أرض عرفت الثراء وعايشت النعمة منذ ما يزيد على 1400 سنة

إبراهيم بو ملحة يجول في تسمية وموقع دبي لغوياً وتاريخياً

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

جملة من التساؤلات حول اسم دبي أجاب عنها إبراهيم محمد بو ملحة المستشار الثقافي لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، في محاضرة ألقاها مساء الأربعاء الماضي في ندوة الثقافة والعلوم بدبي يوم الأربعاء الماضي.

وأثار بو ملحة في حديثه الطويل والغني عدداً من الأسئلة حول محطات في تاريخ إمارة دبي، واستهلها بالقول: «ما أصل هذا الاسم وممّا اشتق، وهل هو قديم في إطلاقه على هذا الموضع، وإلى أيّ عصر يرجع، وهل كان هذا الموضع يسمّى بذلك الاسم أم أن له تسمية أخرى، ثم أطلق عليه ذلك، وفي أي فترة تاريخية تم هذا التغيير وما هو السبب فيه، وهل دبي والوصل اسمان مترادفان لبعضهما لذات المكان والعصر.. أم أن كلاً منهما مستقل عن الآخر وله عصره المختلف الذي أطلق عليه فيه؟».وتابع بوملحة تساؤلاته قائلاً: «هل اسم دبي الذي جاء عرضاً في بعض المعاجم، يشمل هذا الموضع المعروف الآن بإمارة دبي، أو أن ذلك كان لموضع آخر غيره في ذات المنطقة، أو في مكان آخر عنها وماذا عن الشندغة وديرة ومتى سكنتا، ولأي سبب كان سكناهما وماذا كانتا قبل ذلك.

وما الأبراج والمربعات فيهما وفي بر دبي وتسمياتها ومواقعها وسبب إنشائها وفي أي عصر بنيت وماذا بقي منها وماذا انتهى .. وما الأسواق التي كانت موجودة آنذاك وتسمياتها ومواقعها، وما أشهر الحرائق التي شبت في دبي ومواقعها وتواريخها وتسمياتها وماذا عن المساجد وزمن إنشائها ومواقعها وأئمتها والمؤذنين فيها؟».وإلى غير ذلك من الأخبار والتفصيلات الواردة في ثنايا البحث لكثير من المسائل والقضايا. أعد بوملحة بحثاً شاملاً، يجيب عما ورد من استفسارات تشغل بال الباحثين، معتبراً أن المحاضرة التي يقدمها تمثل جزءاً من بحثه.

المعاجم اللغوية

وقال بوملحة: «لو بدأنا البحث في مادة هذا الاسم (دَ/بَ/يَ)، ورجعنا إلى بعض المعاجم اللغوية لاستجلاء معناه، لوجدنا أن لسان العرب المحيط أكثر تلك المعاجم ضبطاً للكلمة وإحاطة بمعانيها واستعمالاتها فيذكر: دَبَيَ: الدبَى الجَرادُ قبَل أن يَطير، وقيل: الدبى أصغرُ ما يكون من الجراد والنمل، وقيل: هو بعدَ السّروِ، واحِدَته دباة، وقد ذكر اسم دُبَيّ وعرفه بأنه موضع واسع، وأن الدبا ينتشر فيه بشكل كثير حتى أصبح القول بدبا دبي إظهاراً للكثرة، فيقال: جاء بمالٍ كدبى دبيّ أي بمال كثير ككثرة الدبا بذلك الموضع الواسع».

ثم أضاف قائلاً: «لدُبَيّ وصف أكثر من كونها موضعاً واسعاً فقال..(ودُبَيّ: موضع ليّن بالدهناء يألفه الجراد فيبيض فيه، والدَّبَى.. موضع ودَبَى سوق من أسواق العرب، ودبية: اسم رجل، قال ابن سيده: وهذا كله بالياء لأن الياء فيه لام. وجال بو ملحة في عدد من المعاجم مستخلصاً معاني اسم دبي، وهي أنها سوق من أسواق العرب، علاوة على أنها موضع واسع ينتشر فيه الدبا، مؤكدا اتفاق عشرات المعاجم في بيان معنى الدَّبَى، الا أن بعضها أضافت إضافة جديدة، وهي أن من معاني الدَّبَى أيضاً المشي الرويد أي الهادئ المتباطئ.

