في رحاب الفكر

الغزالي وابن رشد ودرس في السجال الفكري العقلاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت لحظة رائعة تلك الحقبة التي شهدت في القرن الهجري الرابع وما حوله، سجالات فكرية، بل فلسفية رفيعة في الحياة الثقافية العربية. ولن يكون من المغالاة القول ان رد ابن رشد على الغزالي، أي في «تهافت التهافت» الذي أتى ليفند «تهافت الفلاسفة»، كان العلامة الذروة في مسار تلك الحيوية الفكرية التي من المحزن أننا نفتقر إليها جديا اليوم.

في حوالي العام 1095 الميلادي وضع الإمام أبو حامد الغزالي واحدا من أهم كتبه، وأكثرها سجالية، وهو «تهافت الفلاسفة» الذي، خلف دراسته للفلسفة العقلية العربية السائرة على خطى الفكر العقلاني الإغريقي، كانت غايته كما يقول الغزالي نفسه: «فلما رأيت هذا العرق من الحماقة نابضا على هؤلاء الأغبياء، انتدبت لتحرير هذا الكتاب ردا على الفلاسفة القدماء، مبينا تهافت عقيدتهم وتناقض كلمتهم في ما يتعلق بالإلهيات.

وكاشفا عن غوائل مذهبهم وعوراته، التي هي على التحقيق مضاحك العقلاء وعبرة عند الأذكياء، أعني ما اختصوا به عن الجماهير والدهماء، في فنون العقائد والآراء(..) ونحن نكشف عن فنون ما انخدعوا به من التخابيل والأباطيل، وتبين أن كل ذلك تهويل ما وراءه تحصيل، والله تعالى ولي التوفيق لإظهار ما فقدناه من التحقيق».

فعرف أن اسم هذا الكتاب قد ارتبط بالغزالي..لكنه ارتبط أيضا بابن رشد، فيلسوف الأندلس الكبير، الذي إذ اصدر في الرد عليه كتابه العمدة «تهافت التهافت» نظر كثر إلى الكتابين ككل متكامل، مفترضين وجود سجال بهما بين الغزالي وابن رشد..

لكن الحقيقة هي أن هذا الأخير لم يضع كتابه-الرد إلا بعد ثلاثة أرباع القرن مرت على وفاة صاحب الكتاب الأول. ومن هنا لم يكن ابن رشد المعني بهجوم الغزالي على تهافت الفلاسفة.. بل ابن سينا والفارابي ومعاصريهما.

وانطلاقا من هؤلاء إلى أرسطو والعقلانية الإغريقية التي كانت هدف الغزالي الأول والأخير على اعتبار أن الفلاسفة المسلمين لم يكونوا بالنسبة إليه سوى «بغبغاوات» تحاكي ما كان يقوله «المعلم الأول».

أما اشتغال ابن رشد على الموضوع، فكان هدفه منه إعادة الاعتبار إلى الفكر الفلسفي العقلاني وتبين تواضع الخطل والافتراء «في اجتهادات الغزالي. ولئن كان هذا يقول في إعلان كتابه انه لم يخض» خوض الممهدين، بل خوض الهادمين المعترضين، ولذلك سميناه «تهافت الفلاسفة» مضيفا انه لم يلتزم في كتابه «إلا تكدير مزاجهم والتغيير في وجوه أدلتهم، بما يبين تفاهتهم.

ولم تتطرق للذب عن مذهب معين»، فها هو ابن رشد يكذب زعم الغزالي هذا قائلا «قوله انه لا يقصد في هذا الكتاب، نصرة مذهب مخصوص إنما قاله لئلا يظن به انه يقصد مذهب الاشعرية». وعلى هذا النحو يضع ابن رشد كتابه، وكتاب الغزالي في إطار الصراع الذي عرفه الفكر الإسلامي بين علم الكلام الأشعري والفلسفة العقلانية.

يقسم ابن رشد كتابه إلى قسمين: الإلهيات والطبيعيات، وذلك على غرار القسمة التي اتبعها الغزالي في تهافت الفلاسفة وهو في القسمين يتناول «المسائل العشرين التي تناولها ابو حامد من مسألة القدم والحدوث إلى مسألة الخلود، ثم صدور الكثرة عن الواحد.

