التفسير والمفسرون

الإمام الواحدي.. وكتابه البسيط في تفسير القرآن الكريم

ت + ت - الحجم الطبيعي

الإمام الواحدي هو أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن متوية الواحدي النيسابوري الشافعي، ويلقب بالمتوى أيضاً نسبة إلى جده. ويكنى بأبي الحسن، ولكن شهرته بالواحدي طبقت الآفاق وغلبت أية ألقاب أخرى، والواحدي نسبة ـ كما قال العسكري وابن خلكان واليافعي، إلى الواحد بن مهرة، وبنو الواحد: بطن في مهرة وهو الواحد بن الدثن بن مهرة، والواحد بن الديل بن مهرة..!

وأسرة الواحدي هم قوم من التجار، فقد احترف أبو الواحدي التجارة بمدينة ساوة التي نبت فيها أصله، وكان لتوسط هذه المدينة بين الري وهمذان أثر كبير في رواج التجارة بها وازدهار معيشتها على نحو ما اسلفناه عنها، ولاشك ان اشتغال آل الواحدي بالتجارة قد أجرى عليهم الأرزاق، مما ساهم في استصحابهم طلب العلم مع التجارة وشغفهم به، وكذلك في تفرغ بعضهم للدرس والتحصيل وعونهم له..!

واذا كانت المصادر لم تتفق على تاريخ مولده إلا انها اتفقت على تاريخ وفاته في جمادي الآخر سنة ثمان وستين وأربعمئة هجرية بموطنه نيسابور التي دفن بها، بعد مرض طويل.

وقد درج الواحدي في حاضرة «نيسابور» ونشأ في أحضانها وبين ربوعها ومقانيها متأثراً بطبيعتها الساحرة مما ساعد على نمو الحاسة الفنية والذوق الأدبي ورقة الشعور وتيقظ مواهبه.

وتفوقه الدراسي، وقد كان أبوه هو معلمه الأول ومعه أخوه عبدالرحمن، ثم انتقلا معا الى الكتاب لحفظ القرآن الكريم، والذي عرف بكتاب الشيخ القاضي أبي عمر سعيد بن هبة الله بن الموفق البسطامي النيسابوري، وهو شيخ من أسرة علمية قرآنية، ذكر عنه السبكي في طبقاته:

«من سلالة الإمامة، والذي انتهى إليه أمر الزعامة لأصحاب الشافعي، ربي في حجر الرئاسة، وغذي بلبان الإمامة، وكان أبوه كذلك أبو محمد هبة الله الموفق، رئيساً للشافعية بنيسابور وكبير أهل الحديث بها، وكان له كتاب كبير كذلك تتلمذ عليه الكثير من أئمة الفقه والحديث والأدب..!

وغير خاف على أحد ان مفهوم الكتاب يختلف عما هو شائع اليوم عنه، فلم يكن مجرد مكان لتلقين القرآن، وإنما كان مدرسة لتدريس القرآن وعلومه الأولى وكذلك أصول المذهب وأصول اللغة وقواعدها وآدابها، ومن هنا كان الذي يتولى الإشراف عليه ممن بلغ رتبة الإمامة، كأبي محمد الموفق الذي كان رئيساً للشافعية بنيسابور..!

وهكذا بدأت موهبة الواحدي تتفتح مبكراً وهو لا يزال في الكتاب، فنظم الشعر، الذي نال استحسان أقرانه وأستاذه وأشادوا به..!

ثم انتقل إلى مدرسة السنة «دار السنة» بنيسابور وهي مدرسة الحديث التي أنشأها الإمام أبوبكر بن اسحق الصبغي النيسابوري، ثم أوصى بها الى أبي عبدالله الحاكم النيسابوري وقوض إليه أمرها، فكانت مدرسة متخصصة في علوم السنة، يضطلع بالتدريس فيها أئمة الحفاظ والمحدثين.

ومن هنا فقد تلقى الواحدي بدار السنة عن أدرى العلماء بالسنة في محيطه ومنهم على سبيل المثال، الإمام القاضي أبوبكر الحيري، وهو كما يقول السبكي، كبير خراسان رياسة وسؤددا وثروة وعلماً وعلو إسناد ومعرفة بمذهب الشافعي..!