سوق للعرب

ويستطرد بو ملحة قائلاً: «ليس من حاجة بنا إذن لإيراد أو إضافة معاجم أخرى، طالما أن بيان هذه المعاجم جميعها متشابه فيما بينها، وذلك لاعتماد المتأخّر منها على المتقدّم، وتلك سمة المعاجم في الإبانة وإيضاح المفردات، ولم يرد في المعاجم التي ذكرناها وصف (دُبَيّ) بالياء المشدّدة صراحة بأنها سوق للعرب، وإنما ورد لدى بعض المعاجم منها ذلك الوصف عند بيان معنى الدَّبيَ، بأن الدَّبَى بالألف المقصورة وبدون أل التعريف (دَبَى) سوق للعرب.

ويقول: «في رأيي المتواضع، إن المراد منها دُبَيّ الإمارة المعروفة لأنه بفحص وتحليل مادة (دَبَى) الواردة في المعاجم والمكتوبة بالألف المقصورة(ى)، نجدها واردة تحت مادة (دَبَيَ) اليائية كما صرّحت بذلك بعض المعاجم بأن أصل الألف المقصورة فيها ياء لبيان ذلك، والتأكيد عليه مثل معجم لسان العرب.

أما (دبا) فإنها بالألف الممدودة، وقد تقصر لكنها تكتب ألفاً وترد في غير هذا الموضع من المعجم، لأنها ترد في مادة الدال والباء والألف، لذلك فإنني أرى بناء على ذلك التحليل، أن دَبَى الموصوفة بأنها سوق للعرب قد تنصرف إلى دُبَيّ، وليس إلى دبا ليائية المادة التي وردت فيها، أو قد يجوز حملها عليهما معاً بأن تكون كل واحدة منهما سوقاً للعرب.. أي من دُبَيِّ ودبا».

الخير والمال

ويتابع بوملحة محاضرته بالقول: «ذكر معجم لسان العرب قوله (دبَى دُبيّ......... يقال ذلك في موضع الكثرة والخير والمال الكثير)، وكما جاء ذلك في معجم تاج العروس من جواهر القاموس في قوله (يقال ذلك في الخير والكثرة فكأنه قال جاء بمال ذلك الموضع الواسع).وربما هذا شيء مشاهد ومتحقق على مدى طويل من تاريخ دبي، حيث امتازت هذه البلدة الطيبة بخيرها وازدهارها ونماء اقتصادها بشكل متميز وملفت.

وربما كما اعتقد أن ذلك في شيء كبير منه راجع إلى الخير فيها لأن المال إن نزع منه الخير والبركة لم يعد قادراً على تحقيق التنمية، فدبي مثلها مثل غيرها من البلدان، ولربما كانت أقل موارد من غيرها بكثير، ولكن رغم ذلك ازدهرت ونمت وتطورت إلى ما نراه اليوم من حالها. أما في اصطلاحها الجغرافي فتتفق المعاجم التي أوردنا نصوصها على أن دُبَيّ موضع واسع، ثم تذكر تحديداً أكثر قليلاً بأن دُبَيّ موضع ليّن بالدهناء يألفه الجراد فيبيض فيه، والدهناء لغة هي الصحراء ذات الرمل الكثير».

الموقع الجغرافي

وعبر مجموعة من الكتب التاريخية، أورد إبراهيم بو ملحة قصصاً عدة نقلت عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مضيفاً: «لقد اتضح لنا بصورة جليّة تحديد الموقع الجغرافي لدُبَيّ الواردة في المعاجم، وذلك طبق ما جاء في كتاب السالمي عنها من أنها في طرف تنتهي عمان عنده ثم تحديدها بصورة قاطعة في كتاب السيابي من أنها في الأطراف الشمالية الساحلية.

وذلك ما يتطابق وواقع إمارة دُبَيّ الجغرافي من أنها تقع عند الأطراف الشمالية الساحلية لعمان، حتى أن أهل عمان كانوا يطلقون على أهل هذه الأطراف (الشماليون، أو أهل الشمال)، وإن كان هذا المرجع من المراجع الحديثة، لكن مولّفه عالم محقّق يطمئنّ الباحث لنقله، وإن لم يوثّق روايته بمرجع قديم».

