التفسير والمفسرون

الإمام الزمخشري .. وكتابه الكشاف

ت + ت - الحجم الطبيعي

هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري، ويلقب بالإمام الكبير في التفسير، والحديث والنحو واللغة وعلم البيان ويلقب: بجار الله الزمخشري، وسمي بذلك لأنه سافر إلى مكة وجاوربها زماناً، فصار يقال له: جار الله لذلك، وكان هذا الاسم ملازماً له.

وقد ولد يوم الأربعاء من شهر رجب سنة سبع وستين وأربعمائة في زمخشر الموافق 1074 ميلادية وتوفي سنة 538 هجرية الموافق 1143 ميلادية.. وهو صاحب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل.

وقال ابن خلكان: كان إمام عصره غير مدافع، تشد إليه الرحال في فنونه.. وكان معتزلي الاعتقاد، متظاهراً به، أي لا يخجل من إعلانه وإظهاره..!

وهو علم فذ من أعلام المؤلفين بالعربية في إطار الحضارة الإسلامية، وهو منسوب إلى زمخشر في إقليم خوارزم في الجنوب الشرقي من آسيا الوسطى، لم تكن زمخشر في عهده مقراً للحكم ولكنها كانت قرية كبيرة من قرى خوارزم.

ونشأ الزمخشري وعاش أكثر حياته في آسيا الوسطى، ولكنه جاور في مكة المكرمة زماناً، فعرف كذلك بجار الله. وهكذا كان شأن كثير من علماء المشرق الآسيوي، تبدأ حياتهم في موطنهم المحلي ثم ينتقلون إلى المنطقة العربية ثم يعودون إلى بلادهم.

وكانت المنطقة التي نشأ بها متعددة اللغات، العربية لغة الدين والعلوم والفارسية لغة أدبية صاعدة، والقبائل التركية أو الكردية تتعامل بلهجاتها أيضاً في معاملاتها اليومية، وفي هذه الظروف كانت اللغة العربية هي لغة الصفوة المتميزة من العلماء.

وهي اللغة المنشودة كان كل من أراد العلم وفنونه أتقن العربية وكذلك كل من تطلع إلى امتزاج كيانه بالإسلام أجاد العربية، وهكذا كانت نشأة الزمخشري..

وكما يقول الدكتور مصطفى الصاوي الجويني: «ولن نقول إنه صار عربياً على الفرس في وقت خمدت فيه جذوة الشعوبية ولكنا نقول إنه صار إسلامياً لا هو بالفارس المتحمس ولا بالعربي المصطنع الحمية لهم ـ وهذه النظرة إنما هي نظرة من اتسع أفقه العقلي وسما تفكيره.

فلعل أسرته الدينية وبيئته المسلمة التي كانت في نزاع دوماً مع جيرانها الكفار نضحاً عن الإسلام ـ كما مر بنا قبل ـ ثم ما اتسم به عصر الزمخشري من نزاع بين المسلمين والصليبيين وحروب تستعر بينهم باسم الدين إلى جانب عربية أستاذه وخلقه لعل هذا كله أصل في أعماق نفس الزمخشري حب العرب دينهم وعلمهم وأوطانهم فصار إسلامياً خالصاً.

فهو يؤلف كتاب المفصل في النحو لما بالمسلمين من الأرب إلى معرفة كلام العرب ويؤلف كتاب مقدمة الأدب لتعليم الفرس العربية ذلك لأن الحاجة إلى اللسان العربي سائحة في الملة الإسلامية».

وقد تهيأت أمامه الظروف لتعلم العربية والتبحر فيها منذ نعومة أظفاره، إذ يقول ابن خلكان: «أنه لما بلغ سن الطلب رحل إلى بخارى لطلب العلم»®. وبخارى يومئذ كانت مشهورة بالآداب إذ يصفها الثعالبي بقوله: كانت بخارى في الدولة السامانية بمثابة المجد وكعبة الملك ومجمع أفراد الزمان ومطلع نجوم أدباء الأرض وموسم فضلاء الدهر.

ولا شك أن أباه دفع به إلى هناك ليثقف العربية والأدب فيحظى بالمناصب التي كان يرقاها كل أديب نابغ في عهد نظام الملك وما من شك أيضاً في أنه ثقف فيما ثقف أيضاً هناك الحديث فوالده رجل دين والوزير الذي يرعى العلم محدث يروي الحديث ويبني المدارس لتعليمه.

ولكن على كل حال الصورة الواضحة لنشأته العلمية تتلمذه علي محمود بن جرير الضبي الأصفهاني أبو مضر النحوي المتوفى سنة 507 هجرية والذي كان يلقب بفريد عصره ووحيد دهره في علوم اللغة والنحو ومضرب المثل في الكثير من الفضائل. وقد أقام بخوارزم مدة وانتفع الناس بعلومه ومكارم أخلاقه وأخذوا عنه علماً كثيراً وتخرج عليه جماعة من الأكابر في اللغة والنحو غير أنه هو الذي زرع في خوارزم مذهب الاعتزال.

