فلاسفة الإسلام

أبو حيان التوحيدي.. صوفي السمت والهيئة

ت + ت - الحجم الطبيعي

هو علي بن محمد بن العباس وكنيته أبو حيان، وغلب عليه تلقيبه بالتوحيدي، والسبب في هذا اللقب أن أباه كان يبيع نوعا من التمر ببغداد اسمه التوحيد، ويرى ابن حجر العسقلاني أن هذا اللقب يحتمل أن يكون نسبة إلى التوحيد الذي هو الدين، لأن المعتزلة يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد.

ولا نستطيع أن نرجح رأياً على آخر في تقليبه بالتوحيدي،، فربما كان أبوه يبيع هذا النوع من التمر، وربما لقبه بالتوحيدي بعض معاصريه أو لا حقية ممن عرفوا مذهبه في التوحيد. لكن ما نعجب له هو أنه هو شخصياً لم يتعرض لهذا اللقب في شيء من مؤلفاته..!

وأرجح ما قيل في توحيد مولده هو أنه ولد سنة 312ه، اعتماداً على رسالة كتبها بنفسه إلى القاضي أبي سهل علي بن محمد يعتذر فيها من إحراق كتبه، وأرخها سنة أربعمئة، وقال فيها: «وبعد فقد أصبحت مهمة اليوم أو غدا، فإني في عشر التسعين، وهل بعد الكبرة والعجز أمل في حياة لذيذة؟».

واختلف في تاريخ الوفاة أيضاً، ولكن الذي يترجح أنه عاش حتى سنة 414ه، كما ذكر القزويني والشيرازي، وبذلك يكون قد عمر مئة سنة واثنتين، فقد روى الشيراوي أن الشيخ أبا الحسن بن أحمد شيخ مشايخ عصره رأى أبا حيان في منامه، فسأله: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي على رغمك. وفي اليوم التالي طلب من أصحابه أن يحملوه إلى شيراز، فزار قبر أبي حيان وصلى عليه، وأمر بوضع لوح على قبره مكتوب عليه: هذا هو قبر أبي حيان التوحيدي، توفي سنة 414ه.

وأما أصله، فقال ياقوت: (التوحيدي، شيرازي الأصل، وقيل نيسابوري، ووجدت بعض الفضلاء يقول له الواسطي)..!

ثم يقول في وصفه: صوفي السمت والهيئة، وكان يتأله والناس على ثقة من دينه، قدم بغداد فأقام بها مدة ومضى إلى الري، وصحب الصاحب أبا القاسم اسماعيل بن عباد، وقبله أبا الفضل بن العميد فلم يحمدهما وعمل في مثالبهما كتاباً.

وكان متفننا في جميع العلوم من النحو واللغة والشعر والأدب والفقه والكلام على رأي المعتزلة، وكان جاحظياً يسلك في تصانيفه مسلكه ويشتهي أن ينتظم في سلكه، فهو شيخ في الصوفية، وفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، وعمدة لبنى ساسان، حاد اللسان، قليل الرضا عند الإساءة إليه والإحسان، الذم شأنه، والثلب دكانه.

وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاءً وفطنة، وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كل فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك محدوداً محارفاً يتشكى. صرف زمانه ـ أي ضيق الرزق ـ ويبكي في تصانيفه على حرمانه.

ولم أر أحدًا من أهل العلم ذكره في كتاب، ولا دمجه في ضمن خطاب، وهذا من العجب العجاب ولعلي أن أكون قد فهمت لونا من تشكيل شخصية أبي حيان، أنه اجتهد في التحصيل ووهب الذكاء والفطنة، فأحسن تصريف مكنونه العملي والأدبي والبياني، ففاق من عاصره، وبخسه الناس حقه، لما يكون تجاه أمثاله من المحاسدة والمباغضة.

وهو لم يحسن ملانية الناس وملاطفتهم ومواراتهم، مما استفزهم أكثر، فرموه بكل نقائص الدهر وأشاعوا عنه ما ليس فيه، وتنوقل ذلك عنه ودون في الصحف المسودة عليه بالباطل، وهو لم يأبه لشيء من ذلك، وأطلق لسانه بالذم ولم يتهيب أحداً ولم يجامل صغيراً أو كبيراً، وكان أكثر الناقمين عليه بكل أسف هم مشايخ عصره..!