ويقول: «من هذا الاستعراض يتّضح لنا أن دُبَيّ، التي جاء ذكرها في المعاجم التي أوردناها من أنها موضع واسع لينّ بالدهناء، ومن أسواق العرب هي ذاتها ما رسم صورتها وحدّدها السالمي في تحفته والسيابي في كتابه عمان عبر التاريخ، فيما هي عليه من موقعها المعاصر وتسميتها الحالية وليس هناك موضع يعرف بدُبَيّ غير هذا الموضع الذي وضحت صورته» وتحدّدت معالمه الجغرافية بإمارة دُبَيّ.

لكن المعاجم لم تتعرض لمكان وجودها على الخارطة، أو تعطي شبه تحديد لمعالمها أو تضفي عليها أوصافاً أكثر مما وصفتها به، لتتضح صورتها في ذهن الباحث، فلم تذكر عنها أكثر من كونها موضعا واسعا ليّنا بالدهناء، يألفه الجراد فيبيض فيه وأنها من أسواق العرب».

الدهناء

ويغوص بوملحة في المراجع ليقول: «بعض المراجع التي ذكرناها، عرفت دبي بأنها موضع بالدهناء وهي الصحراء ذات الرمل الكثير، ولا نعرف ماذا يقصد بالدهناء، هل هي مسمّى لصحراء معينة يطلق عليها اسم الدهناء، أو وصف لواقع جغرافي للأرض التي تشتمل على هذا الموضع من كونه ذو رمال كثيرة، إضافة إلى أن بعض المعاجم قد ذكرت أن الدهناء الفلاة وعشبة حمراء ، وكذلك في معجم البستان فقد وردت الدهناء بأنها الفلاة وعشبة حمراء.

وقد أوردت تسمية الدهناء لبعض الأراضي من بلاد العرب، فقد ذكر «لسان العرب» بأن الدهناء موضع من بلاد بني تميم مسيرة ثلاثة أيام لا ماء فيه، وهي قليلة الماء كثيرة الكلأ ليس في بلاد العرب، مربع مثلها وإذا أخصبت ربعت العرب جمعاء».

وجاء في» تاج العروس» عن الدهناء الحديث ذاته الذي ذكره لسان العرب في تحديدها، لكنه أضاف على ما جاء في «لسان العرب» بأن الدهناء اسم لدار الإمارة بالبصرة، وموضع أما ينبع بينهما مرحلة لطيفة» ومنها يتزوّد الماء إلى بدر».

ويضيف بو ملحة قائلاً: «إذا استعرضنا مواقع هذه الأراضي المسماة كلّ منها بالدهناء والمذكورة في المعاجم، نجد أن تلك المواضع تبعد كثيراً عن دُبَيّ الموصوفة بأنها موضع بالدهناء، لأن إحداها كما أوردها لسان العرب ومحيط المحيط في بلاد بني تميم بنجد والأخريات، كما جاء ذكرهن في كتاب المشترك وضعاً المفترق صقعاً في بلاد بني تميم بنجد أيضاً، والثانية في بادية البصرة والثالثة قرية على ميل من ينبع، وكل ذلك بعيد جداً عن موقع دبي».

وأضاف إبراهيم بو ملحة قائلاً: «لم يبق إذن أن يكون المقصود من الدهناء التي حدّدت المعاجم وقوع دُبَيّ في نطاقها إلا المعنى اللغوي من إطلاقها، وهي أن دُبَيّ تقع في فلاة ذات رمل كثير، وذلك ما يؤكّده موقع دُبَيّ الجغرافي، فما يلي البحر منها صحراء مرملة.

السعة واللين

ويوضح بوملحة قائلاً: «عرفنا أن هذا الموضع يقع في صحراء مرملة، والوصف الآخر أنه واسع ليّن من دون أن تبّين هذه المراجع ما المراد بالسعة واللين فيه، ويتبادر لذهني، بحسب ما يقول بو ملحة، بعد شيء من التفكير وترديد النظر في التعريف أن السعة واللين فيه يراد بهما أن هذا المكان رغم وجوده في الصحراء وبين كثبانها الرملية، إلا أنه سهل مستو واسع يمتاز بليونة سطحه وبعده عن الخشونة، أو أن السعة فيه كما ذكرت، ولكن الليونة يشار بها إلى شيء من نعومة الحياة ويسر العيش ورفاهيته فيه.

