في رحاب الفكر

كليلة ودمنة.. ابن المقفع جدد الكتاب وحمله بالغايات السياسية والفكرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدأ الفيلسوف الحوار مع الملك.. وتبدأ الحكاية.. والحكاية تروى عن حيوانات الغابات وعلى ألسنتها، حكايات مسلية مرفهة، لكنها في الوقت نفسه عميقة المعاني، سياسيا وأخلاقيا، فكريا وحضاريا، وكأن شغل الحيوان هنا أن يعلم أخوته البشر، كيف تكون شؤون الدنيا. هذا هو باختصار كتاب «كليلة ودمنة» أو على الأقل ما صنعه عبد الله بن المقفع بواحد من أهم كتب التراث الإنساني العالمي.

«هذا السفر الخطير على ما بعهده من بعد في التاريخ، وما برواياته من خلف في بعض ألفاظه، لا يزال أصدق صورة من صور الشرق عامة، سواء في ذلك مرامي حكمه وطرائق احتياله، وسواء في ذلك من تندر وتمثل، وما يدعو إليه من تحفظ وتحرز» و«لعله، بعد، في ثوبه الحاضر أول كتاب في اللغة العربية قد اجتمعت له خصائص ومميزات يرضى العامة عنها والخاصة، وتفيدها العالم والمتعلم سواء» و«لعله بعد الكتاب الذي تقرأه في كل عام. بل في كل شهر.

بل في كل يوم، فلا تزداد بكلماته المصطفاة إلا كلفا وبأسلوبه السهل الممتنع إلا استمتاعا، ولم ينب منه لفظ، ولم يهلل فيه تركيب. فلم تخلق جدته، ولم ترث ديباجته على مر كل هذه القرون. بل كان وضع أعجاب نابهي الكتاب ونابغي المنشئين في كل عصر وفي كل جيل...».

بهذه العبارات قدم، أواخر القرن التاسع عشر الأديب والعالم الأزهري المصري حسن المرصفي لتحقيقه واحدا من الكتب الأكثر أهمية وجمالا وخطورة التي تنسب إلى التراث العربي ـ الإسلامي نعني بذلك كتاب «كليلة ودمنة» الذي أوصل اسم جامعه ومن صاغه، عبدالله بن المقفع، جاعلاً منه الأشهر بين أساطين التراث.

غير أن ما يتوجب الإشارة إليه منذ الآن هو أن صعوبة كلام المرصفي في تقديمه لـ «كليلة ودمنة» وغرابة ألفاظه وأسلوبه، يجب ألا تحبط القارئ، أو تدفعه إلى الاعتقاد أن كتابا صعبا غريب اللفظ يقدم له بتلك الطريقة الغريبة. معاذ الله، «كليلة ودمنة»، أبسط كثيراً من تقديم محققه المرصفي له، ومعانيه أقرب إلى أذهان الناس.

هكذا شاءه «كاتبه» ابن المقفع، لأنه في الأصل ما كان يكتب نصا مسليا استعراضيا عن الحيوانات وحكاياتهم، بل كان يكتب، كما سيؤكد كثر، منشورا سياسيا تحريضيا يدور على ألسنة سكان الغابات، تماما كما سوف يفعل كثر لاحقا، من أبرزهم االإنجليزي جورج أورويل في «مزرعة الحيوانات» الذي رمز إلى الأنظمة الشمولية وحياتها عن طريق تلك المخلوقات.

إذا، فإن «كليلة ودمنة» في الأصل كتاب في السياسة والحكمة. كتاب إيديولوجي، لكنه في درجة قراءته أول كتاب في فن الحكي، في فن القص. وهكذا، على أية حال، يجب أن يقرأ دائما، أن في ذلك متعته الحقيقية وأسباب وجوده. ومهما يكن، فإن من شأن أنصار التراث العربي أن يضموا »كليلة ودمنة» إلى ترسانتهم حتى وإن كانت أصوله وفصوله هندية ـ سنسكريتية ـ كما أجمع الكل.

ذلك أنه، بعد أن كانت له تلك الأصول، عاد وحاز حياة ثانية أكثر غنى وتفاصيلا، واستوعب تمام، كما جرت العادة مع أمثاله من جانب تلك الحضارة العربية التي، أصلا، صنع جزء كبير من تراثها على تلك الشاكلة، أما المرصفي الذي كان أول محقق جدي للكتاب في اللغة العربية، فكان تقليدي اللغة تفخيمياًّ في استخدامها، لذلك جاء عمله، على رغم أهميته صعباً، مضللاً، إنما عن نية طيبة.

