الأزقة تراث الشعوب في شوارع ضيقة متعرجة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت تعد الأيام والسنوات منذ أن عبرت المحيط على متن طائرة ضخمة لنقلها إلى النصف الآخر من العالم لتبدأ دراستها في «الإعلام» حتى أنهتها مع مرتبة الشرف ودرجة الامتياز، وسط التصفيق والأضواء أمسكت بشهادتها، دموع الفرح اختلطت بكل ذكرياتها التي تركتها منذ سنوات، ولكنها في القلب تسكن، وفي الوجدان لها كل الحضور وفي الشعور واللاشعور تفرض حضورها الجميل الذي له وبه تدفع عيونها كل ليلة وهي مطلة من نافذة حجرتها في المسكن الجامعي مباشرة على المحيط، ذكرياتها بعمق المحيط الهائل..

فتاة مصرية، ملامحها شرقية، عيناها تحاكيان عيون الملكة الفرعونية نفرتيتي، في دقائق حزمت أمتعتها، وارتدت ملابس الرحيل «للمحروسة»، جينز وبلوزة مطبوع عليها وجه نفرتيتي، هاندباك، ونظارة شمسية، كرسي وثير في طائرة عملاقة.. وضعت في أذنيها سماعات المسجل واختلط الواقع بالخيال، إنها، الفتاة، التي اشتاقت لكل شارع وزقاق في مصر، اشتاقت لزقاق المدق، وحوانيت خان الخليلي، وأزقة النحاسين، اشتاقت لحكاوي المقاهي ورنة الخلخال.

وكتب نجيب محفوظ، والمساجد القديمة التي ينتهي بها كل زقاق من الأزقة، التي منها يفوح عبق الماضي وجمال الأيام، وضحكات من القلب ترتفع حتى أعلى مئذنه أزقة جمعت كل الناس رغم ضيقها وتعرجاتها، وكأنها حضن مفتوح، يحتوي كل القادمين إليها، منها يفوح عبق السحلب والشاي الأخضر بالنعناع والحلبة الحصى، وفي الخلفية صوت محمد قنديل في أغنيته الشعبية «يا حلو صبح.. يا حلو طل.. يا حلو صبح.. نهارنا فلّ».

وسيد مكاوي في زقاق آخر تتسرب كلماته، وكأن الزقاق يحتضن صوتا مع سكون الليل، عندما يشدو برائعته «ياليل طول شوية على القاعدة الحلوة دية...».

إنها قصة الأزقة وحكاوي الشوارع الضيقة في مصر ولبنان وسوريا والمغرب العربي، حكاية عمر بأكمله فما هي قصة الأزقة تلك؟

زقاق المدق، هو أحد الأزقة المتفرعة من منطقة السيدة زينب بالقاهرة القديمة، وتتميز هذه المنطقة بأنها جزء من القاهرة الفاطمية التي أسسها الحاكم الفاطمي «المعز لدين الله الفاطمي» منذ ما يزيد عن ألف عام لتكون عاصمة الدولة الفاطمية بمصر.

وزقاق المدق هو زقاق شعبي صغير وقد كتب عنه أديب مصر نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في العام ‬1988، إحدى رواياته الشهيرة المسماة باسم الزقاق «زقاق المدق».

 

وقد صور نجيب محفوظ الحياة في هذا الزقاق تصويراً أدبياً رائعاً، كعادته دائماً، وقد تحولت هذه الرواية إلى فيلم سينمائي بالاسم نفسه، بطولة شادية والراحل صلاح قابيل وحسن يوسف ومحمد رضا وتحية كاريوكا، من إنتاج رمسيس نجيب وإخراج حسن الإمام، وقد أنتج الفيلم في القرن الماضي في العصر الذهبي للسينما المصرية.

 

وكانت الأزقة ـــ وما تزال ـــ مصدر جذب وإلهام للعديد من الكتاب وكاتبي السيناريو، من الأفلام المصرية الحديثة التي اتخذت من أزقة مصر القريبة من القلعة فيلم «ألوان السماء السبعة» بطولة ليلى علوي وفاروق الفيشاوي وحسن مصطفى، تدور أحداثه في شهر رمضان الكريم، حيث يعكس رقصة التنورة التي برع فيها الفيشاوي، ويعتبر الفيلم من أفلام «الفانتازيا» يعكس روح المكان أكثر من انعكاس الأحداث بصفة عامة.