كما مرّ بنا في قولهم (جاء بمال كدَبَى دُبَيّ) إشارة لما لهذا الموضع من خير ومال وفير.أما الوصف الآخر كونه سوقا من أسواق العرب، فله في هذا الوصف جانبان، ولم يكد يقتصر التعامل فيها على محلّيتها، وإنما كان لها وضع عام اكتسبته من تميّز موقعها وإستراتيجيته الذي أعطاها هذا الوضع التجاري المؤهّل.

لأن تكون ملتقى العرب في بيعهم وشرائهم وتبادل سلعهم ومنافعهم المادية، وبإمعان النظر في ذلك أرى أن هذا الموقع المميّز الذي كان من نتيجته أن جعل دُبَيّ سوقاً من أسواق العرب أكبر من أن يكون موضعاً مجرّداً بالصحراء فقط، فلابد أن يكون إذن هناك شيء آخر أضاف إلى هذا الموقع تفرّده وأهمّيته وما ذاك في ذهني إلاّ موقعها على ساحل البحر وإن لم يأت ذكره بهذه الصفة وإنما بصفته سوقا من أسواق العرب».

البحر والتجارة

ويقول بوملحة في محاضرته: «المعروف أن البحر يحتوي على نعم من الصيد واللولؤ ووسيلة متاحة للاتصال بين الشعوب، وما يتبع ذلك من تجارة في هذين المصدرين من مصادر التجارة الرائجة في ذلك الوقت، وتبادل للسلع والمنافع بين الشعوب والمدن، فتأتيه القوافل بقدر ما تصله السفن، وبذلك تتجدّد حركته وينشط سوقه وتأخذ صفته العامة بين العرب من كونه سوقا معروفا لهم يرتادها جماعة بإبلهم وآخرون بسفنهم يبيعون ما يحملون ويشترون ما يجدون.

ولا أرى تفسيراً لمعنى كونه سوقاً من أسواق العرب إلا بهذا التفسير الذي أشير إليه، من كونه يجمع بين موقعين أحدهما بري وآخر بحري أدّيا لازدهار تجارته ونماء سوقه لدى العرب في ذلك العهد القديم من تاريخه الذي ينيف على ألف وأربعمائة عام».

ويضيف قائلاً: «تلخيصاً لما سبق فإنه بإمعان النظر في المفردات التي أوردتها المعاجم وبيّنت معانيها كل منها، نرى أنها ذكرتها بلفظ (دُبَيّ) بضم الدال وفتح الباء وتخفيفها وتشديد الياء وبلفظ دُبِيّ ودَبِيّ وعرفتها على أنها موضع واسع، ثم على أنها موضع ليّن بالدهناء يألفه الجراد فيبيض فيه.

وذكرتها أخرى بلفظ ( الدَّبى) بالألف واللام وفتح الدال على أنه موضع فقط.، وذكرتها ثالثة بلفظ (دَبى) بفتح الدال على أنها سوق من أسواق العرب دون أن تنقط الياء فيهما (الدَّبَى - دَبيَ )، مما يتبادر إلى القارئ مباشرة أنها (دبا) الموضع المعروف بعمان والذي ذكرته المراجع وأسهبت في الحديث عنه وذُكر في أكثر من مرجع على أنه سوق من أسواق العرب المشهورة».

تسمية قديمة

وحول اسم دبي ، سواء أكتبت بالألف الممدودة أم المقصورة، يوضح بو ملحة قائلاً: «إن العبرة بنطق الكلمة لا برسمها مادامت تقرأ على كلا الوجهين بنطق واحد، دون أن يغيرّ من حقيقة معناها شكل رسمها، ولكن ما ينفي أن يكون المراد (دبا) من لفظ (دَبى أو الدَّبيَ) أنّ المؤلف وإن لم ينقط الياء فيهما، إلا أنه ذكر أنها ياء وأكّد ذلك بقوله في لسان العرب.

