احترافنا حقيقة.. أم وهم؟

الاحتراف لا يعترف بالاشتراكية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في بدايتها كانت مجرد لعبة تهدف إلى التسلية والترفيه، وكانت نوعاً من الرياضة البدنية، تستقطب اهتمام الشباب المفعم بالطاقة والحيوية، تشغل أوقات فراغهم بالمفيد النافع من الممارسات، وتحميهم من الوقوع فيما يشينهم ويشين المجتمع من المخاطر والانحرافات.

أحبها الصغار وانخرط فيها الشباب، ولم يعترض عليها الكبار، وأشاد بها التربويون، واقرها رجال الدين، وحظيت برعاية الحكومات.

فتحت لها الملاعب والساحات وأقيمت من اجلها المراكز والمنتديات، كسرت كل القيود وتخطت كل الحواجز والحدود، وانتشرت في كل البلدان والقارات، وأصبحت لغة مشتركة بين مختلف الشعوب، فلم يكن غريباً أن تتحول إلى صناعة مزدهرة وتجارة رائجة وقطاعاً من أهم قطاعات الأعمال ومورداً من موارد الاقتصاد، حتى صارت اليوم رياضة الشعوب والأمم والسبيل إلى اعتلاء القمم، إنها رياضة كرة القدم.

الحقيقة القاطعة التي تعلمناها وتعلمها غيرنا، اننا في مجال الاحتراف لا بد أن نبدأ من حيث بدأ الآخرون نستوعب ظروفنا ونتعلم من أخطائنا ونستفيد من تجارب غيرنا التي تؤكد أن الممارسة والمتابعة والزمن وتصحيح المسار كلها أركان أصيلة للوصول إلى الحالة الاحترافية الناضجة والتي من أبجدياتها أن الاحتراف فكر وثقافة والتزام، وهو لايقتصر على اللاعبين والمدربين والإداريين.

وإنما يمتد إلى الجمهور والإعلام ورجال الأعمال، وكل من له تأثير في المجتمع، وهذا الفكر وتلك الثقافة لا يمكن بناؤها في عالم افتراضي أو بمجرد التنظير والتأطير وعقد الندوات وتنظيم المؤتمرات وإعداد البحوث والدراسات، فهذه كلها لا تكتسب أهمية أو مصداقية ما لم تصاحبها تجربة عملية وتطبيق في أرض الواقع يكشف الثغرات ويظهر المخاطر والتهديدات ويحدد الاحتياجات ويصحح المسارات.

واليوم نكمل مابدأناه بالأمس دفاعا عن تجربة الإمارات الاحترافية التي أسفرت حتى الآن عن إيجابيات كثيرة وليس عن سلبيات فقط، كما يشيع البعض، رغم كل الاحترام لآرائهم ، فنحن نرى أن التجربة تتعرض لنقد غير بناء مما أشاع نوعا من روح التشاؤم غير المبررة، نحن نعترف بأن تجربتنا مازالت في مهدها وأنها لم تكتمل النضج، لكن ليس من المنطقي أن نقول ان احترافنا وهمي وصوري، وكنا قد أفضنا في هذا الجانب في حلقة الأمس وأكدنا حقيقة الاحتراف، وان الدعم الحكومي مهم وليس بدعة كما يتراءى للبعض.

الأندية الغنية والفقيرة

وحلقة اليوم نخصصها لمفاهيم الأندية الغنية والفقيرة، وبداية نقول ان كرة القدم لاتهتم كثيرا بنظرية الاشتراكية، وكما نعرف يحلو للبعض أن يصنف الأندية حسب حجم إنفاقها إلى أندية غنية وأندية فقيرة، مع تحفظي على بعض الأرقام التي يشار إليها في هذا المجال والتي تميل إلى المبالغة بسبب عدم دقة الأرقام المعلنة أو عدم التدقيق في المدى الزمني للنفقات، فعندما يدفع احد الأندية مبلغاً لشراء لاعب أجنبي لمدة ثلاثة مواسم فإن البعض يعتبر قيمة الصفقة ضمن نفقات الموسم الواحد مع انه يجب تقسيمها على ثلاث، وهكذا فإن ما يطرح عن أحجام الإنفاق يحتاج إلى توضيح وتدقيق، ومع ذلك فإنني اتفق مع من يقول ان بعض الأندية تنفق مبالغ كبيرة بالمقارنة مع أندية أخرى.

ذلك أنها تمتلك موارد مالية اكبر ولا مانع من وصفها بأنها أندية غنية وهذا أمر لا غرابة فيه، فنحن نرى الأندية على مستوى العالم تتفاوت في إمكانياتها المالية ومصادر تمويلها ويمكن القول ان ظاهرة الأندية الغنية موجودة في كل دول العالم مثل برشلونة وريال مدريد في اسبانيا، وتشلسي ومانشستر يونايتد ومانشستر سيتي في إنجلترا والميلان والانتر في إيطاليا، وهكذا في كل الدول.