وبرغم هذا كله، فما خلا زمان من المعجبين بأدب أبي حيان وفكره، فكتب الدكتور أحمد درويش: ولا يقل إعجاب المحدثين به عن إعجاب القدماء، وها هو المستشرق الألماني آدم متيز، مؤرخ الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي وفي القرن الرابع الهجري، يعتبر أبا حيان التوحيدي، أعظم كتاب النثر العربي على الإطلاق.

ولا يزال الجزء الذي حفظه التاريخ من مؤلفات أبي حيان التوحيدي بعد أن أحرق معظمها بيديه في سن الشيخوخة، احتجاجاً على عصره الظالم، الذي لا يعرف قدر العلم والعلماء، ما زال الجزء الباقي، موضع عناية الدارسين والمحققين في مختلف فروع المعرفة الإنسانية الفكرية والأدبية والاجتماعية والفلسفية والتاريخية، وهم يجدون في صفحاتها الباقية، كثيراً من الدلالات على الدرجة الرفيعة التي بلغها الأدب والفكر العربي في مرحلة تألقه الحضاري منذ أكثر من ألف عام.

وأما كيف تكونت ثقافته؟

فهذا ما يجيب عنه د. أحمد الحوفي بقوله: لقد استقاها أولاً من الكتب التي قرأها ونسخها، وكان كما قدمنا كثيراً ينسخ في إجادة وإتقان، واستقاها من حرفة الوراقة، ولا شك أنها كانت تصله بالكتب، وكانت تتيح له أن يقرأها على تمهل، وينقل منها ما يشاء، ويردد النظر فيها كما يهوى. وأغلب أظن أن صرفة الوراقة يسرت له أن يطلع على النادر النافع من الكتب.

وإذا كان الجاحظ قد اشتهر بأنه كان يكتري دكاكين الوراقين، ويجلس فيها لنظر والقراءة، فإن أبا حيان لم يضطر إلى ذلك، لأنه وراق.

وثانياً لأنه لم يكن له عمل آخر يشغله عن البحث والدرس ومجالسة العلماء، والتردد على مجامعهم، والأخذ عن المشهورين منهم. ويطول بنا المقام إذا ذهبنا نحصيهم.

ثم تحدث عن كنه هذه الثقافة التي زانته، فذكر في أولها: الفلسفة: فقال: درس الفلسفة على أبي زكريا يحيى بن عدي المنطقي سنة 361ه. وقرأ في بغداد على أبي سليمان المنطقي (محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني) كتاب النفس لأرسطو سنة 371ه، وسمع منه آراء في الأدب، وفيما وراء الطبيعة، وكان أبو سليمان أكبر علماء بغداد في الفلسفة والمنطق، وكان مجلسه حافلاً بالعلماء والحكماء، وكان واسع الاطلاع على فلسفة اليونان.

وكثيراً ما كان ينقل عنه بقوله: سألت أبا سليمان، أو سمعت من أبي سليمان، أو أملى علينا أبو سليمان، أو قيل لأبي سليمان، وليس أبو سليمان وحده، فقد ذكر أنه تتلمذ لغيره منهم: أبو محمد المقدس، وأبو الفتح النوشجاني، وأبو زكريا الصيمري، وأبو بكر القومسي، المتفلسف كاتب نصر الدولة، وعيسى بن علي، وابن مسكويه، وكتابه (الهوامل والشوامل) إن هو إلا أسئلة سأل ابن مسكويه عنها، وإجابات أرسلها إليه ابن مسكويه..!

وكان على صلة بنقلة الفلسفة اليونانية ومؤلفات الفلاسفة والمناطقة، فكثيراً ما نقل عنهم وذكر أسماءهم في المقابسات والإمتاع والمؤانسة..!

وفي الفقه والحديث، فقد ذكر السبكي في طبقات الشافعية، أنه تفقه على القاضي المرور وذي وسمع الحديث من أبي بكر الشافعي، وأبي سعيد السيرافي، وجعفر الخلدي، ولعله أخذ عنه التصوف كما أخذ عن غيرهم..!

وبعد أن أورد السبكي في الطبقات، رمى ابن الجوزي له بالزندقة، ورمى الذهبي له بعداوة الله والخبث بعد أن نقل قول ابن فارس في كتابه «الفريدة والخريدة» قال السبكي: «الحامل للذهبي على الوقيعة في التوحيدي، مع ما يبطنه من بغض الصوفية: هذان الكلامان ـ يقصد كلام ابن الجوزي، وكلام ابن فارس ـ ثم قال:

ولم يثبت عندي إلى الآن من حال أبي حيان ما يوجب الوقيعة فيه، ووقفت على كثير من كلامه فلم أجد فيه إلا ما يدل على أنه كان قوي النفس، مزدريا بأهل عصره، ولا يوجب هذا القدر أن ينال منه هذا النيل. وقال: وسئل الشيخ الإمام الوالد رحمه الله؛ فأجاب بقريب مما أقول»..!