وفيما سبق من إيراد نصوص المعاجم لمادة (دَبَيَ)، وبيان معناها أو وصفها، ومقارنة تلك النصوص ببعضها وتحليل معانيها واستنتاج ما يعطي قناعة منطقية وعلمية بأن دبي المذكورة في هذه المعاجم هي إمارة دُبَيّ ذاتها، وأن هذه التسمية قديمة ضاربة في التاريخ عرفت بها قبل البعثة المحمدية الشريفة، كما أسلفنا من أن مبعوث النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه حين جاء يحمل قبس الهداية ومشاعل النور والضياء لأهل عمان، قام به جيفر من إرسال بعوثه إلى أنحاء عمان، وكان من ضمن الأنحاء التي ارسل إليها دبي، كما ذكر ذلك السالمي والسيابي.

وقالا إنها تقع مما يلي عمان وأضاف السيابي بأنها الحدود الشمالية الساحلية لها، وذلك مما يؤكد على أنها دُبَيّ الحالية بموقعها المعروف لأن في تحديد هذين المرجعين الموثوقين جزماً بأنها ذات دُبَيّ المقصودة منهما».

العيش الرغد

وما ورد في بعض المعاجم من أنها سوق من أسواق العرب حسب تحليلنا السابق لمادة دَبَى فإنه يُقصد بالعرب هنا العرب قبل البعثة المحمدية الشريفة، وفي الإشارة بأنها سوق للعرب، وأنها موضع لّين وما أوردناه في ثنايا حديثنا من تعريف اللّين بأنه قد يراد به العيش الرغد المترف الذي يحياه أهلها، إلى أن هذه المنطقة عرفت الثراء وعايشت النعمة منذ قديم عهدها فيما يزيد على ألف وأربعمائة سنة مضت، وما ورد في بعض المعاجم في بيان معنى دَبَى بأنها من الدَبَى وأنه يكثر بها كثرة يضرب به المثل وربط هذا المثل بكثرة المال لكثرة الدبي بها (جاء بمالٍ كدبى دُبَيّ).

وهذه المنطقة اشتهرت بالتجارة منذ وقت بعيد ولا يزال لطبيعتها التاريخية في هذه الناحية انعكاس لحال واقعها التجاري المعاصر، فالتجارة فيها إذن ليست وليدة ظروف مستجدة وإنما هي ضاربة في أعماق التاريخ، وكأن لموقعها بل حتماً إن لموقعها دخلا في تحديد طبيعة توجه وعمل أهلها منذ ذلك التاريخ ولا يزالون على ما هم عليه من نشاط وحذق تجاري.

وحتى تكتمل معالم البحث في إعطاء الصورة الواضحة عمّا نحن بصدده عن دُبَيّ، وحيث أن الشق الأول وهو البحث في المعاجم والمراجع التي تعرضت لاسم دبي لغوياً وجغرافيا وتاريخياً، فإن الشق الثاني الذي يجلي الصورة ويتمّمها هو الروايات الشعبية من أفواه ممن عايشوا روايات من سبقهم عن تاريخ دُبَيّ ونشوئها وقبائلها وتسميتها وحكامها وغير ذلك من تفاصيل الأحداث والأخبار المشوقة التي حتماً لا تجدها بشكل تفصيلي بين دفتي كتاب ما لأنها من الندرة بمكان إلا من أفواه الرواة.

روايات شفوية

ويذكر بو ملحة في محاضرته أهم الرواة الذين يمتازون بقوة ذاكرتهم وثراء حافظتهم بكثير من الأخبار والحوادث السابقة المحامي محمد سعيد النيار الذي ينقل كثيراً مما سمعه عمن قبله من الرجال فيما كانوا يتداولونه بينهم في مجالسهم العامرة كمجلس محمد بن أحمد بن دلموك الذي كان يحضره كبار القوم ووجهاؤهم مثل الشيخ مانع بن راشد آل مكتوم ومطر بن مصبح وراشد بن بطي البواردي ومحمد بن بيات وسبت بن خليفه الفلاحي وعلي بن سعيد بن شاهر رحمهم الله وغيرهم، والذين كانوا يطرحون بينهم كثيراً من أحداث بلدهم وتاريخه وتفاصيل قبائلهم وأخبار الناس السابقين وغير ذلك من الأمور الهامة التاريخية.

ويقول: «يروي لي النيار أن دُبَيّ كانت قديماً يطلق عليها الوصل.. التي تقع جنوب منطقة جميرا في المكان الذي اكتشفت فيه آثار لبناء قديم تحت الأرض، وكانت تسكن هذه الأطراف جماعة من آل بوفلاسا من بني دبّاب وكانت لهم الغلبة والرئاسة على من عاداهم من العشائر الأخرى، وكان القوم يسكنون شتاء في منطقة الصفا لدفئها، ويصيّفون في الوصل التي تشتهر بنخيلها آنذاك.

