انهيار سد مأرب يعيد تشكيل التوزع السكاني لعرب الجزيرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

رحلنا في الصفحات السابقة ونحن بانتظار نور الهداية ووصول رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم ومبعوثيه إلينا تمهيدا لإسلام أجدادنا الأقدمين من القبائل العربية التي نحن بصدد التعرف على أخبارها وآثارها وجذورهجراتها واستقرارها القديم في صفحة اليوم.

رحلنا مع أخبارمشاغل القيادة الاسلامية في المدينة المنورة بأمر نشرالاسلام ومع وقائع المجلس الرمضاني الإسلامي الذي يتصل حبله بتاريخ بداية الدعوة في القرن الثامن الهجري، ثم ومن منطلق نظرة الرسول صلى الله عليه وسلم الجغرافية والإستراتيجية لوحدة المنطقة توقفنا مع أخبار وآثاروملامح المكان قبل الإسلام، وحاولنا البحث الجغرافي عن سيرة المكان والمسميات القديمة وموقعنا بين اقليمي البحرين وعمان، ومع الجغرافيين والمؤرخين والآثاريين.

رحلنا بين أرجاء الخليج العربي والجزيرة العربية قبل الإسلام والمكتشفات واللقى الآثارية لحياة الإنسان في المستوطنات البشرية في مناطق الإمارات ومنها (مليحة) خلال الفترة التي عاصرت الحضارة الهلينستية وامتزاج الحضارتين الغربية والشرقية وذلك قبل بزوغ فجر الإسلام وتعرضنا أيضا لملامح من الإشارات الجغرافية الأولى لمواقع ومعالم من أرض الإمارات في الخرائط القديمة.

وفي رحلة اليوم تكملة للصورة التاريخية لفترة ما قبل الإسلام وفيها نستعرض الوثائق والمراجع والروايات التاريخية التي تخبرنا عن القبائل العربية والسكان في الإطار الجغرافي المعروف آنذاك لموقعنا بين اقليمي البحرين وعمان، ولما كانت واقعة انهيار سد مأرب التاريخية الكبرى عام 580 م بداية تاريخ ديموغرافي للعرب داخل الجزيرة العربية وعلى أطرافها أيضا، فإننا نبدأ بهذه الخلفية التي تقودنا إلى أخبار هجرات أبرزالقبائل التي استقرت على سواحل الخليج العربي ومنها عمان والإمارات قبل الاسلام لما لهؤلاء السكان من دور بارز في اعتناق الاسلام أولا ثم الدور الكبير الذي لعبوه في حركة الفتوحات الاسلامية فيما بعد.

وتتصدر أخبارقبائل الأزد المهاجرة من اليمن هذا المحورالسكاني والجذور العربية التي تمتد عميقا في تاريخ المكان حسب ماترد عنها روايات المؤرخين والدلائل الآثارية وهي التي تكشف لنا عن حضارات وموانئ شهيرة لفترات ما قبل الإسلام منها (عمانا) في موقع الدرو في أم القيوين والمواقع المتعددة الأخرى المعاصرة لها في نفس التاريخ. كما تؤكد رحلتنا على أن النظام القبلي في الإمارات هو السائد منذ آلاف السنين كذلك تشير المصادر إلى أن المناطق الداخلية الممتدة في الصحراء كانت موئلا لقبائل وفدت من قلب الجزيرة العربية وشمالها، أي من القبائل العدنانية أو النزارية، وبشأن السكان من غير العرب سنقف على إشارات تاريخية عن الوجود الفارسي والساساني في عمان والبحرين في تلك الفترات حسب الروايات التاريخية المتعددة.

 

 

قال تعالى: "لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور، فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل، ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور، وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين، فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" (سورة سبأ، الآيات 15-19).

كان القوم في رغد من العيش وبدلا من الإيمان بربهم وشكره سبحانه وتعالى على هذه النعم والخيرات والجنان فإنهم جحدوا فأرسل الله عليهم سيل العرم ودمرهم وفرقهم بعد اجتماعهم، والحديث عن السد ومأرب المدينة يختصر حقبة مهمة في تاريخ اليمن والحضارة العربية والإسلامية، وإن واقعة انهيار سد مأرب التاريخية الكبرى والتي تعيدها المراجع التاريخية إلى عام 580 م كانت بداية تاريخ ديموغرافي للعرب داخل الجزيرة العربية وعلى أطرافها أيضا، حيث يرجع المؤرخون المسلمون قبائل الساحل إلى قبائل عربية تنتمي إلى الأزد القحطانية التي هاجرت من اليمن بعد انهيار السد، وهذه القبيلة استوطنت منطقة عمان، بما في ذلك الجزء الجنوبي الشرقي من ساحل الخليج العربي، وأشارت بعض المصادر الإسلامية إلى أن عمان كانت تحكم من قبل عرب اليمن قبل وصول قبيلة الأزد.