وتلقى اللغة والنحو عن أبي سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني، ويونس وغيرهم، وعده السيوطي من نجاة عصره وترجم له، وفي علم الكلام ـ النظر في العقائد بأحكامها ـ عاب المتكلمين وانتقص طريقتهم في البحث والاستدلال، وفضل الفلسفة عليهم، وقد ذكر ذلك تفصيلاً في كتاب المقابسات..!

وتعرض الدكتور أحمد درويش لكتابه «الصداقة والصديق» فقال: إن بعض مؤلفات أبي حيان مثل «الإمتاع والمؤانسة» و«الهوامل والشوامل» و«المقابسات» و«رسائل أبي حيان التوحيدي» تحمل التفرد والثراء الفكري وغزارة المعرفة وكثرة التجارب، ولكن كتاب «الصداقة والصديق» يضيف إلى ذلك كله تجربة حياتية حافلة عاشها أبو حيان التوحيدي، قرابة قرن من الزمان.

واتسمت في كثير من جوانبها بقسوة العيش التي كانت تشكل طابعاً للفترة التي حكم فيها البويهيون وسيطروا على الخلفاء العباسيين منذ دخولهم بغداد 334هـ واعتقالهم للخليفة العباسي المستكفي بالله، ومن بعده الخليفة المعتضد الذي اودع السجن حتى وفاته 338 ، وقد ظلوا يعيثون في الأرض فساداً ويصادرون الأموال.

ويضيقون على الناس في أرزاقهم طيلة مئة وثلاثة عشر عاماً، وقد أشار التوحيدي إليهم في رسائله، ووصفهم بأنهم «أعجوبة الأعاجيب في اقتسام الملك، وانتشار الفوضى، وذيوع الفتنة والاضطراب والعبث بسلطان الخلفاء، والتحكم في مصائرهم على ما يحلو للمهيمن المتسلط من الولادة والحكام».

وشعرت طبقة الفقراء وكان منهم أبو حيان وشيوخه من العلماء الأجلاء بوطأة الفقر، ولم يجدوا أمامهم سوى دكاكين الوراقة، يعملون فيها في نسخ الكتب طوال النهار ولا يكاد ما يحصلون عليه يسد رمقهم، وها هو أبو سعيد السيرافي، أشهر علماء عصره «ينسخ في اليوم عشر ورقات بعشرة دراهم ليعيش» وها هو أبو حيان نفسه يكتب لصديقه أبي الوفاء والمهندس.

وقد شكا له حالة البؤس وقلة المأكل والملبس كما يقول في الإمتاع والمؤانسة: «إلى متى الكسيرة اليابسة، والبقيلة الذاوية، والقميص المرقع، وإلى متى التأدم بالخبز والزيتون»..

ولقد بدت لأبي حيان بارقة أمل عندما وجد بعض كبار أدباء عصره، يتولون مناصب الوزارة في بعض أرجاء الدولة الإسلامية الواسعة، فطمح في أن يسند إليه منصب كتابي رفيع، ينتشله من حياة الفقر، وحرفة نسخ الكتب، لكن تجاربه في هذا المجال اتسم معظمها بالفشل والإحباط ورد الفعل المتمثل في تسجيل التجربة بأسلوب أدبي رائع، حدث له هذا مع الوزير الحسن المهلبي وزير معز الدولة عندما سمع عن احتفائه بالأدب والأدباء، فسافر إليه من بغداد إلى الري في بلاد فارس.

ولكنه عاد خائباً، وتجدد لديه الأمل مرة أخرى في الوزير ابن العميد وزير ركن الدولة البويهي، فلم يجد عنده بعد عناء الرحلة إليه ما يعوض متاعب السفر، وانتهى به المطاف عند الصاحب بن عباد، وكان بدوره وزيراً وكاتباً مشهوراً، حتى إذا وصل إلى فناء قصره، أرسل إليه غلامه يجر عربة صغيرة تحمل ثلاثين مجلداً هي مجمل رسائله، يطلب منه أن ينسخها وسيحصل على أجر النسخ، ولم ابن حيان إلى القبول مع الضجر والإحباط، فكيف لا ينعي ابن حيان الصداقة، وكيف لا يبكي انعدام الصديق، غفر الله له ورحمه رحمة واسعة؟!

Email