في رحاب الفكر

رسوم الواسطي لمقامات الحريري.. صورة دقيقة للمجتمع وحياته اليومية

ت + ت - الحجم الطبيعي

من هو الواسطي، رسام المقامات الحريرية الأكبر في العالم العربي ـ الإسلامي؟ من أين جاء؟ من أين استلهم مصادر فنه العظيم؟ أسئلة لا يكف الباحثون عن طرحها على أنفسهم إزاء رسوم منمنمة، لا شك أنها ترصد المجتمع الذي رسمت في أحضانه، وحياة ذلك المجتمع اليومية في تفاصيلها بقدر ما تعبر عن المقامات التي قامت أصلا بالتعبير عنها.

آثر عن التراث الإسلامي-العربي عادة أنه لا يعرف فن الرسم، انطلاقا من معايير ونواه دينية. ورسخت هذه الفكرة طويلا..إنما من دون أن يكون ثمة سند مادي واقعي يؤكدها. ومن هنا حين كتب الإمام محمد عبده، شيخ الأزهر أواخر القرن التاسع عشر يقول ان التصوير ليس حراما في الإسلام، ثار عليه وغضب شيوخ كثر، أنكروا هذا واستنكروه قائلين خاصة أن الإسلام حرّم تصوير الكائنات البشرية بالتأكيد، ولم يرتح كثيرا لتصوير بقية المخلوقات.

ومن المؤكد أن أولئك المحتجين لم يكونوا يعرفون أشياء كثيرة عن التراث الإسلامي العربي. فلو عرفوا لكان من شأنهم أن يدركوا، أن ذلك التحريم لم يكن عمليا لأن التراث الإسلامي عرف ومنذ وقت مبكر تماما رسم الناس والنبات والحيوان. وطبعا لم تكن تلك الرسوم على شكل لوحات تؤطر وتزين البيوت..لكنها في أغلب الأحيان جاءت على شكل منمنمات ورسوم توضّح كتبا وتشرح مواقف. ومن الواضح أننا اليوم لسنا في حاجة إلى إعادة تأكيد هذا الأمر وفي المكتبات العربية ألوف البراهين على ما نقول.

غير ان ما يجب التوقف عنده هنا هو إن التراث الإسلامي-العربي الذي نتحدث عنه لم يكتف بأن يترك الفنانين يرسمون والكتب تزين بلوحات، بل أنتج كذلك أعمالا في منتهى الروعة، وكانت له في ذلك مدارس وتيارات لو قارنا بينها وبين عصور ما قبل النهضة الأوروبية (التي زامنت الفترة التي شهدت ذروة ازدهار فنون الرسم عند العرب المسلمين) لدهشتنا من تقدم هذه الفنون على مثيلتها في أوروبا.

طبعا بعد ذلك عرفت أوروبا تواصلا في نهضتها الفنية انطلقت قوية من الإرهاصات، فيما تراجع كل شيء مثيل لذلك في الحضارة-العربية الإسلامية- تحت وطأة الانحدار الذي أصاب كل شيء.. لكن هذه حكاية أخرى.

ما يهمنا هنا هو تلك التيارات الفنية التي سادت وخاصة عند بدايات وأواسط حياة الدولة العباسية بالتواكب مع ازدهار بقية الآداب والفنون وضروب العلم. والحقيقة أننا إذا تحدثنا هنا عن هذا الأمر سيكون من الطبيعي أن نتوقف خاصة عند واحد من اكبر الرسامين الذين عرفتهم الحضارة العربية في ذلك الحين وهو الواسطي، الذي عمل ورسم في بغداد وعاش في القرن السابع الهجري.

إن ثمة ميلا كبيرا لدى المؤرخين والباحثين للتأكيد على أن الواسطي كان أرمني الأصل. وثمة في المقابل من يقول أنه لا كان أرمنيا ولا يحزنون. وفي يقيننا أن هذا النوع من السجال يبدو لنا اليوم خارج مكانه إذ انه يبدو محكوماً من الناحيتين بأمور أيديولوجية تحمل تعصباً وتعصباً مضاداً.

فان يكون الواسطي من أصل ارمني أمر لا يبدل شيئا خاصة حين تتذكر ان عددا كبيرا من المفكرين والكتّاب الذين اثروا الحياة الثقافية العربية ومنذ اعتق أزمانها، كانوا من أمم أخرى.. وتلك كانت خاصية أساسية من خواص الإسلام: استيعاب الحضارات المحيطة ودمجها ما صنع في نهاية الأمر تلك الحضارة.

بيد أن المهم هنا، في مجال الحديث عن الواسطي، ليس فقط التوقف عند أصوله الشخصية. المهم ملاحظة أن فن الواسطي نفسه يكشف إما عن أصل أرمني له لا يعير تاريخ الفن العربي في شيء وإما عن تأثره مهما كان أصله بالأيقونات الأرمنية والفن البيزنطي بشكل عام.