وحسب لورنس: "فإن اليمن مصنع العرب"، وقال أحد المستشرقين: "إن اليمن وحده هو الذي يستطيع أن يطالب التاريخ بلقب مهد العروبة".

ويقصد مهد العروبة هنا أنه مهد الساميين الثابت أن موطنهم الأصلي بلاد العرب وأن كلمة العرب تشتمل على مفهوم السامية فالعربية والسامية معناهما هو (العرب القدامى) ومن تفرع منهم. ودون الخوض في التفاصيل فإن أرض اليمن التي تمتد من الزاوية الجنوبية العربية بجغرافيتها البحرية وأرضها الخصبة مثلت أهم خزان بشري فاض على ماحوله مقتحما البحار والأدغال والصحارى لتنبت فيها أصولا عربية يشهد على وجودها الشاطئ الأفريقي شرقا ومناطق الشرق الآسيوي، كما يشهد التاريخ القريب على وجود اقوام من أصول عربية يمنية على أرض الشام والرافدين منهم اللخميون والمناذرة وأشقاؤهم الغساسنة وهم من الهجرات العربية اليمنية التي فاض بها ذلك الخزان البشري قبل الإسلام.

 

أزد عمان بدايات الهجرة

وبعد أن نتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "نعم القوم الأزد يحسنون ولايغلون هم مني وأنا منهم ومن لم يكن له أصل في العرب فليحق بالأزد فإنهم أصل العرب"، فإن الدكتور إلهام بنت أحمد البابطين في بحثها بعنوان (الخريطة التاريخية لسكان الجزيرة العربية في عصر الرسول- مجلة الخليج للتاريخ والآثار) تؤكد أن: "عمان شهدت هجرة قديمة من اليمن هي هجرة الأزد، وهي أحد بطون قبيلة كهلان القحطانية، وقد ظلت الأزد هي الغالبة على عمان حتى ظهور الإسلام، وكان يحكمها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جيفر وعمرو عبد- ابنا الجلندي اللذان أسلما ومن معهما على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه.

أما أكثر بطون كهلان انتشارا في البلاد عند بعثة النبي (ص) قبائل الأزد ومنهم أزد عمان، وقبيلة خزاعة بالقرب من مكة وأزد سراة ومن جملتهم ألمع ورجال الحجروغامد وزهران ودوس وخشعم وبجيلة ومن الأزد أيضا الأوس والخزرج في يثرب وقبيلة طي في جبلي (آجا وسلمى) وهذه هي رواية ابن حبيب محمد والطبري.

أما المؤرخ العماني السالمي فيقول: إن انهيار سد مأرب حدث عام 450 بعد الميلاد وفيه هاجر مالك بن فهم إلى عمان، وأن مالك بن فهم مات نحو 480 قبل الهجرة وهو جد لقيط ذو التاج، ونقرأ وصفا للنزاع بين مالك بن فهم وهو أول من هاجر من الأزد من اليمن إلى عمان وبين الفرس في الكتاب الأول من (كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة)، وأعلن فيه المؤلف صراحة أن الفرس لم يرجعوا إلى عمان بعد أن طردهم مالك بن فهم منها حتى نهاية حكمه وخلفه أبناؤه.

ووقعت مملكة عمان في حيازة الجلندي بن المسستتر أو المستكبر أو المستجير ويرجح المستكبر المعولي، ولقد جاورالأزد في عمان جماعات من (عبد القيس وبني سامة بن لؤي وقضاعة) حسب ما يشيرالدكتورحمدبن صراي، وثمة إشارة إلى أن هجرة الأزد باتجاه الشمال وبالتحديد أزد عمان بدأت في القرن الأول الميلادي.

