فتح مكة.. حدث غيَّر مجرى التاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

في العشرين من رمضان سنة ثمان من الهجرة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكة على رأس أصحابه فاتحاً متواضعاً، بعد أن أظفره الله على المشركين من دون قتال.

صلح الحديبية

إن الحديث عن فتح مكة لا يمكن الخوض فيه بمعزل عن مقدماته التي سبقته، وأهمها صلح الحديبية، الذي كان المفتاح الرئيسي للفتح الأعظم.

كان صلح الحديبية نقطة فاصلة في تاريخ الدولة الإسلامية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس لكونه مقدمة مهمة من مقدمات الفتح فحسب، ولكن لأنه بشّر بمرحلة جديدة من مراحل سير الدعوة الإسلامية، وأسهم في تحويلها من الإقليمية إلى العالمية.

ومن أعظم ما لاحظه المؤرخون واستنبطوه أن النصر والفتح كان يأتي من الجهة التي لا يتمناها المسلمون، أو قل: من الجهة التي يكرهونها؛ ففي غزوة بدر، كان الصحابة يرغبون باغتنام قافلة أبي سفيان، ويكرهون القتال، ولكن شاء الله أن يكون النصر والغنيمة من ذات الشوكة، كما قال تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) الأنفال: 7. ويتكرر المشهد في فتح مكة؛ فبنود صلح الحديبية كرهها الصحابة، حتى برز فيهم قول عمر رضي الله عنه «لِمَ نعطي الدنية في ديننا؟» هذه البنود كانت من أسباب الفتح.

بكر وخزاعة

كان من بنود صلح الحديبية أنه من أراد من قبائل العرب الدخول في حلف محمد دخل، ومن أراد الدخول في حلف قريش دخل، فدخلت قبيلة خزاعة (المشركة) في حلف الرسول، ودخلت قبيلة بكر (المشركة أيضاً) في حلف قريش.

كانت الحروب قائمة بين بكر وخزاعة قبل صلح الحديبية، ولكن شاء الله أن يكون هذا الصلح لتدخل خزاعة في حلف المسلمين، وبكر في حلف المشركين، ثم تغير الثانية على الأولى، بمعاونة قريش، فتستنجد خزاعة بالمسلمين، فيتم الفتح للرسول صلى الله عليه وسلم.

أغارت قبيلة بكر على خزاعة، التي كانت آمنة وغير مستعدة للقتال، وقتلتْ منهم الكثير من الرجال، فلم تجد خزاعة إلا أن تفرَّ إلى الحرم، بحكم أن مساكنها قريبة منه، فخرجت رجالاً ونساءً وصبياناً إلى مكة، فطاردتها بكر بالسلاح، حتى وقع القتال داخل الحرم، دون أن تحرك قريش ساكناً، بل إنها أمدت بكراً بالسلاح في هذا القتال الأرعن.

خزاعة تستنجد بالرسول

أسرعت خزاعة إلى المدينة المنورة تستغيث بالرسول، وكان عمرو بن سالم أول من جاء إليه من خزاعة، وكان رد فعل الرسول عندما سمع منه ما حدث قوله: «نصرت يا عمرو بن سالم».

قرر الرسول نصرة خزاعة، لأنه كان فيما بينهم حلف يقضي بأن يدافع كل طرف عن الآخر إذا ما تعرض إلى أي اعتداء، بغض النظر عن ملة قبيلة خزاعة مسلمة أو مشركة.

لا شك أن ما فعلته قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق لم يكن له أي مبرر، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها، وقررت أن تبعث أبا سفيان ممثلاً لها ليقوم بتجديد الصلح. وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بما ستفعله قريش، قال: «كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد المدة».

لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم وفادة أبي سفيان، ولكن مع ذلك فإنه لم يخرج مباشرة إلى مكة، بل جهز العدة وأخفى وجهته حتى باغتهم ودخل مكة فاتحاً، دون قتال، فكان الفتح نصراً شرح الله به صدور العرب للإسلام فدخلوا فيه أفواجاً. روى البخاري عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة (أي: تنتظر)، فيقولون: دعوه فإن ظهر عليهم فهو نبي.

عشر سنوات

من الفوائد العظيمة التي اشتمل عليها صلح الحديبية أنه نص على وقف الحرب بين قريش ومحمد لمدة عشر سنين، فكانت مرحلة السلم هذه فرصة لانطلاق الدعوة الإسلامية خارج جزيرة العرب، فكانت المراسلات النبوية لملوك الأمم الأخرى كالروم وفارس والحبشة ومصر، وتحركت الدعوة داخل الجزيرة العربية بحرية، وهذا دليل على أن الإسلام دين سلام له رسالة أراد أن يؤديها، وليست الحرب إلا وسيلة لدفع قوة الاستكبار التي تحول دون تبليغ هذا الدين.

Email