وكانوا قد بنوا فيها قلعة كبيرة لحراستهم ورصد المغيرين الذين يغيرون عليهم وخاصة من جهة البحر، وكانت في القلعة حراسة مستمرة، وقد تفشّى الطاعون فيهم، وأتى عليهم وخلت الوصل من سكّانها، وانتشر الوباء في البلاد، ولم ينج منهم الا القليل الذي بادر بإخبار العوائل في مصيفهم بما حدث لسكان الوصل من الهلاك والدمار».

ويستطرد قائلاً: «جاءت العوائل لكنهم لم يدخلوا الوصل لوبائها، وكانت ضمن العائدين زوجة حاكم الوصل (شيخ بني دبّاب)، فجاءت العوائل وسكنت في النّيف على ضفة الخور الجنوبية، وكانت امرأة حاكم الوصل حاملاً فنذرت إن وضعت ولدا ان تسميه خليفة على خليفة بن دبّاب، أما إذا جاءت ببنت فستسمّيها دباه تخليداً لذكرى القبيلة.

وشاء الله أن تلد بنتاً فأسمتها كما نذرت دباه، وبها تغيّر اسم النيف بعد فترة إلى اسم دبي نسبة إلى دباه هذه، وسمّي الخور بخور دبي بعد أن كان يطلق عليه خور النّيف، (والنّيف يطلق على المكان المرتفع) وسكنت العوائل كما ذكرنا في النيّف وجاءت سفن الغوص إلى البلاد وأخبروهم عن مصير سكان الوصل وما لحقها من الوباء».

قبيلة بني دباب

ويضيف بو ملحة قائلاً: «بعد أن سكنوا قاموا ببناء برجين أحدهما عند موقع المصلّى القديم ببر دبي عند سدر السيد، وكان في هذا المكان آبار مياه يستقون منها، ويذكر النيار بأنه قد لحق على هذا البري وكان قديماً متمايلاً وفيه ناس يحرسونه، أما البري الآخر فقد أقاموه في الغرب عند دوار الصقر حالياً.

ويذكر النيار أيضاً بأنه لحق على آثار هذا البري متهدّماً لم يبق منه سوى أساساته وكان القصد من هذا البري حراسة المنطقة من جهة الغرب.وهذه هي رواية المحامي محمد سعيد النيار يتلخّص مجملها في أن دبي تعود في تسميتها إلى دباه المسّماة نسبة إلى قبيلة بني دبّاب، التي أهلك الطاعون كثيراً من أفرادها وقد حرّف فيها وُغيّر إلى أن كانت دبي بضم الدال وفتح الباء وتشديد الياء».

وينقل بو ملحة عن النيار قوله: «إن تسمية الوصل قديمة، إذ أن سكنى القوم كان بمنطقة الوصل في بداية قدومهم إلى هذه المنطقة، ثم انتقلوا منها إلى السكن في النّيف بعد انتشار مرض الطاعون في الوصل وحول مدى صحة وسند هذه الرواية المذكورة يفيد الراوي بأن ذلك مما كان قد سمعه من الراوين السابقين فيما كانوا يتداولونه في مجالسهم، وإن كان ترجيحي يميل إلى أن دبي موجودة واسمها كان مشهوراً قبل ذلك بمدة طويلة حسب ما ذكرته من بيان المعاجم اللغوية والكتب التاريخيه فيما مرّ من البحث فذلك ما أطمئن إليه».

ويتابع قائلاً: «أوردت رواية النيار كاملة لمناسبتها ولما تحتويه من تفصيلات تلقي ضوءاً كاشفاً على ما نحن بصدده من كيفية نشوء دبي وسكانها وتسميتها ومن أين جاءت هذه التسمية، ليتمكّن القارئ من أن يلمّ بجوانب الموضوع بصورة أشمل وأعم مما لو أوردنا الرواية إجمالاً من أن أصل التسمية راجع إلى اسم دباة، ولأن الوقائع والتفصيلات المترابطة والمنطقية تعطي مصداقية لقبولها بعد تحليلها وفحصها ومقابلتها بالروايات الأخرى.

