تحقيق

لماذا ينكر الغرب فضل الحضارة الإسلامية ؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحضارة الغربية قامت على علوم المسلمين وحضارتهم، فقد نقل الأوروبيون في بداية عصر النهضة كل ما وقع تحت أيديهم من العلوم والمعارف الإسلامية إلى لغاتهم وكانت هناك مراكز إشعاع حضاري مثل الأندلس وصقلية كان الأوروبيون يفدون اليها لتلقي العلم على أيدي العلماء العرب والمسلمين .

ورغم اعتراف بعض العلماء الغربيين المنصفين في الوقت الحاضر بفضل الحضارة الإسلامية على حضارتهم الا ان التيار الغالب الآن هو الذي يتنكر لفضل الحضارة الإسلامية ويزعم أن الحضارة الإسلامية لم يكن لها دور يذكر في الحضارة المعاصرة، بل إن بعض الغربيين يقولون انه لم تكن هناك حضارة إسلامية أصلا وان الحضارة الغربية قامت في الأساس على علوم الحضارات القديمة مثل الحضارة اليونانية والإغريقية وغيرها .

وفي هذا السياق لم يكن غريبا أن يهاجم بعض المسؤولين الغربيين الحضارة الإسلامية ويزعموا انه لا توجد حضارة بهذا الاسم، وكذلك لم يكن غريبا أن يدعي صامويل هنتنغتون بأنه ليست هناك سوى حضارة واحدة غالبة هي الحضارة الغربية في إطار نظريته التي تقوم على أساس الصراع بين الحضارات .

لماذا يتنكر الغربيون لدور الحضارة الإسلامية وفضلها على حضارتهم المعاصرة؟ وكيف نواجه هذا الموقف؟

في البداية توضح الدكتورة نجلاء محمد أمين الأستاذ المساعد بقسم اللغة الفارسية بكلية الدراسات الإنسانية جامعة الأزهر ان الحضارة الإسلامية أعظم حضارة في العالم وان أوروبا لا تستطيع إنكار فضل العرب مشيرة إلى ان الأوروبيين تبنوا المناهج العلمية التي ابتكرها العلماء المسلمون .

وتؤكد ان الحضارة الإسلامية كانت - بشهادة المؤرخين والباحثين - أعظم حضارة شهدها العالم طوال العصور الوسطى موضحة أن فضل العرب واضح، لا على أوروبا وحدها، بل على البشرية جمعاء ذلك لأن العرب الذين أقاموا دولة عظيمة مترامية الأطراف امتدت من المحيط إلى الخليج لم يكونوا كغيرهم من الشعوب التي انسابت من جوف آسيا في العصور الوسطى لتهدم وتخرب وإنما صاحب العرب الأمن والاستقرار أينما حلوا فقد نشروا مبادئ ومثل عليا مثل التسامح والإخاء والمساواة فتحولت أقطار العالم الإسلامي في ظل رعايتهم إلى مراكز علمية يشع منها نور العلم والمعرفة .

وتشير الدكتورة نجلاء إلى انه حينما تم الفتح العربي لإيران زالت كافة الحواجز والسدود بين البلدين واعتنق الفرس الإسلام لأنهم وجدوا فيه مخلصا لهم من الظلم والطغيان الذي شهدته الدولة الفارسية في أواخر عهدها فعكفوا على تعلم اللغة العربية ومعرفتهم بتشريعات الدين وكان هذا من أكبر الحوافز عندهم لاعتناق الإسلام والتفقه فيه ودراسة اللغة العربية دراسة مستفيضة شملت كافة العلوم من نحو وصرف وعروض وعلم اللغة وعلوم البلاغة فضلا عن العلوم الشرعية الإسلامية حتى خرج من صفوفهم علماء كانوا أئمة وأعلاما في أصول وفروع هذه العلوم العربية والإسلامية .

وتؤكد أن الفرس كانوا أنشط العناصر في إثراء الحضارة الإسلامية وتراثها الخالد وكانوا أكثر شعوب العالم رغبة في التعاون مع العرب في شتى الميادين العلمية والأدبية حتى تم تشييد صرح الحضارة الإسلامية على هذا النحو المشترك مشيرة إلى أن تأثير الثقافة الفارسية ظهر بوضوح في البناء الحضاري الإسلامي الذي ساهم في إنشائه عدد من علماء الفرس لاسيما في العصر العباسي الأول الذي يطلق عليه المؤرخون عصر الإسلام الذهبي الذي أخذت العلوم تقنن وتدون فيه وتعرف طريق الاستقرار .