وحسب الدكتور عبدالله الطابور فإن النظام القبلي في الإمارات هو السائد منذ آلاف السنين كذلك تشير المصادر إلى أن المناطق الداخلية الممتدة في الصحراء كانت موئلا لقبائل وفدت من قلب الجزيرة العربية وشمالها، أي من القبائل العدنانية أو النزارية. ومنذ ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي حتى مقدم البرتغاليين في أوائل القرن السادس عشر تحددت الشخصية العربية الإسلامية لمنطقة الخليج.

 

قبائل عربية منذ القرن 5ق.م

عميقا في التاريخ يؤكد الدكتور حمد بن صراي في كتابه تاريخ شبه الجزيرة القديم أن هناك أدلة تثبت أن قبائل عربية مهاجرة قد استقرت في شبه جزيرة عمان ربما منذ أواخر القرن الخامس قبل الميلاد فمن النقوش الفارسية المكتوبة على اللوحات أو قوائم تتحدث عن التبادل التجاري وجد الآثاريون نصين يعودان إلى عام (499 ق .م) يذكر أن سكان عمان كانوا من العرب، ويدلل الآثاريون على وجود قبيلة الأزد وغيرها من قبائل جنوب شبه الجزيرة العربية في شبه جزيرة عمان اكتشاف نقوش وكتابات وحروف على شاكلة نقوش جنوب شبه الجزيرة العربية والتي تعرف باللغة السبئية (لغة المسند) والمتعارف على تسميتها باللغة الإحسائية نسبة إلى أول مكان اكتشفت فيه.

ومع وجود هذا الدليل إلا أن الجانب الآثاري يحتاج إلى دراسة وافية تكشف عن عرق وأصل سكان المنطقة من أواخر القرن الخامس قبل الميلاد وإلى القرنين الثاني والثالث الميلاديين. وثمة إشارة إلى أن دراسة العظام والهياكل العظمية التي أجريت على هياكل قبور (سمد الشان) جنوب مسقط أن سكان الألفين الثالث والثاني قبل الميلاد وأوائل الألف الأول وأنهم أقرب شبها إلى سكان اليمن.

وفي سياحة السيرة التاريخية للامم البائدة التي سكنت أو تجولت في الامارات ترد إشارة غير مؤكدة الى مواقع صحراء الظفرة في ابو ظبي الان حيث تقول ان "أتيم" وهي احدى القبائل التي يحتمل ان يكون بعض افخاذها سكنت المنطقة، فقد ذكرت ديارها بين اليمامة التي تقع جنوب نجد وشرقها وتخوم عمان وحضرموت أي في موقع صحراء الظفرة تقريبا.

وقيل أنها سكنت ارضا تسمى "رمل عالج" وكانت كثيرة الزرع والماء كما يخبرنا الدكتور فالح فالح حنظل، و يعلق باحث عماني في مقال له عن التاريخ القديم لعمان بالقول: "تشير المصادر التاريخية أن العرب استوطنوا عمان منذ اقدم العصور، ومهما يكن من أمر فقد شكلت هجرات العرب من جنوبي الجزيرة العربية المصدر البشري الذي غذى المنطقة بهذا العنصر الذي شكل التاريخ اللاحق لهذه المنطقة. وللدكتور محمد العقيلي حديث عن قبائل عربية نزحت من الأوس والخزرج في نجد واستوطنت ساحل الخليج العربي في حدود الالف الثالث قبل الميلاد.

وقد استدل على ذلك من خلال وجود تناظر في شكل القبور التي عثر عليها في هذه المنطقة. وبين شكل القبور التي عثر عليها في جزيرة (آوال) البحرين، مؤكدا أيضا أن العرب مثلوا قبل الاسلام غالبية سكان منطقة الخليج ومن اشهر قبائلهم الازد وبكر ببن وائل وتميم وعبد القيس، وكان معظمهم من العرب العاربة (القحطانية) الذين قدموا من اليمن جريا وراء الاستقرار. ثم جاء بعده العرب المستعربة ( العدنانية).

 

السكان غير العرب

في رواية للبلاذري صاحب (فتوح البلدان) عن سكان عمان يخبرنا بأن الغلبة السكانية كانت للأزد ولكن بها من غيرهم وغني عن البيان ان سكان البوادي كانوا من القبائل العربية باستثناء ذلك كان الوجود الفارسي في عمان ضئيلا حتى أن (البلاذري) في روايته عن فتح عمان في السنة الثامنة للهجرة لم يتطرق الى وجود الفرس فيها غير أن رواية (الطبري) تشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح عمان أخذ الجزية مما يعني ضمنا أن الفرس كان لهم وجود سكاني في عمان تابعة للدولة الساسانية، وكان نفوذ الفرس قبل الاسلام في عمان محدودا كما كانت هناك قوة عسكرية ساسانية مركزها صحار على الساحل.

