا ومحافظا لمرسيليا وتوفي وهو يشتغل منصب وزير الخارجية عندما كان عمره سبع سنوات كما توفيت والدته وعمره ستة عشر عاماً وبدأ ديلاكروا المثقف يعتمد على مجهوداته الخاصة فبدأ دراسة الفن مع المصور جيران وتعرف في مرسمه على جيرويكو وتأثر بأسلوب الفنانين المشهورين المعروضة أعمالهم في اللوفر.    وتوفر له المناخ الرومانسي عندما زار أسبانيا والمغرب في عام 1832، حيث تحمس لألوان وأزياء سكان شمال افريقيا .

وأضاف إلى لوحاته شاعرية حالمة وكثيراً من الخيال كما اهتم بالحركة واستخدم الألوان الزاهية. ولعل زيارته إلى المغرب وتعلمه لفنون أخرى أن أعطته الفرصة للقيام بمشروعات زخرفية للقصور والكنائس في فرنسا ما بين 1844- 1856 ، حيث كُلف بزخرفة قاعات في قصور بوربون ولوكسمبورج واللوفر وفي كنيسة القديس سلبيس. واعتبره المثقفون شخصية محورية هامة في الفن    كما أثنى عليه الشاعر الكاتب بودلير لأنه فتح لهم آفاق حلم جديد، وهو الشرق بكل ما يزخر به من فنون وأفكار وحضارات.

Email