مقامات بديع الزمان الهمذاني .. سيرة متتابعة لبطل مضاد

مقامات بديع الزمان الهمذاني .. سيرة متتابعة لبطل مضاد

ت + ت - الحجم الطبيعي

حكايات شعبية.. أو صورة بانورامية لمجتمع ما... أو أدب كتبه فنان عاش كل زمانه ورصد ما يحدث فيه؟ «مقامات بديع الزمان الهمذاني» كانت هذا كله في الوقت نفسه.. لكنها كانت أيضاً فرصة الترفيه وتزجية الوقت الرئيسية في جلسات مسائية حافلة يهيمن فيها الأديب الحكواتي على الوضع ويكتسب سلطته بفضل ما يحكيه في ذلك المقام ..

ومن هنا كان الاسم: المقامات «أنا باكورة اليمن وأحدوثة الزمن. أنا أدعية الرجال وأحجية ربات الجمال، سلوا عني البلاد وحصونها، والجبال وحزونها والأودية وبطونها، والبحار وعيونها (...). من الذي يملك أسوارها وعرف أسرارها (...) سلوا الملوك وخزائنها والأغلاف .

ومعادنها والأمور وبواطنها والعلوم ومواطنها والخطوب ومغالقها (...). أنا والله فعلت ذلك وسفرت بين الملوك العيد. وكشفت أستار الخطوب السود. أنا والله شهدت حتى مصارع العشاق، ومرضت حتى لمرض الأحداق وهصرت الغصون الناعمات واجتنيت ورد الخدود الموردات»®®.

هذه العبارات ترد على لسان عيسى بن هشام في واحدة من مقامات الهمذاني الشهيرة «المقامة السجستانية»®. أما لماذا اخترنا هذه الفقرة لنبدأ بها الكلام على هذا الفن الأدبي العربي بامتياز، فواضح: في شعاب هذه العبارات كل شخصية بطل المقامات. سواء أكان ما يقوله صدقاً أو كذباً عن نفسه أو عن بطله الآخر المتخيل، والذي تروى لنا هنا أخباره:أبو الفتح الاسكندري.

لكن في هذه الشعاب أيضاً صورة مباشرة أو مواربة للتجمع الذي تدور أحداث المقامات ضمنه، إذ من خلال الأجواء والمواقف والشخصيات يمكن للباحث أن يدرس بعض أهم تفاصيل الحياة الاجتماعية في ذلك الزمن، وهو أمر لا يتوفر لا في الشعر ولا في الكتب العالمية والعلمية الأخرى.

من هنا يسهل القول ان المقامات تكاد تكون الصورة الأصدق عما كانت عليه الحياة زمن كتابتها. ذلك أن بطل المقامات سواء أكان مروياًّ عنه كالأسكندري أو راوياً يتحول الى بطل في بعض المقامات مثل عيسى بن هشام، يتجول في شتى زوايا المجتمع يصعد ويهبط يتجول يراقب يرصد.. ثم يصيغ حكايته عن ذلك كله، فإذا بالتمارين يجد نفسه داخل زمان وأمكنة تطل بواقعيتها من خلف زحام المغامرات والمواقف، مهما كانت خيالية هذه الأخيرة.

ولذا كان من الطبيعي للباحثين أن يعتمدوا المقامات، أكثر مما اعتمدوا أي نوع أدبي آخر لكي يدرسوا الصورة الحقيقية لتلك التجمعات وأساليب التفكير والذهنيات والعلاقات بين البشر وبين الناس والطبيعة، وبين الناس والسلطة والقضاء والدين، ناهيك بالعلاقات بين الطبقات والشرائح، ثم المستويات التي بلغتها الفنون والعلوم.

وإذا زدنا هنا كيف أن مسارح المقامات تتبدل بين المدن والدساكر العربية الإسلامية، كما كانت حالها في ذلك الحين، سندرك بسرعة كيف يمكن الاعتماد على هذه النصوص الشعبية والبسيطة للتوغل في مشاهد اليومين ومجريات الحياة العامة وصولاً حتى الى دراسة فنون العمارة بين فنون أخرى.

لقد عرف تاريخ الأدب العربي مجموعات عديدة من المقامات تبقى مقامات الحريري ومقامات الهمذاني أشهرها ومعروف أن فن المقامة الذي أخذ اسمه من المجالس والندوات التي كانت تعقد للأنس ويصار فيها الى رواية شتى أنواع الحكايات ـ نشأ مع غيره من الفنون الأدبية شعراء ونثراء، غير أنها ـ وحسب الدكتور ثروت عكاشة ـ لم تستو فنا قائماً بذاته له مقوماته، إلا على يد بديع الزمان الهمذاني في القرن العاشر.

زفهو الذي أعطاها تلك الملامح التي عرفت بها حين أخرجها من نطاق الحادث المحدود المروي عرضاً، إلى شكل القصة المتتابعة الأحداث النابغة بحوار الشخصيات...»، ولقد ظهرت المقامات أول ما ظهرت في شكل ندوة يلتقي فيها الناس ثم يتصدرها أديب حكواتي متحدثاً بعبارات موجزة بليغة الصياغة عن حادث معين أو شخص ما...