وتجمل الدكتورة نجلاء أهم العلوم والمهارات التي نمت وتقدمت على أيدى رجال أنتجتهم إيران وتذكر منها النحو والرائد في هذا المجال سيبويه المتوفى سنة 160 هجرية وفي الأدب نثره وشعره ابن المقفع المتوفى سنة 142 هجرية وبشار بن برد المقتول سنة 358 هجرية وبديع الزمان الهمذانى المتوفى سنة 398 وغيرهم مثل التفسير الطبري المتوفى سنة 310 هجرية وتلميذه الثعالبي النيسابوري المتوفى 429 هجرية وفخر الدين الرازي المتوفى سنة 606 هجرية.

وفي الحديث كان من المعربين من الفرس الإمام البخاري والإمام مسلم والترمذي وأبو دواد والسجستانى والنسائي وجميعهم من أهل إيران وفي علم الفقه الإمام أبو حنيفة مؤسس احد المذاهب الإسلامية الكبرى فهو بدوره من أصل فارسي وقد أحل في الفقه الرأي والقياس واستطاع بذلك أن يجعله علما له أساس وقواعد كسائر العلوم وفي الرياضة والعلوم العقلية الخوارزمي المتوفى 235 هجرية.

وقد وضع كتبا وبحوثا مبتكرة وقد لاقى كتابه الجداول الفلكية نجاحا كبيرا وتعبير الخوارزميات اليوم هو التحليل للمسائل الرياضية والمدخل الأساسي إلى علم البرمجة في الحسابات الإلكترونية والبيروني المتوفى 440 هجرية الذي يعد أكبر عقلية في الإسلام وله العديد من البحوث العظيمة والكتب القيمة وفي الطب محمد بن زكريا الرازي وعلي بن عباس المجوسي وابن سينا المتوفى 428 هجرية.

وقد اعتمد الغرب اعتمادا كليا على كتابه القانون في الطب وفي الفلسفة يتقدم أيضا ابن سينا الذي حصل علومه ومعارفه جميعها في بخارى ومنها اكتسب هذه الثروة الفلسفية العظيمة التي توارثها عنه العالم طوال القرون وفي الحكمة وعمق التفكير والتصوف نجد الإمام أبو حامد الغزالي المتوفى 505 هجرية الذي يعد إمام المسلمين على الإطلاق ومؤلفاته العديدة صورة كاملة للحالة العلمية والثقافية الإسلامية في أسمى مظاهرها .

وتخلص الدكتورة نجلاء إلى ان عالمية الحضارة الإسلامية وتأثيرها في النهضة الأوروبية ظهر بوضوح من خلال تبني أوروبا المناهج العلمية التي قدمها علماء المسلمين، كما كانت الجامعات الإسلامية الممثلة في المساجد الجامعة والتي نقلت من خلالها الفكر الإسلامي من خلال العلماء المسلمين سببا في قيام الجامعات الأوروبية والتي هزت بأفكارها المجتمع الأوروبي كله وكانت سببا في عملية التغيير الحضاري الذي شهدته أوروبا في نهضتها وأقامت عليه تفوقها الحضاري في العصور الحديثة .

ويشير الدكتور قاسم عبده قاسم أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب جامعة الزقازيق إلى ان كل شعب يصنع حضارته بنفسه ويستفيد من الحضارات الأخرى خاصة في النواحي التكنولوجية موضحا ان القول باستعارة شعب لحضارة أخرى قامت في بلاد أخرى غير صحيح حتى ولو كان هناك تجاور مكاني.

ويضيف قائلا ان الحضارتين الإسلامية والأوروبية لم يكن بينهما تجاور مكاني فقط وإنما كان هناك تفاعل وتداخل، فالمناطق العربية شرق وجنوب البحر المتوسط كانت جزءا من الإمبراطورية الرومانية وبعد انتصار الإسلام تحول البحر المتوسط إلى بحيرة إسلامية وأصبحت أسبانيا وأجزاء من فرنسا وايطاليا وجزر البحر المتوسط تابعة للعالم الإسلامي مؤكدا أن الحضارة الإسلامية تأثرت بتراث هذه الشعوب .