وقد سار الزمخشري على منهاجه ونسج على منواله. فنجده في كتابه «المفصل» يقيم بحثه النحو على عمد ثلاثة: الاسم ـ الفعل ـ الحرف. ولعل هذا المنهج وهذا الأسلوب في تناول النحو ومعالجته من روح أستاذه. ثم هو ذو منهج طريف أيضاً في بحثه اللغوي فمثلا في معجمه ـ أساس البلاغة .

ـ وهو شائع منشور اليوم ـ نجده يبحث في اللفظة ومعانيها حينما ترد ثم يتعقب اللفظة عينها في استعمالاتها المجازية والبلاغية ـ بإيرادها في تركيب فصيح أو تعبير بليغ يجلي معناها ويلقي الضوء عليه.

ومن أجل ذلك جاء تفسيره حافلاً زاخراً بإبراز معالم القرآن الاعجازية والبلاغية، وحاز إعجاب المحققين من العلماء من هذه الناحية، حتى إن الإمام ابن تيمية ليقول: «بصرف النظر عما فيه من الاعتزال فهو تفسير لم يسبق مؤلفه إليه، لما أبان فيه من وجوه جمال النظم القرآني وبلاغته. فقد برع في كثير من العلم.

فالكشاف ـ أي التفسير ـ قالب أدبي رائع، وصوغ إنشائي بديع. لكنه تأثر في تفسيره بعقيدته الاعتزالية فمال بالألفاظ القرآنية إلى المعاني التي تشهد لمذهبه، أو تأولها بحيث لا تتنافى معه على الأقل، فإنه في محاولاته هذه قد برهن بحق على براعته وقوة ذهنه.

وكما اعتبرنا تفسير الطبري ممثلاً للقمة العالية في التفسير بالمأثور.. فهنا كذلك سنعتبر الكشاف للزمخشري القمة العالية للتفسير الاعتزالي.

ومن محاسن القدر والعلم والتحرير، أن اعتنى كثير من علماء الأمة بهذا الكتاب، سواء من ناحية الرد على ما بألفاظه من اتجاهات اعتزالية، وتقريرات مذهبية نحو المعتزلة، أو تخريج أحاديثه وتحقيقها.

أو تخليصه من الحشو أو الإسرائيليات، فهذا شرف الدين الطيبي الذي تتبع ألفاظه وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها وتنقضها، وتبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة. فأحسن وأجاد في ذلك مع ما شاء من إمتاعه في سائر فنون البلاغة وفوق كل ذي علم عليم.

كما قام الإمام أحمد بن محمد المعروف بابن المنير عالم الإسكندرية وقاضيها بتأليف كتاب الانتصاف لبيان ما في الكتاب من الاعتزال وما فيه من ميل باللفظ القرآن إلى مذهبه دون أن يحتمله اللفظ.

وقام الإمام عبدالله بن يوسف الزيلعي المتوفى سنة 772 هجرية بتأليف رسالة في تخريج أحاديث الكشاف وما فيه من قصص وآثار بين فيها الصحيح من الضعيف من الموضوع. وكذلك قام الإمام ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هجرية بتلخيص كتاب الزيلعي والتعقيب عليه والتحذير من الاعتزال فيه، في رسالة سماها «الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف»®.!

وعن تفسير الكشاف يقول الدكتور محمد بن محمد أبوشهبة: «إن تفسير الكشاف من خير كتب التفسير وأجلها، ولولا نزعته الاعتزالية في بعض الآيات القرآنية، لما تناوله المعترضون بالنقد، ولما شنأه بعض الناس وبحسب هذا الكتاب فضلاً ومنزلة: أن كل من جاء بعد الزمخشري عالة عليه فيما يذكره فيه من أسرار الإعجاز والغوص على المعاني البلاغية الدقيقة.

ولبراعته في الكلام وتمكنه من فنون القول، وبعد غوره يدس بعض آرائه في أثناء تفسيره، وتروج على خلق كثير من أهل السنة ولذا قال البلقيني: استخرجت من الكشاف اعتزالاً بالمناقيش من قوله تعالى:

«فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز» «185 آل عمران»: قال: أي فوز أعظم من دخول الجنة، أشار إلى عدم الرؤية، وقال ابن تيمية أثناء الكلام عن تفاسير المعتزلة: ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة، يدس البدع في كلامه، وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير من أهل السنة، كثير من تفاسيرهم الباطلة..!

علي عيد

Email