بسيم الريس يقرأ تفاصيل «الحارة» من زواياها المتعددة

الاتكاء على الذاكرة يغلف الأعمال بدفء طفولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يضم معرض الفنان السوري بسيم الريس المقام حاليا في مركز دبي العالمي للفنون، غاليري «76»، نحو خمس وثلاثين لوحة، مشغولة بمواد مختلفة على مساحات من القماش متقاربة القياسات، تغلب عليها الأشكال المربعة... يتكئ الريس في أغلب تلك الأعمال على ذاكرته وتداخل تلك الذاكرة مع التصورات والمجازات مما يعطي للوحة بعدها الفني والدلالي العميق،

ولكن بتأطيره تلك الأعمال بمراحل من طفولته تضفي عليها عفوية ودفئاً شاعرياً، تعبر عنه تارة مفرداته وتارة أحلامه وتارة ذاك الغبش الآخاذ من الألوان والتداخل في السطوح خلف ضباب التأمل أو محاولة استحضار حنين قديم عبر أحلام اليقظة... فتبدو اللوحة قصيدة، موسيقاها دفء المكان الطفولي، ورؤياها في البحث عما كان وعما يجب أن يكون عبر تشكيلات من ظلال الأجساد ومفردات البيئة ومكوناتها الشعبية الحاضرة والغيبية.

تطغى في هذا المعرض، أجواء الحارة على كل أعمال الريس، ويظهر ذلك بوضوح من تعامله مع اللون، حيث الألوان الترابية وألوان الأحجار والبناء القديم هي الطاغية، والمفردات متكررة ومحدودة، لكن حضور تلك الألوان وتمازجها، وحركة ووضعية تلك المفردات ودلالاتها وتعبيراتها.. تختلف قراءتها بين لوحة وأخرى، ويرجع ذلك إلى استفادة الريس من الموروث الفني في هذا المجال من جهة، ورهافة أحاسيسه ومصداقيته في استحضاره لذاكرته الطفولية ومرجعياته التراثية من جهة ثانية..

وإن كانت تلك التعبيرات الطفولية والشاعرية تظهر في بعض الأحيان بالرسم على الجدران، لكنها في أغلب الأحيان تظهر عنده بالرسم على الحارة، ولأنه ليس ثمة آفاق كما هو الحال في الطبيعة، تتماوج أو تتداخل أبعاده في تشكيلاته لمفرداته، أكانت أشباحاً أم أجسادا أم أدوات أم ..

بين الأبواب والشبابيك والجدران والأزقة، ولضيق تلك الأبعاد تبدو اللوحة بسطح واحد، لكن تشي لعبة الظل والضوء أو الدوائر أو حركة الأجساد عن وجود بعد ثالث، وبانفصاله تارة وبتداخله مع عناصر اللوحة تارة أخرى، تتشكل خصوصية الريس في رسمه على الحارة ككل، وتعطي قراءات مختلفة لكل لوحة.

وخصوصية الريس لا تحددها بنية اللوحة وتقنيتها وألوانها ومفرداتها وحسب، بل مرجعية الفنان ذاته وارتباطه ببيئته، فمن الواضح تماماً هذا الانغلاق المدني الخاص بالحارات القديمة، وهذا الارتباط بالمكان «البيتوتية»، جرد اللوحات مع فضاءاتها الرحبة، فانشطر الريس بين الحنين والانعتاق بين حب المكان، والحلم بالخروج منه والعودة إليه،

بين ما ضاع من الطفولة كشيء جميل، وما استعاد امتلاكه بالرسم الآن، ومنح هذا الانشطار للريس خصوصية، وساهم أيضا بتعدد القراءات رغم الأجواء الواحدة للحارة. وكان ألوان السماء - كتعبير عن الانعتاق - في لوحات زرقاء ساطعة أربكت حضورها وكانت «الدراجة» كحلم طفولي بامتلاكها، وكمفردة متكررة في اغلب الأعمال تتجسد كوسيلة للخروج من الانغلاق،

أو تشارك في حركة الشخوص، وأحيانا في حوارهم، أو في البناء حين تصير جزءاً من مفردات البيئة أو من البنية الأساسية للوحة. يغلب على شغل الريس الواقعية التعبيرية، لكن ثمة انفلاتات ضمن سياقها الفني والتقني من خلال التحوير والتشخيص والتجريد أحياناً، وهي انفلاتات منطقية وهادئة، لكن ثمة خروج مفاجئ عن أجواء الحارة، وعن الطبيعة اللونية لأغلب الأعمال، وعن أسلوب الريس الذي صبغ به أعمال هذا المعرض،

منها ما يعود لحالة الانعتاق ولو الطفولي من المكان، فجاءت اللوحات الزرقاء خارجة عن المألوف مع استخدام الفنان للمفردات ذاتها تقريباً،وإن حاولت تشكيل تجربة مغايرة لكنها لم تكتمل، فشكلت خروجاً مفاجئا .. ومنها ما يتعلق بمحاولة الخروج من أجواء الحارة إلى القرية بدلالات لونية وبيئية، فجاءت طقوس القرية دون آفاق رحبة وفضاءات واسعة،

ومنها محاولات تقنية كالشغل بالكولاج، فكانت من حملت منها الأجواء اللونية للحارة هادئة وقريبة من أسلوب الفنان، وما ابتعدت لتشكل تنويعات مغايرة جاءت فجة ومرتبكة بالمعنى الحرفي والتقني للإرباك، وبالمعنى العفوي للتجريب. ويظل الانطباع العام عن هذا المعرض هو ذاك الغبش اللوني الناعم الذي يدل على عمق الحنين ودفء الحميمية ورهافة الفنان وشاعريته في استحضار، ليس طفولته وحسب، بل مشاعر تلك الطفولة أيضاً.

محمود أبوحامد

Email