رواد وذكريات

مصبح الظاهري وحكاية 98 عاماً عبر الزمان والمكان

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما يخلو المرء بنفسه، فإن شريطاً من الذكريات يمر مليئا بالمحطات، بعد عناء يوم عمل مضن، فما بالك، لو ان صاحب الشريط يحمل أعباء «98» عاماً خلت يطوف بك أيام الزمن البسيط يتمتع بذاكرة قوية وهمة عالية وروح الدعابة والمرح، رغم انه عاش وحيداً أعزب صغيراً من حوله هم أبناؤه وأهله ومن أجلهم افنى عمره.

إنه مصبح عبيد الظاهري «العزوي» صاحب أول مشروع إعلامي إعلاني في زمن كانت فيه الاخبار تنقل بالتواتر، جمع ثروة مالية كبيرة من ابسط المشاريع، واكتفى بتجربة زواج قصيرة لم تدم سوى أشهر قليلة.

 وحيداً مع الذكريات

اللقاء في منزل مصبح في منطقة المويجعي حيث الوحدة تلف المكان الشاسع عليه عليك بالقصص والحكايات، ونبدأ بالسؤال لماذا أنت وحيداً، ولم تتزوج ولديك من الثروة والامكانات ما يؤهلك للزواج عدة مرات.

يضحك مصبح ويقول: تصدق بالله لو اني تزوجت لفقدت حياتي من زمان وما عشت لهذه الأيام، لقد جربته غصباً عني مرة واحدة منذ 70 عاماً لفترة قصيرة ومن يومها لم اعد إليه، فالمرأة لا تشكل عندي هماً أو حاجة «سبحان الله» قلنا له وحياتك الاجتماعية وأموالك لمن تجمعها.. فقال: لوجه الله والمحتاجين.

وأشار إلى انه عاش في زمن الشيخ خليفة بن زايد الأول الذي يعود إليه الفضل الكبير في رعايته اثناء طفولته البائسة والتي أفناها في فلاحة وزراعة الأرض التي أعطاها فأعطته.

 حس اعلامي

نعود لأصل الحكاية والبداية التي لابد منها عندما بدأ الحديث حول تاريخ الصحافة في منطقة الخليج بشكل عام والإمارات بشكل خاص.. فالرجل اعلامي بالفطرة ولا يعرف من تقنيات الإعلام.. إلا ما يسمع عنه هذه الايام.. لكنه صاحب بصمة ومحطة مهمة يرويها بمتعة وتلذذ وفخر واعتزاز واصل الحكاية كانت بهدف الدعاية للمقهى الشعبي الذي افتتحته في سوق العين.

حيث كان يبيع «النخي» وهو حب الحمص، حيث كان أبناء المدينة يأتون إلى المقهى لشرب الشاي وسرد القصص والحكايات واراد ان يجعل للنخي دعاية فحصل على الورق المقوى من كرتون البضائع وكتب عليها اعلاناً دعائياً لفوائد النخي قال فيه:

«ان من فوائد النخي، إذا قام الرجل الى غرفة نومه يجد نفسه البطل الوحيد، يهتز وكأنه عنتر، ويقول لزوجته هلمي الي بسرعة كي ننام، وما قصده بل قصده شيء آخر» ويضحك مصبح في ذلك الإعلان البسيط الذي فتح له آفاقا واسعة حيث ازداد رواد المقهى، ووجد نفسه مطالباً في كل يوم بتزويد الرواد بآخر الأخبار التي كان يأتي بها من مجالس الشيوخ ويكتبها على جدران سعف النخيل ولقيت اقبالاً كبيراً، اضافة لذلك كان يرتجل الشعر.

اما الراديو فقد جاء في مرحلة اخرى فقد حصل عليه من احد الجنود الانجليز ووضعه في مكان بارز من مقهى النخي ينقل للعالم اخبار «العجايب» حيث كان البعض يعتقد ان بداخله «جني» بعد ذلك طور اهتماماته الإعلامية والصحافية، حيث بات يأتي بها من البحرين ويستمع إلى تعليقات احمد سعيد ومثلها اخبار الحروب العالمية.

 مقهى النخي

ويطوف بنا مصبح بذاكرته اليقظة رغم أعباء السنين، ويتذكر كيف كان يصنع الشاي في صفائح الغاز التي كانت من عبدان ويضعها على موقد الحطب وثمنها روبية واحدة وهي أجرة عمل يوم كامل.

ويتذكر مصبح انه كان «كاتباً» فهو يفك الخط فأي رسالة لغريب او حبيب تأتي إلى المدينة وكانت تأتي إلى مقهى النخي حيث يفك خطوطها ويقرؤها لصاحبها، ولم يكتف مصبح بذلك فقد زود المقهى ايضا بجهاز «البيشثخنة» وهو اسطوانات موسيقية يذكر انه اشتراها من احد تجار دبي يوسف حبيب اليوسف فيها مجموعة من مطربي ذاك الزمان.

وكان الزبائن يجلسون على الصحارات الخشبية أو الكرتون أو يفترشون الأرض زادهم في ذلك الشاي والنخي وضوء القمر تحت واحات النخيل يقاومون البرد بأكياس الرز الخالية وأصبح مقهى التخي رجعاً إعلامياً لسماع الأخبار والترفيه، ويذكر مصبح أن أحد الصحافيين العرب سمع بالمقهى وجريدة التخي وقام بزيارة للاطلاع على مشروعه المتواضع حيث كتب عنه مقالاً في إحدى الصحف اللبنانية وهو الصحافي علي عبود منذ أكثر من 40 عاماً حيث أقام عدة أيام في أول بناية خاصة بناها مصبح من الطين.