ويشير إلى أنه عندما تحول أبناء هذه الشعوب إلى الإسلام في ايران والهند وغيرها لم يغيروا تراثهم موضحا أن هذا حدث أيضا مع الحضارة الغربية في أسبانيا التي خضعت للحكم الإسلامي ثمانية قرون فقد عاش الأسبان حتى بعد خروج المسلمين على منجزات الفلسفة والفكر والفن والشعر وهندسة الري وهندسة المباني وفنون الحكم الإسلامية كذلك في جنوب ايطاليا لم يكن ملوك النورمان يثقون في أحد يشكل فرق الحرس الخاص بهم غير المسلمين ولم يكن أحد يستطيع أن يقوم بعمليات التثقيف والتنوير في بلاطهم غير المسلمين .

ويرى أن ذلك كان مرده أن الحضارة الإسلامية كانت هي ثقافة العالم كله في ذلك الوقت وكانت اللغة العربية هي لغة كل جديد في إنجازات العلم بل قد بقي بعض المسلمين في أسبانيا بعد انتصار الأسبان في عام 1492 ميلادية وهؤلاء عرفوا بالموريسك وغير بعضهم دينه بسبب الصعوبات التي واجهها لكنهم لم يغيروا عاداتهم وسلوكياتهم وأفكارهم.

وتؤكد الدكتورة فتحية النبراوي أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية الدراسات الإنسانية جامعة الأزهر أن الحضارة الإسلامية كنتاج للعقلية الإسلامية والفكر الإسلامي لاتزال موجودة وآثارها واضحة مشيرة إلى أن العلم الحديث مدين للحضارة الإسلامية بالمنهج العلمي والمنهج التجريبي بالإضافة إلى أن إسهامات المسلمين العلمية والفكرية لاتزال لها آثارها الملموسة التي يعترف بها الغرب بل ان الغربيين يقرون بفضل العرب في التوصل إلى كثير من المنجزات العلمية الحديثة .

وتشير إلى أنه إذا كان بعض الغربيين يجهلون فضل الحضارة الإسلامية عليهم فهذا لا يغير من الواقع شيئا لأن هؤلاء لا يسيؤون إلى الحضارة الإسلامية وإنما يسيؤون إلى أنفسهم ويكشفون جهلهم مؤكدة أن من هذا الفريق بيرلسكونى رئيس الوزراء الايطالي الذي تطاول على الحضارة الإسلامية وزعم أنها لا تصلح لهذا العصر رغم أنه يدرك تماما - وفي ايطاليا بالذات - أن الحضارة الإسلامية أثرت في قيام النهضة الأوروبية وأنه لولا علماء المسلمين لما نهضت أوروبا.

وتعرب الدكتورة فتحية النبراوي عن دهشتها لهؤلاء الذين يتنكرون لدور الحضارة الإسلامية في النهضة الغربية الحديثة مشيرة إلى أنه من المؤسف أن بعض المسلمين يجارون هذا التيار الجاهل في الغرب ويزعمون أنه لم تكن هناك حضارة إسلامية أصلا وأن المسلمين لم يسهموا في الحضارة الإنسانية المعاصرة رغم أن هناك أسماء عربية وإسلامية كثيرة ومعروفة ولا يستطيع الغربيون أنفسهم إنكار دورها في خدمة حضارتهم لكن للأسف لم تسلط الأضواء على تلك الأسماء .

وتؤكد الدكتورة عبلة الكحلاوي عميدة كلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر أن الحضارة الإسلامية هي أصل الحضارة الغربية المعاصرة سواء أنكر الغربيون ذلك أم اعترفوا به مشيرة إلى ضرورة أن يعيد الغربيون قراءة التاريخ ليعرفوا فضل حضارة الإسلام في نشر العلوم المختلفة ونشر القيم والفضائل بل وفي منع الحروب والدمار وحماية الإنسانية من الفتن والصراعات بل عليهم أن يستمعوا إلى كلمات المنصفين منهم الذين يعترفون بفضل الحضارة الإسلامية وبدورها الكبير في نهضة الغرب الحديثة .

Email