فإذا كانت ظاهرة الغنى ووفرة الموارد لدى ناديين أو أكثر في أي دولة هي ظاهرة سيئة، فمعنى ذلك انها ظاهرة عالمية ونحن جزء من هذا العالم، وإذا كانت ظاهرة طبيعية، فلماذا نحملها الخطايا والأخطاء. و هل المطلوب من النادي الذي يملك موارد كبيرة أن يحتفظ بها ودائع في البنوك ؟ أو يتصدق بها على الأندية الأخرى ؟؟ أم عليه أن يوظفها في شراء اللاعبين والإنفاق على المعسكرات وغيرها من الأنشطة ؟

وهل المطلوب أن تتساوى الأندية في مداخيلها وأحجام نفقاتها ورواتب لاعبيها ومدربيها حتى لا يتميز ناد عن آخر ؟ وإذا حصل ذلك فهل هذا في صالح تطوير كرة القدم ؟ وهل الأفضل أن نقول للنادي «الغني» خفض نفقاتك وسقف طموحاتك ؟ أم نقول للنادي «الفقير» اجتهد في زيادة مواردك المالية من خلال الاستثمار واجتذاب الجمهور والحصول على الرعاية والاهتمام بمواهب الناشئين وتحويلهم إلى نجوم تتهافت الأندية على شرائهم؟.

هل من مصلحة كرة القدم في الدولة أن تتساوى جميع الأندية وتختفي المنافسة ؟

أنا أسأل من يدعو إلى تطبيق نظرية المساواة بين الأندية هل يقبل تطبيق هذا المفهوم في كل القطاعات ؟ وهل من الأفضل أن يتساوى الأفراد في مستوى الثراء والإنفاق ؟ وهل نمنع الشركات من إنفاق الملايين على الإعلانات مثلاً حتى لا تسيطر على حصة كبيرة من السوق وتحرم الشركات الصغيرة؟ لقد تعلمنا من اقتصاد السوق أن الاقتصاد ينمو ويزدهر بالمنافسة وليس بفرض القيود وتحديد الأسعار، لأن تحديد سقوف الإنفاق وفرض القيود وتحديد أسعار ورواتب اللاعبين تؤدي إلى اختفاء المتفوقين وهروب المواهب، فالعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق.

وأنا أضم صوتي إلى كل الأصوات التي تطالب الأندية بالإنفاق الرشيد مع التنبيه على أن ترشيد الإنفاق لا يعني بالضرورة التخفيض وإنما وضع النفقة بالمقدار الصحيح في الوقت الصحيح للغرض الصحيح. أما مجرد المطالبة بتخفيض إنفاق بعض الأندية المقتدرة للاقتراب من مستوى إنفاق الأندية الأقل قدرة فهو نوع قوي من المطالبة بالنزول إلى مستوى الضعيف ومطالبة السريع بالمشي على خطى البطيء وكأننا نطالب بنوع من الاشتراكية في الرياضة، مع أن كرة القدم تعمل وفق آليات السوق الحر والمنافسة.

8 . حصر المنافسة بين ناديين أو ثلاثة

هذه المقولة مرتبطة بالنقطة السابقة المتعلقة بالغنى وحجم الإنفاق، فالبعض يعتبر أن قدرة الأندية الغنية على شراء اللاعبين الأجانب المتميزين بمبالغ كبيرة يجعل المنافسة على الألقاب المحلية تنحصر بين ناديين أو ثلاثة، وهذا في نظرهم أمر سلبي يقضي على الطموحات ويجني على المواهب. لكن عند فحص هذه القضية ووضعها موضع الاختبار نجد ما يلي:

Ⅶ حتى أثناء فترة الهواية وقبل الاحتراف كانت المنافسة في العادة تنحصر بين ثلاثة أو أربع أندية، في حين تبقى أندية أخرى بشكل شبه دائم في منطقة الوسط وأندية أخرى تصارع في كل موسم للهروب من شبح الهبوط.

Ⅶ في أكثر الدوريات تقدما في العالم مثل الدوري الإسباني والدوري الإيطالي والدوري الإنجليزي تنحصر المنافسة على الألقاب بين ناديين إلى أربعة أندية ومع ذلك لا يؤثر ذلك على معنويات الأندية الأخرى، أو على مستوى المسابقات المحلية لأن أندية الوسط والقاع تعرف أن الطريق نحو الارتقاء والمنافسة يكون بالجهد وتطوير الموارد والمواهب.

Ⅶ لو كانت الأندية المحترفة العشرة أو الأربعة عشر كلها بنفس المستوى ولها نفس الحظوظ باللقب فهذا لا يدل إلا على شيء واحد وهو المستوى الضعيف للدوري وللأندية فمن السهل التساوي في الضعف، أما القوة والتميز فإنها عادة من نصيب القلة الأكثر اجتهاداً، والواقع في كل الدوريات في العالم يدل على ذلك. فالتميز والتفرد يكون في حالة القوة، والتساوي يكون في حالة الضعف.