كما تلقي عن علماء آخرين في بلاد الإسلام ومراكز العلم المعروفة وقتها، كأبي عثمان الحيري بالحيرة، والمفضل ابن اسماعيل الاسماعيلي والحافظ أبي الحارث محمد بن عبدالرحيم، وعقيل بن محمد الجرجاني، وتلقى بأصبهان على العلامة أبي نعيم الأصبهاني، وببغداد على أبي منصور البغدادي..!

ونحن هنا لا نقوم بحصر شيوخه، فإن مكان هذا ليس هنا، غير أننا نشير إلى الاعلام فقط، وأصحاب التأثير فيه، فمنهم في القراءات الاستاذ أبو القاسم علي بن محمد السبتي، وأبو عثمان سعيد بن محمد الحيري المقري الزعفراني، وأبو الحسن علي بن محمد الفارسي وغيرهم..!

أما شيوخه في التفسير فأبرزهم الإمام أبو اسحق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي المتوفي سنة 427هـ وكان أوحد زمانه في التفسير، قال عنه الذهبي: «الإمام الحافظ العلامة شيخ التفسير أبو اسحق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري، كان أحد أدعية العلم، له كتاب التفسير الكبير وكتاب العرائس في قصص الانبياء وهذه الشهادة من الذهبي المحقق تجعلنا نعتقد ان كتاب العرائس المتخم بالقصص الخرافية عن الأنبياء والاسرائيليات، قد دس فيه الكثير هو منه بريء..!

ومنهم شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبدالرحمن الصابوني النيسابوري (372 ـ 449 هجرية) قال عنه الذهبي: «الواعظ المفسر المصنف، أحد الأعلام روي عن زاهر السرخسي وطبقته. توفي في صفر وله سبع وسبعون سنة، وأول ما جلس للوعظ وهو ابن عشر سنين، وكان شيخ خراسان في زمانه».

وكذلك أبو الحسين عبدالغافر بن محمد الفارسي، ذكره الذهبي كذلك فقال: «راوى صحيح مسلم عن ابن عمرويه وغريب الخطابي، عن المؤلف. كمل تسعين سنة ومات في خامس شوال وكان عدلاً جليل القدر».

أما شيوخه في اللغة والآداب، فقد ذكر منهم: «أبا الفضل أحمد بن محمد بن عبدالله بن يوسف العروضي وأبا الحسن علي بن محمد الضرير، وأبا الحسن عمران بن موسى المغربي المالكي، والذي كان واحد عصره وباقعة دهره في علل النحو، ولم يلحق به أحد ممن سمعنا شأوه في معرفة الإعراب ـ فيما ذكره الواحدي نفسه..!

أما تلاميذ الواحدي، فهم كذلك كثيرون، ذكر المؤرخون منهم: الإمام عبدالجبار بن محمد بن أحمد الخواري نسبة الى بلدة «خوار» وهي احدى قرى بيهق، وأبو نصر محمد بن عبدالله بن أحمد بن محمد بن عبدالله الأرغباني، الذي ذكره ابن خلكان فقال: «واشتغل على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني .

وبرع في الفقه وكان إماماً مفتياً ورعا كثير العبادة، وسمع الحديث من أبي الحسن الواحدي، صاحب التفاسير، وروي عنه في تفسير قوله تعالى «إني لأجد ريح يوسف» إن ريح الصبا استأذنت ربها عز وجل ان تأتي يعقوب بريح يوسف قبل ان يأتيه البشير بالقميص فأذن لها فأتته بذلك.. فلذلك يستروح كل محزون بريح الصبان ـ وهي من ناحية المشرق ـ اذا هبت على الأبدان نعمتها ولينتها وهيجت الأشواق الى الأوطان والأحباب»®.!

وكذلك الشيخ عمر بن عبدالله بن أحمد بن محمد بن عبدالله الخطيب، شقيق أبي نصر السابق، وكذلك الإمام أبو الحسن علي بن سهل بن العباس النيسابوري المفسر، والشيخ أبو القاسم يوسف بن علي ابن جباره الهزلي المغربي، والشيخ أبو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد الميداني، المتوفي سنة 518هـ ذكر عنه القفطي انه تخصص على يد الواحدي في التفسير وقراءة النحو.