ويؤكد هذه الحقيقة (ابن الاثير) بإشارته إلى أن المجوس الذين أخذت منهم الجزية "كانوا أهل البلد بينما كان العرب حولها"، وفي بحث عن الانتشار العربي في الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية توضيحات بأنه كثيرا ما شهد الخليج العربي صراعات أثرت على هوية السكان على شواطئه إلى أن جاء الاسلام ليحسم الصراع ويعيد تثبيت الهوية العربية لسواحله العربية.

ومنذ القدم ايضا ظهرت على الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية مراكز حضرية متعددة، الا أن هذه المراكز تطورت ونمت بعد ظهور (الاسلام) مشيرا إلى أن ظهور العرب على هذا الساحل منذ اقدم العصور التاريخية المعروفة جذبتهم إليه عوامل تتعلق بموقع الخليج المتوسط في العالم القديم أهلته ليحتل مكانة مرموقة في التجارةالعالمية القديمة.

 

البحرين

وحسب الدكتور السخنيني أيضا كان الوضع مختلفا فقد خضعت البحرين للفرس الذين كانوا يحكمونها من خلال حاكم عربي بها معين من قبلهم وكان بها في عهد النبوة (المنذر بن ساوي) والى جانبه ممثل فارسي (مرزبان) يقيم في هجر قاعدة الاقليم، الى ذلك هناك كان وجود عسكري فارسي مباشر على ساحل البحرين.

أما الدكتور دانيال بوتس في كتابه الخليج العربي في العصور القديمة فهو يدون بأنه ومنذ زمن بعيد لاحظ دارسو جزيرة العرب في جغرافية كلوديوس بطليموس أن أسماء الأماكن والقبائل في المنطقة الواقعة بين شبه جزيرة قطر وحضرموت تدل على وجود سكان كثر فيها في القرن الثاني الميلادي، وتبين خارطة جزيرة العرب مثلما عرفها بطليموس أنها بلاد مسكونة بما فيه الكفاية عندما كان الناس يعملون ويتاجرون، وكانت هذه الشروط محققة في العهد الإسلامي.

وتجدر الإشارة إلى ما يرجحه المؤرخون بأن السلطة الساسانية في القرن السابع الباكر لم تكن قوية بنوع خاص، ويتقوى هذا الانطباع بالاطلاع على التقرير الوارد في كشف الغمة عن طرد الفرس على يد الأزد في أعقاب رفضهم اعتناق الإسلام.

ويفرد الآثاريون تفاصيل قيمة عن مكتشفات وسكان وفعاليات الحياة في موقع (الدور) بإمارة أم القيوين المرجح حسب الدكتور بن صراي والدكتور دانيال وآخرون أن يكون هو (عمانا) الذي أزدهر في الفترة من القرن الأول إلى القرن الثاني الميلادي قبل الإسلام بأربعة قرون، ويبدو أن عمانا لم يكن مجرد ميناء بل اسم حضارة أو مملكة كانت موجودة في شبه جزيرة عمان أو في أجزاء منها كما تدل الآثار واللقى التي عثر عليها في مواقع متعددة من شبه الجزيرة العمانية والتي تبلغ أكثر من (22) موقعا على الأقل. منها (الدور) (مليحة) (خت البثنة )- سمد الشان جنوب مسقط.

وهناك حضارة أخرى في داخلية عمان وتضم مواقع مثل سمد وسمد الشان وميسر ويوجد تشابه كبير وقوي بين اللقى الآثارية المكتشفة في مواقع الحضارتين مما يدل على التقارب والتزامن بينهما. وكانت لغة أهل عمانا كما ذكرنا سابقا أن السكان كانوا من عرب الجنوب وأنهم كانوا يستخدمون الحروف واللغة الإحسائية أو لغة المسند، كما تم اكتشاف عدد من الحروف والنقوش الآرامية وبعض حروف اللغتين اليونانية واللاتينية. بينما مارسوا من المهن التجارة والصناعة والزراعة والصيد البحري والبري والرعي وكانت لعمانا علاقة بالممالك العربية الأخرى في عهدها (ميسان) و(الجرهاء).

Email