وهو أمر يكفي المرء لاستنتاجه أن يتأمل تلك الرسوم الرائعة التي حققها الواسطي لتزيين الطبقات الأولى من مقامات الحريري. ذلك أن ليس من المنطقي اليوم، وفي أي زمن مضى أن يتحدث المرء عن مقامات الحريري من دون التوقف عند المنمنمات الرائعة التي صارت مع مرور الزمن جزءا من تلك المقامات لا ينفصل عنها.

من المؤكد ان الواسطي لم يمض كل حياته غارقا في رسم لوحاته لمقامات الحريري ومع هذا فإن لوحاته للمقامات تظل أشهر انجازاته، بل أشهر نماذج الفن العربي-الإسلامي في كل العصور. ذلك أن هذه الأعمال إضافة إلى مئات الرسوم العربية-الإسلامية الأخرى وأحيانا أكثر منها جميعا تظل شاهدة على معرفة المسلمين فن الرسم وممارستهم إياه، لأنها العمل الذي وصلنا مكتملا فنا وإبداعا وعرف كيف يجدد تجديدا حقيقيا في فن كان لا بد ان ينهل من العديد من المصادر حتى تكتمل لغته.

ومما لا شك فيه ان رسوم الواسطي تكشف بعمق ذلك التمازج الضروري والخلاق في هذا المجال بين ثلاثة عناصر رئيسية: الحياة اليومية كما تراها عين الفنان في بغداد في ذلك الحين، ولنذكر هنا أن الواسطي إذا كان ولد في واسط وانتمى إليها فانه عاش معظم سنوات حياته في بغداد وعرف عنه بأنه كان جزءا من حياتها اليومية الشعبية-كما أنها عين الفنان أيضا في أماكن أخرى ززارتها المقامات الحريرية.

وعبرت عنها أيضا إضافات فارسية في فن الرسم، في زمن كان الامتزاج فيه قد نما وكبر في بغداد والعراق عموما، وبالتالي في كل الحضارة الإسلامية بين الروافد العربية والفارسية والتركية، ناهيك بفن رسم الأيقونات المسيحية ولا سيما منها الشرقية الارمنية.

إذن انطلاقا من هذه الروافد كلها، ومن قراءته المعمقة لمقامات الحريري ولما تتيحه هذه المقامات من التفكير في مشاهد تصويرية تكاد تبدو مشاهد مسرحية، حقق الواسطي ذلك العدد الكبير من اللوحات (المنمنمات) التي يقول الباحث المصري الكبير د.ثروت عكاشة، أن الواسطي ركز فيها بشكل خاص على الموضوعات الأجواء التالية: مشاهد الطبيعة؛ الحياة اليومية؛ الحياة الدينية؛ الحياة القضائية (والإدارية بالتالي) وأخيرا العمائر ويقصد العمران.

ومما لا شك فيه ان الرسوم في اهتماماتها هذه لم تأت فقط مستجيبة لنقل أجواء المقامات، بل أكثر من هذا أتت صورة للمجتمع الذي كانت أحداث المقامات تدور في أحضانه. ومن هنا يمكن لمن يدرس الرسوم بشكل جيد ومدقق، ويقيم المقارنات والتصنيفات ويتعمق في الطبائع السيكولوجية للشخصيات المرسومة يمكن له بشيء من الجهد ان يشاهد قطاعات عريضة من المجتمعات البغدادية وغيرها، تستعرض أمام عينيه بشرا وحوائج ومهنا وعمرانا وعلاقات اجتماعية وما الى ذلك.

في هذا الصدد قد لا يكون من قبيل المبالغة القول ان رسوم الواسطي، وأكثر كثيرا حتى من مقامات الحريري والهمداني مجتمعة تعطي عن المجتمعات الإسلامية في ذلك الحين تلك الصورة الحية الحيوية التي قد يصعب الحصول على ما يماثلها استنادا الى أي نص مكتوب.

وتلك بالطبع هي قوة الصورة وعلاقتها بالمجتمع، عرفتها الحضارة الإسلامية منذ وقت مبكر تماما وصورت عبرها تفاصيل حياتها وفنونها واصلها اليومية في وقت كان لا يزال فيه الفن الغربي مهتما باللوحات الدينية ذات المواضيع والأفكار المثالية والتي في معظمها ما كان في إمكانها أبدا أن تقدم ما يفيد الباحث في تاريخ الشعوب والمجتمعات الساعي إلى أن يدرس عبر الرسوم كيف كانت تلك المجتمعات تصور نفسها إن هذا متوفر، في المقابل، في الحضارة الإسلامية وما رسوم الواسطي سوى الدليل الحي سواء أدرست بالترابط مع المقامات الحريرية التي صنعت لتعبر عنها أو مستقلة.

Email