في كتابه أنباه الرواة، ومن ثم نستطيع القول بأن من تتلمذ على الواحدي، كان كأنه يتخصص في فن من الفنون، ويتخرج فيه على يديه..!وكذلك ذكر المؤرخون بين تلامذته أبا الفضل محمد بن أحمد الماهياني «المتوفي سنة 525ه».

والذي نقل السبكي في طبقاته عن ابن السمعاني أنه إمام فاضل ورع، كانت له معرفته بالفقه، فقد لبث مدة بنيسابور عند إمام الحرمين يتفقه عليه، كما تفقه على أبي الفضل التميمي بمدينة مرو، كما سمع من الحافظ أبي صالح المؤذن وأبي المعالي الجويني وأبي بكر بن خلف الشيرازي وأبي الحسن الواحدي وأيضاً يأتي ذكر إسماعيل بن أبي صالح المؤذن «451 ـ 532» الفقيه الشافعي. الذي نقل السبكي عن ابن عساكر أنه كان إماماً في الأصول والفقه..!

أما إنتاج الواحدي فيدلك على بحر زاخر من العلوم والتحقيقات القيمة في اللغة والشعر والأدب والحديث والفقه والتفسير، كما نقلت عنه مراجع المؤرخين، مما جعله موضع ثناء العلماء الأثبات وتقديرهم في التفسير نجد أول كتبه «البسيط في تفسير القرآن الكريم».

وهو أكبر تفاسيره التي بين أيدينا وأقدمها تأليفاً كما صرح بذلك في مقدمتي تفسيريه «الوسيط والوجيز»®. ووصفه القفطي بأنه التفسير الكبير نظراً لكونه ألف في التفسير غيره، وتحدث عنه ابن العماد في شذرات الذهب فقال انه تفسير يتكون من ستة عشر مجلداً، وتابعه على ذلك بروكلمان..!

أما مؤلفاته الأخرى غير البسيط والوسيط والوجيز في التفسير فله كتاب الحاوي لجميع المعاني في التفسير، ونص على وجوده اكثر من مؤخره، ويشهد لثبات قدمه في التفسير ان حجة الإسلام الغزالي جاء بعده فلم يتعرض لتفسير القرآن اكتفاء بمؤلفات الواحدي في التفسير..!

ولم يكتف الواحدي بما ألف من تفاسير وإنما ألف في علوم القرآن ما يستكمل به مشروعه القرآني فألف كتابه «أسباب نزول القرآن» ويعتبر أعظم تصانيفه في المكتبة القرآنية.

ويعد مرجعاً مهماً لكل من تحدث عن أسباب النزول، وله كتاب «نفي التحريف عن القرآن الشريف»، وله كتاب «مقاتل القرآن» ويذكر فيه تأثير القرآن القوي على النفوس والأرواح، وبعض من أخذته الرجفة عند سماع آيات القرآن حتى الموت، كما له رسالة في فضائل القرآن، ورسالة كذلك في فضل علم التفسير وشرفه..!

هذا غير مؤلفاته في علم الإعراب والنحو والأدب، وقد شرح ديوان المتنبي، وشرح أسماء الله الحسنى، وتفسير أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، وله كتاب في المغازي، وكتاب في الدعوات والفضول..!

أما منهجه في تفسير القرآن فقد جمع فيه بين التفسير بالأثر والتفسير بالرأي واستخدم اللغة وما تذهب اليه مدلولاتها، ولم يكن آلة صماء تنقل ما تجد دون نظر، وإنما ان نقل نقل ببصيرة ووعي ويقظة، وقد فسر القرآن بالقرآن قبل أي شيء، باعتبار أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، ثم تفسره السنة الثابتة، مصداقاً لقول الله عز وجل: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون» وتفسيرات النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن نقلها الصحابة ورواها عنهم التابعون فتابعو التابعين.

وهم أعلام مدارس العلم القرآني بحواضر الإسلام، وقد أحاط الواحدي بفيض كل مدرسة من هذه المدارس وعطائها في تفسير القرآن، فجاء تفسيره يمثل حاجة من حوائج العقول المتعلقة بالقرآن تتلمس فيه سبل هدايتها إلى الطريق الأقوم والمنهج الأرشد، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

علي عيد

Email