وذلك ما دعى لأن أذكر تفصيل الرواية كما سردها الراوي بثقة من أنه قرأها في المخطوط المشار إليه طبق ما يرويه لي». بو ملحة أوضح بالقول: «سمعت أكثر من رواية بأن دُبَيّ اشتُقّت تسميتها من امرأة اسمها دباه، ويذكر لي أحمد خليفة السويدي أحد المعمرين في ديرة ولديه اهتمام بهذا الجانب من الروايات الشعبية، يذكر لي رواية سمعها من كبار السن وقتها كخليفة بن حسن والعبد بن خلفان تتقارب مع رواية النيار بأن المرأة التي اسمها دباه هي من شيوخ آل بوفلاسا.

ولكن الاختلاف بينهما يأتي من جهة أن السويدي يروي كما سمع بأن الرجال كانوا وقتها في الغوص وتعرّضت البلاد لغزو جماعة من قطّاع الطرق فما كان من دباه إلاّ أن قامت مع بعض النسوة بسحب المدفع وحشته وأطلقته عليهم فردّوا على أعقابهم منهزمين واشتهرت دباة بذلك العمل البطولي».

وختم ابراهيم بو ملحة قائلاً: «أرجو أن أكون قد أعطيت فكرة واضحة عن هذا الموضوع وأحطت بكثير من جوانبه حيث شغلني هذا الموضوع كثيراً وعزمت على دراسته دراسة تحليلية من مراجعه اللغوية والتاريخية لأخرج بنتيجة علمية فيه فأرجو أن أكون قد أديت هذه المهمة العلمية حسب ما أردت والله الموفق».

دبي المرأة

يقول ابراهيم بوملحة: «مع الوقت، اكتسبت المنطقة تسمية «دباه» نسبة إلى المرأة، ويروي لي الشيخ أحمد بن حافظ ذات الرواية مما سمعه من السابقين من أن رجال بني ياس، كانوا في الغوص ولم يكن في البلاد وقتها إلا النساء والأطفال والعجائز، وحدث أن نزل جماعة من الغزاة في جانب من منطقة ديرة، تأهباً للإغارة عليهم، وسحبت دباه ومن معها من النساء المدفع وصوّبته ناحيتهم وأطلقته عليهم فحالفها الحظ فأصابت جمعهم فانكسروا، ومن اسمها اشتقت دبي تسميتها.

ويضيف قائلاً: «إذا فحصنا الروايات، يرى الباحث أنها تتفق على أصل اشتقاق تسمية دبي من امرأة اسمها دباه، كما تتوافق هذه الروايات مع جاءت به المعاجم من اشتقاق التسمية، فقد وردت النصوص كما بيّناها من أن أصل الاشتقاق، كان من الدَّبَى الذي هو الجراد، قبل أن يطير أو من الدباة واحدة الدبى، فالدباة هنا هي عبارة عن مفرد الدَّبَى، ودباة هناك هي اسم أطلق على المولودة إحياء لذكرى قبيلة بني دباب، أو اسم للمرأة الشجاعة التي كانت سبباً في حفظ البلاد ورد أذى المعتدين عنها».

ويوضح بوملحة التسمية أكثر فيقول: «إن الشيخ احمد بن حافظ يذكر بأن أول سكنى القوم كان في منطقة النّيف المحدّدة من بري النيف الكائن بجانب البنك البريطاني حالياً إلى حصن الفهيدي غرباً، ثم أطلق عليها بعد ذلك دبي للسبب الذي ذكره آنفاً، دون أن يحدّد الراوي مدة لذلك أو تاريخاً تقريبياً له، سواء من حيث تاريخ السكن بالنّيف أو تاريخ تغيير اسم المكان إلى دبي، وإنما يروي ذلك بإطلاقه.

أما عن الوصل فيذكر أن دبي كانت تسمّى قديماً بالوصل نتيجة لموقعها على الخور الذي كانت تمرّ به المراكب العابرة فترسي به ذهاباً وإياباً، لكنه لا يستطيع تحديد ما إذا كانت تسمية الوصل مرادفة لدبي، أو أنها كانت قديماً تسمّى بالوصل ثم تغيّرت التسمية بعد ذلك إلى دبي».

Email