حدث في رمضان

أحمد بن طولون.. مهندس نهضة مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الثاني عشر من شهر رمضان عام 254هـ (الموافق 3 سبتمبر 867م) دخل أحمد بن طولون مصر من قبل بايكباك والي العراق.

لم يكن يتوقع ذلك المملوك التركي أنه سيصبح يوماً ما حاكماً لإقليم كمصر والشام والحجاز، حتى سطر اسمه في صفحة أعظم الحكام الذين اتخذوا من نهج البناء والتطوير سيرة لحياتهم وأسلوباً لتعاملهم مع الحكم.

تسوق الأقدار كثيرين للوصول إلى مراتب لم يكونوا يتوقعونها، ولكن الله سبحانه أيضاً أوجد أسباباً وسنناً خلف هذه الأقدار ليستمر الإنسان صاعداً في سلَّم النجاح، دون أن يتواكل معتمداً على الأقدار التي أتت به إلى تلك المراتب، وهكذا كانت حال ابن طولون مع أم الدنيا.

كان أحمد بن طولون جنديّاً تركيّاً، ووالده أحد الموالي الذين أهداهم ملك بُخارَى للخليفة العباسي المأمون، وقد جاء إلى مصر نائباً للحاكم العباسي فيها، لكنه استأثر بالحكم، ثم بسط سلطانه على الشام.

ساقته الأقدار إلى ولاية مصر حين تزوجت والدته بالأمير بايكباك التركي، الذي عينه الخليفة المعتز والياً على مصر في عام (254هـ/ 868م)؛ فأرسل أحمد ليتولى حكمها بالنيابة عنه، وهنا بدأت شخصية هذا القائد تتضح من خلال إدارة شؤون البلاد.

ساعدت الظروف أحمد بن طولون في تثبيت أقدامه في مصر، فلما قُتل زوج أمه أُسنِدت إليه ولاية مصر، فقام على إخماد الثورات التي اندلعت ضده، دون أن يغفل أمر التطوير والتحديث الذي أضحت به مصر حاضرة حقيقية من حواضر المسلمين، لدرجة أنه أغرى الخليفة العباسي بالحضور إلى مصر واتخاذها عاصمة للخلافة العباسية بدلاً من بغداد.

حضارة ومدنية

يعد أحمد بن طولون رجل دولة من الطراز الأول، فلم تشغله حروبه لمناوئيه وطموحه في التوسع عن العناية بمناحي الحياة العصرية، فكان الإصلاح الاقتصادي من أولى الأولويات في مسيرته القيادية وتدبير شؤون الحكم. حيث يذكر موقع قصة الإسلام أن ابن طولون اتبع سياسة اقتصادية رصينة تجلت في مجالات متعددة، منها:

القطائع

أسس ابن طولون مدينة جديدة على جبل يشكر بين الفسطاط وتلال المقطم، وقد سميت المدينة الجديدة باسم القطائع؛ لأن كل طائفة من رجاله اتخذت لها قطيعة لسكانها، وبنى في مدينة القطائع قصراً ضخماً، جعل أمامه ميداناً فسيحاً ليستعرض فيه جيشه، ثم أقام حول القصر ثكنات لجنوده وحاشيته.

مسجد أحمد بن طولون

أراد أحمد بن طولون أن يشيد مسجداً جامعاً بالقطائع لا تأتي عليه النيران أو تهدمه مياه الفيضان، فإن احترقت مصر أو غرقت بقي، فحقَّق له المهندس رغبته، فبناه جميعه من الآجُرّ الأحمر، ورفعه على دعامات من الآجر أيضاً، ولم يُدخِل في بنائه أعمدة من الرخام سوى عمود القبلة، واستغرق بناؤه عامين.

البيمارستان

أنشأ ابن طولون بيمارستاناً لمعالجة المرضى مجاناً، دون تمييز بين الطبقات والأديان، وألحق به صيدلية لصرف الأدوية، وكان هذا الصرح آية في التميز والإدارة، فإذا دخله المريض تنزع ثيابه وتقدَّم له ثيابٌ أخرى، ويودع ما معه من المال عند أمين البيمارستان، ويظل المريض تحت العلاج حتى يتم شفاؤه، وكانت دلالة شفاء المريض قدرته على أكل رغيف كامل ودجاجة، وعندئذٍ يُسمَح له بمغادرة المستشفى، وكان ابن طولون يتفقد المستشفى، ويتابع علاج الأطباء، ويشرف على المرضى.

إنشاء القناطر

شيَّدت في عهده قناطر للمياه، بحيث يرفع الماء من البئر إلى القناطر بواسطة ساقية، ولا تزال بقية من هذه القناطر باقية إلى اليوم في حي البساتين بالقاهرة.

الزراعة

شجع ابن طولون الزراعة وبذل جهداً لزيادة الإنتاج الزراعي، فأصلح التُّرَع والقنوات التي تروي الحقول، وحفر الجديد منها، وأصلح السدود المحطمة، وحمى الفلاحين من ظلم جُباة الضرائب؛ ما أدَّى إلى ازدياد مساحات الأرض المزروعة وانخفاض أسعار الحبوب.

الصناعة

ازدهرت صناعة النسيج والكتان واكتسبت أسواقاً جديدة، واشتُهِرَت مصر في عهد ابن طولون بصناعة المنسوجات الصوفية، إضافة إلى المنسوجات المطرزة بالذهب التي عرفت بإنتاجها مدينة الإسكندرية.

إرساء العدل

كان أحمد بن طولون فلتة من فلتات الدهر وقدوة للحاكم الصالح المصلح، فما لقي ربه في العاشر من ذي القعدة 270هـ إلا بعد أن وحد البلاد وعمل على الإصلاح، فكانت فترة حكمه مثالاً يحتذى في توطيد الحكم وإرساء العدل والمساواة حتى أحبه الناس وأثنى عليه الخاصة والعامة. ويكفينا في ذلك قول ابن الأثير عنه: «كان عاقلاً حازماً، كثير المعروف والصدقة، متديناً، يحب العلماء وأهل الدين، وعمل كثيراً من أعمال البر ومصالح المسلمين».

Email