أما عن الأخبار السياسية فيذكر مصبح أنه كتب ذات مرة مقالاً شرح فيه الأوضاع السياسية في المنطقة والخلافات الخاصة في منطقة البريمي ونشرت في صحيفة الخليج البحرينية ومن يومها «حرم» الكلام في السياسة واشتغل بالتجارة ويعيش على ذكريات «التخي».

رجل أعمال شامل

نعود به للذكريات الشخصية في ذاك الزمن البسيط ويأخذ مصبح نفساً عميقاً وتعلو وجهه ابتسامة ويقول. لقد كانت الحياة بسيطة حلو.. حيث سنحت لي ظروف تواجدي مع الشيوخ للإطلاع والزيارات ومجالسة العلماء والمفكرين والبحوث على تجارب الآخرين.

حيث استفدت من ذلك كثيراً وبدأت أول مشاريعي التجارية بالاستثمارات العقارية حيث كانت أيضاً من أول المشاريع حيث أقمت مجموعة محلات تجارية في سوق العين القديم مبنية من السعف والطين وقبل 40 عاماً (أقمت أول بناية تجارية أشرف عليها «أسانيد» وهم مجموعة بنائين من إيران وأجرت أول محل تجاري بثماني روبيات في السنة للتاجر أحمد السلامي الذي ما زال حياً يرزق حتى الآن ويمارس عمله التجاري في نفس منطقة السوق.

ويذكر أيضاً أنه كانه صاحب أول مغسلة للملابس أيضاً ومعظم زبائنه من «الهناجرة» من أصحاب النخيل والجنود الانجليز، ويذكر ان الملابس كانت تغسل بالماء والطين حيث لم يكن الصابون معروفاً حينذاك، ولم يكتف مصبح بذلك بل تطورت أعماله التجارية وافتتح عيادة طبية لطبيب إيراني سكن هو وعائلته.

وكذلك أول محل للصرافة كان في منزله، حيث يروي أن الجنود الانجليز جاءوا إلى منزله يحملون الدينار البحريني بصناديق بدلاً من الروبية الهندية، مثل هذا حصل في زمن لا توجد فيه مدارس، بل قل ما هو متاح الذهاب إلى المطاوعة للتزود بعلوم القرآن ومن هنا جاءت تسمية حي المطاوعة في مدينة العين والتي حل مكانها حالياً نادي العين.

ويغمض مصبح عينه قليلاً سانداً رأسه على الحائط وكأنه يشاهد فيلماً سينمائياً والبسمة لا تفارق محياه ويقول زمان أول تحول.. لقد كانت الحياة سهلة وبسيطة زادنا فيها الشعر والليل والقمر والرطب والزراعة والافلاج تعب وشقاء في النهار ومتعة وهذا في الليل.. اليوم تغير كل شيء من حولنا فقد زادت الثروة وتغير نمط الحياة من مختلف جوانبه الاجتماعية والاقتصادية حتى المفاهيم والقيم الإنسانية.

 عطاءات زايد

وفجأة نتوقف عند محطة المغفور له الشيخ زايد رحمه الله ويقول، هذا الرجل أعطى كثيراً لشعبه وأهله ووطنه ويستحق منا الدعوة والمغفرة، ويذكر كيف ان الشيخ زايد رحمه الله وضع عصاه وخطط مقر تلة المريعة وأشار له أيضاً بعصاه وأعطاه أول قطعة أرض.

 حكايته مع الشعر

وقبل ان نودعه ونتركه لذكرياته ووحدته شعر على أيدينا بقوة وعزيمة الشباب مؤكداً أنه ما زال قوياً ولم يزر بحياته طبيباً إلا ما ندر، وسألنا أين ستنشرون الحوار فقلنا له في جريدة «البيان»، فقال يعني دبي فقلنا له نعم، هنا أعادنا للجلوس مرة ثانية وأخرج لنا ثلاث صفحات كتبها بخط يده يقول فيها:

الخير جاها من السما وغطاها

راشد بن سعيد الذي بناها

شوف المشاريع التي سواها

تشبه عروس واقفه بمغشاها

الشيخ مكتوم الذي علاها

أسس مبانيها على تقواها

الشيخ حمدان بالذهب حلاها

الكل يحب دبي ولي فكرها

والشيخ محمد بالفكر غذاها

بالحلم والأخلاق رفع طرواها

قدوة للعالم والعرب سواها

ثالث مطار بالعالم سجل

رفع دبي للثريا والنجوم سواها

حتى المحاكم والداير كلها

تمشي على حسب النظام خلاها

الأمن .. ما قصر ضاحي وربعه

وقد أسود يد واللي وياها.

وعلى باب منزله سألناه مرة أخرى عن المرأة وقلنا له ما عندك شيء للغزل مسح عينيه التي أرهقهما الماء الأزرق وحك رأسه وقال واصفاً إحدى الفتيات من أيام زمان:

لها قدم كأنه سحل

والساق كالموج رويانه

وحاجب كضياء الشمس مشرقة

ماضي سناها يفضح جلا ألوانه

ومضمر كبريه القلم

كالنون أو خاتم سليمان

عجائب الحسن في اطرفها جمعت

آمنت بالله ذاك الصدر بستان

كأنها ظبية قد صابها فزع

وسط الغلا على رمل وجيزان.

ويبقي مصبح الظاهري جزءاً من ذاكرة وطنية ومرحلة غنية اختزنها في ذاكرته يرويها للأجيال عبر الزمان والمكان.. ويؤكد ان مدينة العين عبر قلاعها وأفلاجها وواحتها تبقى حبه الأول والأخير مؤكداً عمق علاقة الإنسان بالمكان الذي ينتمي إليه.

Email