الخلاصة

وفي الختام فإن ما دفعني إلى كتابة هذا المقال هو الخوف على تجربتنا الاحترافية الوليدة من أن تتأثر سلباً بالروح التشاؤمية التي يروج لها البعض بقصد أو بدون قصد، ومن ان يطغى الحديث عن السلبيات والأخطاء على الإيجابيات التي تحققت وهي كثيرة.

ولو أردت تلخيص ما تناولته في هذه المقالة بنقاط محددة حتى تبقى في الذاكرة وتكون قابلة لمناقشتها وتعديلها والبناء عليها لاختصرتها في ما يلي:

1 . رحلتنا الاحترافية بدأت ولا مجال للرجوع عنها مهما كانت المبررات.

2 . الأخطاء موجودة، وستظل موجودة ووجودها دليل العمل والتخلص منها يجب أن لا يكون بالتوقف عن العمل، وإنما بدراسة أسبابها ومعالجتها بالتشريع والتنظيم وتضافر الجهود.

3 . الكثير من المشاكل والسلبيات سببها نقص الموارد المالية لدى الأندية والحل ليس بإفقار الأندية الغنية بل بإغناء الأندية الفقيرة من خلال الاستثمار والرعاية والأهم في هذا المجال تطوير وتوسيع القاعدة الجماهيرية وهذا الجانب بالذات فيه تقصير من جميع الأندية، فهي لم تبذل جهداً علمياً مدروساً لبناء قاعدتها الجماهيرية، مع أنه أمر له أصوله القائمة على العلم والدراسة والتخطيط وقد يكون لنا حديث لاحق حول هذ الجانب.

4 . شركات كرة القدم في الأندية المحترفة حقيقية وليست وهمية ولا صورية، وهي بحاجة لمزيد من التطور والتنظيم.

5 . الدعم الحكومي والتمويل من رئيس النادي من الأساليب المشروعة والمقبولة في تمويل شركات الأندية، ويجب تطوير الموارد الأخرى مثل الاستثمار والرعاية والبث التلفزيوني والتذاكر وغيرها.

6 . التفاوت في الإمكانيات المالية بين الأندية أمر طبيعي واستغلال الإمكانيات المالية في شراء اللاعبين المتميزين والموهوبين بمبالغ طائلة أمر لا يمكن الاعتراض عليه لأنه من طبيعة المنافسة.

7 . أن تنحصر المنافسة على الألقاب بين ناديين أو ثلاثة أو أربعة ليس عيباً في حق اللعبة أو تهمة للأندية المتفوقة وإنما تحد لبقية الأندية لكي تطور مواردها وأدواتها للالتحاق بركب المنافسة.

وختاما فإنني على يقين أن اختلاف الآراء لا يفسد للود قضية، وان الانتقادات والاعتراضات إنما تعبر عن رغبة في التطوير وتصحيح المسار والمضي إلى الأمام ولا تعني أبدا ولا يجب أن تعني الدعوة إلى الهدم والرجوع إلى الخلف، فمجتمعنا الكروي في دولة الإمارات بريء من ذلك.

إنني أدعو الجميع إلى المزيد من الحوار والبحث والتعاون، كما أدعو الجهات المسؤولة عن اللعبة وعلى رأسها اتحاد الكرة إلى توفير المزيد من أدوات واطر التلاقي والتحاور بين الخبراء والمسؤولين في الأندية والإعلام الرياضي ومراكز البحث لتوحيد جهود الجميع نحو دعم مسيرة الاحتراف والاستفادة من الدعم اللامحدود الذي توفره القيادة الحكيمة في الدولة لكافة الأنشطة الرياضية بشكل عام ولكرة القدم بشكل خاص، فالجميع في ركب واحد، والإنجاز حتى وإن كان على مستوى الفرد أو النادي أو المنتخب، إنما هو إنجاز للشعب والوطن والمجتمع.

الحقيقة القاطعة التي تعلمناها وتعلمها غيرنا، إننا في مجال الاحتراف لا بد أن نبدأ من حيث بدأ الآخرون نستوعب ظروفنا ونتعلم من أخطائنا ونستفيد من تجارب غيرنا التي تؤكد أن الممارسة والمتابعة والزمن وتصحيح المسار كلها أركان أصيلة للوصول إلى الحالة الاحترافية الناضجة والتي من أبجدياتها أن الاحتراف فكر وثقافة والتزام، وهو لا يقتصر على اللاعبين والمدربين والإداريين، وإنما يمتد إلى الجمهور والإعلام ورجال الأعمال، وكل من له تأثير في المجتمع.

وهذا الفكر وتلك الثقافة لا يمكن بناؤها في عالم افتراضي أو بمجرد التنظير والتأطير وعقد الندوات وتنظيم المؤتمرات وإعداد البحوث والدراسات، فهذه كلها لا تكتسب أهمية أو مصداقية ما لم تصاحبها تجربة عملية وتطبيق في أرض الواقع يكشف الثغرات ويظهر المخاطر والتهديدات ويحدد الاحتياجات ويصحح المسارات.

Email