والاستدلال على وجود صانع العالم و«في أن الله واحد ونفي الكثرة في ذاته» ثم «الحديث عن الصفات» هل هي عين الذات أم غيرها ومسألة الوحدانية ثم الوجود والماهية في الذات الإلهية، والتنزيه والتحسيم وما إلى ذلك من أمور كانت تشغل علم الكلام في ذلك الحين. وبعد ذلك يتناول ابن رشد ثلاث مسائل يوردها تحت عنوان في العلم الإلهي.. العلم بالكليات:

هل يعقل الأول ذاته؟ ثم العلم بالجزئيات، ثم تأتي مسألة طاعة السماء والغرض المحرك للسماء واللوح المحفوظ ونفوس السماوات قبل أن ينتقل الفيلسوف إلى مسائل يسميها الطبيعيات فيبحث في السببية ثم روحانية النفس ومسألة الخلود ومسألة فناء النفوس البشرية وأخيرا البعث للنفوس أم لها وللأجساد؟

من الواضح هنا ان هذا الترتيب للمسائل إنما سار فيه ابن رشد تبعا لترتيب الغزالي في كتابه، ذلك إن فيلسوف قرطبة إنما شاء ان يرد على فيلسوف المشرق ويفند كتاباته صفحة صفحة ومسألة مسألة ليصل إلى استنتاج أساسي وحاسم بالنسبة إليه ومفاده إن دين الفلاسفة إنما يقوم أصلا على الإيمان بوجود الله وعبادته.

وإن مذهب السببية الذي ينقضه أبو حامد وينفيه، إنما هو المذهب الذي يوصل إلى معرفة الله وخلقه معرفة واقعية أما بالنسبة إلى الكثير من المسائل المتعلقة بالتصورات الشعبية للدين فيجب برأي ابن رشد تفسيرها تفسيرا روحيا لا عقليا لأن الغاية منها، أصلا، حث الإنسان على إتباع الفضيلة..

إذا كان تهافت التهافت يأتي بعد عقود من صدور تهافت الفلاسفة ليرد عليه ولا سيما من خلال تركيزه على إيمان الفيلسوف العقلاني بالذات الإلهية بعدما كان الغزالي يتهمه بعدم الإيمان بها فان أهمية الكتاب الأندلسي تتجاوز ذلك بالتأكيد الذي يرد فيه كالبديهة..

وهو أمر يختصره الباحث المغربي مهر عابد الجابري في تقديمه لطبعة جديدة محققة من تهافت التهافت بقوله إن كتاب ابن رشد إنما يدفع تلك الفكرة الشعبية السائدة التي ترى أن الغزالي وجه في كتابه تهافت الفلاسفة الضربة القاضية إلى الفلسفة لم تقم لها بعدها قائمة، ذلك أن كتاب ابن رشد يقدم في رأي الجابري دائما :ألف دليل على أن الفلسفة في الثقافة العربية عرفت قفزة نوعية تجاوزت بل قطعت بوعي وإصرار مع فلسفة ابن سينا وكلام الغزالي.

كذلك في معرض حديثه عن تهافت التهافت يقول لنا الجابري لقد سلك ابن رشد الطريقة نفسها تقريبا التي سلكها الغزالي في شروحه المطولة على كتب أرسطو: انه يتتبع الكتاب فقرة فقرة ثم يقوم بإبداء الرأي.. وابن رشد يتدخل تارة في جميع المراحل أو في جلها ليصحح أو يرد. وتارة يترك للغزالي أن ينهي كلامه في القضية موضوع النقاش ليتدخل ويحلل ويصحح.

وهو لا يقترض من منطلق مذهبي معين بل يركز على ما في الدعاوى المطروحة من ضعف منطقي او مخالفة لما يقول به الفلاسفة (وأرسطو تحديد) او لينبه إلى ان ما يقوله الغزالي لا يمثل رأي ظاهر النصوص الدينية من قرآن وحديث مقررا أن الأمر يتعلق بتأويل حظا.

في مطلق الأحوال، من المؤكد أن الاطلاع على الكتابين معا إنما يبين مدى الحيوية التي كانت للفكر الكلامي والفلسفي في الحضارة العربية الإسلامية، تلك الحيوية التي قد يكون صحيحا أن كبارا من المفكرين قد دفعوا في أحيان كثيرة كلفتها باهظة، لكنها عرفت في نهاية الأمر كيف تسبغ على الحضارة العربية ثوبا عقلانيا لا بد أن نلاحظ كيف أن نهاية القرن العشرين عادت.

وتراجعت به إلى الوراء بعدما كانت نهاية القرن طورته على يد نخبة لامعة من مفكرين عقلانيين ليبراليين ساروا على خطى ابن رشد دون ان ينكروا إسهامات الغزالي مكتفين برفضهم افراطاته من دون أن يخطر في بالهم، ان المرحلة الفاصلة بين القرن العشرين والقرن الذي يليه سوف شهد انتصار ليس للغزالي على ابن رشد.

وهو أمر كان يمكن أن يبدو مشروعا منطقيا، بل انتصار لافراطات الغزالي وجموحه من دون اخذ معظم ما تجلى في مواقع أخرى من عقلانيته، على عقلانية كل أصحاب الأسماء اللامعة الذين جعلوا من تلك العقلانية، اختصاصا عربيا إسلاميا في زمن كان فيه العالم يتخبط في ظلماته.

Email