في مقامات الهمذاني، تروى لنا الأحداث والمغامرات، إذا، على لسان عيسى بن هشام، الذي يحدثنا عن جولات ومغامرات.. وعيسى بن هشام يكتفي في معظم تلك المقامات ـ البالغ عددها ما وصل إلينا منه 52 مقامة ـ عما حدث لأبي الفتح ومعه..لكن ابن هشام، في عدد من المقامات محدود(مثل «الحلوانية» و«البغدادية».

و«الموصلية» يتحول هو الى الراوي والمروي عنه، حيث يحل في بطولة المقامة محل الاسكندري. وفي الأحوال كافة ما يبقى لنا من صورة ابن هشام إنما هو صورة العالم المتجول ذو البصيرة والراصد لما يحدث من حوله.

وفي المقابل تلوح لنا صورة الاسكندري مختلفة تماماً، فهو في مقاماته ماكر أفاّق واسع الحيلة مبذر للمال، ساع الى الايقاع بين الناس، لا يتوقف عن الاحتيال لتأمين عيشه. بيد أن أطراف مشاهد المقامات تظل تلك التي تشهد مجابهة بين زالبطلينس : عيسى بن هشام وأبي الفتح الاسكندري..

حيث أنه في خصم أعمال الاسكندري الذي غالباً ما يظهر متنكراً لكي يقوم بضروب احتيال دون أن يدرك حقيقة أحد، يكون ابن هشام موجوداً، ويكون هو الوحيد القادر على التعرف عليه وسط الجموع، راصداً مساعيه، تحت أسمال بالية أحياناً.

وتحت قناع شاعر أو قاض أو رجل دين في أحيان أخرى، لبث مكره وكيده بين الناس.. وتكون النتيجة أن يكشف عيسى هوية الاسكندري أو يغض الطرف عنها إذا ما وجد ذلك ممكناً. ومن هذا الموقف تقوم بين الاثنين مجابهات غاية في الطرافة والذكاء.

انطلاقاً من هنا، لن يعود غريباً أو مدهشاً أن نعرف أن المقامات، ولا سيما الهمذانية منها ـ والى حد ما، أيضاً، الحريرية ـ كانت الفن الأكثر شعبة، خاصة .

وأنه على رغم تدوينه في كتب أُرفقت برسوم كان يتفنن رسامون كبار في تحقيقها ـ أشهرهم الواسطي بالطبع ـ، كان يُتداول شفهياًّ ليتحول من جديد الى حكايات تروى في المجالس.. وفي بعض الأحيان منغمة مع موسيقى مصاحبة، لا يزال لها وجود ملموس في واحد من أشهر فنون الموسيقى العربية في العراق:

المقامات... وكان كثر ينظرون إليها أيضاً بوصفها مادة تعليمية في شؤون الأدب والفن والمجتمع والتاريخ.. ولكن أيضاً في مادة الأخلاق، طالما أن التعارض الأساسي فيها يظل بين أخلاقية الراوي عيسى بن هشام، ولا أخلاقية المروي عنه، أبي الفتح الاسكندري.

وإذا كان كل ما وصلنا من مقامات الهمذاني تلك المقامات الاثنتين والخمسين، التي يحمل كل منها اسم مدينة أو بلدة، أو حتى حي في مدينة كبيرة، فإن بديع الزمان أبا الفضل الهمذاني (المولود كما يدل اسمه في همذان العام 358ه.) يقول في حديثه عن نفسه أنه أنشأ طوال حياته أكثر من 400 مقامة..

وهو رقم يشكك فيه على أية حال كثر من المؤرخين. والحال أن بعض هؤلاء يأخذ على هذا الأديب كون معظم مقاماته يبدو متشابهاً في ب\نيته وأحداثه، حتى ولإن اختلف في التفاصيل..

فالبنية المعتادة هي دائماً أن يكون ثمة جمع ما في مدينة ما، ثم يظهر في وسطه شخص غريب السمات والزي ليبدأ الحديث عن نفسه ..... لا يمل الآخرين، ليتبين في النهاية، على لسان ابن هشام الذي يكون حاضراً ـ ويا للمعجزة الدائمة-إن ذلك الشخص إنما هو الاسكندري.

والملفت في هذا كله أن أدب المقامات كما كتبه الهمذاني، أدب معاصر لزمنه باستثناء بعض المقامات التي تروي أحداثاً تاريخية ويصور بعضها جزءاً من حياة سيف الدولة الحمداني وبعضها الآخر يكون من بطولة الشاعر ذي الرقة.

أما الهمذاني فقد عاش ردحا من عمره في الريحاني بلاط الصاحب بن عباد، كما انتقل ردحا الى نيسابور وجرجان قبل أن يواصل تنقله وصولاً الى غزنة حيث تزوج واستقر.. أما المقامات فيبدو وأنه كتب معظمها في سجستان مهدياً إياها إلى أعيان المدينة متكسباً منهم بفضلها.

Email