فهل نحن هنا في حاجة بعد، لأن نقول ما هو هذا الكتاب؟ أبداً.. فهو إلى جانب ألف ليلة وليلة، الكتاب الأشهر والأكثر رواجاً، أضف إلى ذلك أن شعوباً كثيرة في العالم تعرفه وتقرأه في لغاتها، إذ أنه ترجم إلى العدد الأكبر من اللغات ، ومع هذا لا بد من أن نذكّر به بعض الشيء ، هو إذاً مجموعة من الحكايات تجري على ألسنة الحيوانات رواها بيدبا الفيلسوف الهندي لملكه دشليم، ولئن كانت الحكايات قد وجدت أصلاً بالسنسكريتية، فإن ترجمة ابن المقفع لها إلى العربية.

وإضافته كثيراً إليها، كانت هي ما أعطى الكتاب شهرته ومكانته، وخاصة كشفت عن كونه، كما سيقول لنا المرصفي لاحقاً، «كتاباً في إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس، وضعه بيدبا منذ نيف وعشرين قرناً لدشليم الذي تولى الهند بعد فتح الاسكندر وطغى وبغى، فأراد بيدبا إصلاحه وتدريبه فألّف هذا الكتاب، جاعلاً النصح فيه على ألسنة البهائم والطيور على عادة البراهمة في عصورهم القديمة فإنهم كانوا يروون الحكمة على ألسنة الحيوانات لاعتقادهم بتناسخ الأرواح».

والحقيقة إذا كان الكتاب الذي بين أيدينا الآن، ممتلئاً بالحكايات ، فإنه في الأصل يتألف من 12 باباً فقط هي: الحمامة المطوقة ـ البوم والغربان ـ القرد ووالغيلم ـ الناسك وابن عرس ـ الجرذ والسنور ـ الأسد وابن آوى والناسك ـ اللبؤة والأسوار والشعائر ـ إيلاذ ويلاذ وابراخت ـ السائح والصائغ ـ وابن الملك وأصحابه.

أما بقية الحكايات فإنها تتفرع جميعاً عن هذه وتتنوع، ما أتاح للناس طوال عقود وعقود أن ينقلوه ويأخذوا منه ويزيدوا عليه، والحقيقة أن كثراً من المستشرقين حاولوا في العصور الحديثة العثور على النسخة السنسكريتية الأصلية للكتاب فعجزوا، اذ كان كل ما عثروا عليه كتباً متفرقة تضم الأبواب الخمسة الأولى.. بينما عثروا على أصول أخرى متفرقة في بعض فصول ملحمة المهابهراتا..الخ.

أما الترجمة العربية فكانت من أهم ترجمات الكتاب لأنها حفظته وكانت بالتالي واسطة نَقلِه إلى بقية اللغات، وعبد الله بن المقفع الذي نقله كان كاتباً لدى أبي جعفر المنصور، وكان فارسياًّ ويعرف اليونانية والفهلوية.. وهو نقل الكتاب من هذه اللغة الأخيرة إلى العربية، مبيناً في تقديم هام جداًّ له.

أن الكتاب يرجح فضل العقل والعلم، وبما كان ابن المقفع قد حمل الكتاب كل أبعاده السياسية المتضمنة وشدد عليها، قام علماء مناوئون له بنقله مرة أخرى إلى العربية، ومنهم عبد الله بن هلال لحساب يحيى بن خالد البرمكي، كذلك اشتغل عليه سهل بن نو بخت لحساب يحيى بن خالد، وتصدى البعض لمعارضته ومنهم سهل بن هارون الذي ألف للمأمون كتاباً مضاداًّ لكليلة ودمنة.

لكن عمل ابن المقفع ظل هو السائد والمعتمد.. ولقد طاولها تعديل وزيارات على مرّ الأزمان، حتى وصلنا 21 باباً بدلاً من 12 باب، وكان بعض الزيادة هندي أو فارسي، لكن بعضها الآخر كان عربي الأصل معروفاً منذ ما قبل زمن «كليلة ودمنة».

أما الغرب فإنه، اذ كان سمع بالكتاب واستبد به الفضول لمعرفته من قبل، فإن أول ما بلغه من كليلة ودمنة، فكان ترجمة قام بها المستشرق الهولندي شولتنس في العام 1786 لباب «الأسد والثور»، ولقد اندهش الغرب حين وصل الكتاب كله مترجماً إليه، حين رأى الشبه بين كليلة ودمنة وبين بعض فصول حكايات لافونتين المشابهة، وأيضاً حين رأى تشابهاً كبيراً بين خرافات فيتلون وبين الحكايات الهندية-العربية تلك.

وطبعاً لن يكون هذا التشابه به أهم ما في الأمر، بل ذلك البعد الفكري والعميق في كتاب اختار أن يجعل الحيوان بطله، محدداً على لسانه شؤون السياسة والحكم والأخلاق والفضائل، ولا يزال هذا الجانب يثير الإعجاب حتى اليوم، حتى وان كانت للكتاب متع أخرى ومزايا تجعل منه أحد أهم نتاجات التراث الإنساني.

Email