 

وتتنوع الأزقة من بلد إلى آخر، فتجد في الاسكندرية «زنقة الستات»، ومجموعة من الشوارع والازقة الضيقة المتفرعة وتعتبر زنقة الستات بالإسكندرية لوحة فلكلورية متفردة رسمتها أطياف بنات بحري.

 

وتشتهر زنقة الستات بالاسكندرية في منطقة بحري بكثرة الحوانيت الخشبية التي تملأ المكان، ويسبقها نداءات من أصحاب الحوانيت، لتشجيع وجذب «الستات» للشراء من أجود أنواع الأقمشة والستائر وحبات الخرز والترتر والاساور، «الفالصو» وخلخال بنات بحري والبرقع بالقصبة الذهبية «والملاية اللف»، وتعتبر زنقة الستات بالإسكندرية مزاراً عالمياً لسياح العالم لطبيعتها المميزة والمتفردة.

 

وزنقة، الستات تبدأ ببوابة حديدية كبيرة نفتح على مصراعيها «لبنات بحري» وغيرهن من زوار المكان والسواح، والسوق «زنقة الستات» متاهة كبيرة يمكن الدخول إليها والخروج منها من عدة أماكن مختلفة، وعمر السوق مئة عام أو يزيد، ويقول بعض المؤرخين إن تاريخ زنقة الستات يعود لعهد والي مصر محمد علي باشا.

 

بينما يعتقد مؤرخو الاسكندرية إنه أحد آثار الحملة الفرنسية على مصر، حيث يعتقدون انه كان اسطبلاً لخيول الجنود الفرنسيين، لذلك سمي الشارع الرئيسي الذي يقع فيه السوق «بشارع فرنسا»، كما يحيط بزنقة الستات ما يزيد على ‬50 منزلاً أثرياً.

 

وسوق زنقة الستات كان ملهماً للمخرجين والكتاب كمادة ثرية للعديد من الافلام والدراما والمسرحيات، من أشهرها مسرحية «ريا وسكينة»، بطولة شادية وسهير البابلي وعبدالمنعم مدبولي، وفيلم «زنقة الستات» من بطولة فيفي عبده وفيلم «صايع بحر» بطولة أحمد حلمي.

 

ويعتبر مسلسل «النوة» للراحل أسامة أنور عكاشة، الذي صورت معظم مشاهده في زنقة الستات، من بطولة فردوس عبدالحميد، يعتبر من روائع عكاشة حيث يعكس فيه المجتمع السكندري في العمق.

 

وماذا عن أزقة مراكش؟

أزقة يسميها المؤرخون بالازقة «المفرحة»، لأنها مزيج من الألوان والنافورات ومهرجانات قد تدوم العام كله مثل مهرجان صراع الديوك، واستعراض الثعابين، والقردة، حوانيت متراصة تبيع «القفاطين» المراكشية الشهيرة وهي بصمة تعكس الثقافة المغربية.

 

تبدو البهجة والجمال وهما أحد ألقاب مراكش لأن أفئدة القادمين إليها تتعلق بها، فطارت شهرتها للعام كله، وكلما ضاقت الازقة على المارة والسياح، توجد أبواب بداخلها تؤدي أماكن أخرى تأخذ شكل الازقة، أبواب تنفتح معها عوالم أخرى يهم السياح بها عشقاً..

 

أزقة الشام

كرم الشام يطل من وارد الأزقة التي يفوح منها عبق «البوظة» والمكسرات الشامية المحمصة وغزل البنات الذي ينادي البائع الصغار عن طريق بوق كبير فيلتف حوله الصغار بملابسهم الملونة في جولة قصيرة خاصة بهم، ولكن على مرأى من الأهل.

 

فشار وفول سوداني محمص يقف بهما الباعة على مداخل الأزقة المكتظة بالناس في حال نزهة أو شراء الطربوش الشامي والجلباب الأبيض بخيوط فضية، وملابس النساء المزركشة، ألوانها تغازل عيونهن الأزقة في دمشق، أشكال تراثية وحديثة منها، ملونة، تجذب الشباب والرجال، وربما النساء ولكن بشكل بسيط.

 

الحوانيت الدمشقية العتيقة، قبل أن تكون للشراء والبيع، فإنها متعة عين أيضاً، خاصة من قبل السياح الذين يدخلونها مرتدين الطربوش الدمشقي والصدرية الدمشقية من الحوانيت القريبة من باب سوق الزنقة، وسط نداءات الباعة الجالسين خارج حوانيتهم في انتظار الرزق، وعندما يرتفع الآذان من مآذن المساجد الدمشقية العريقة .

 

والتي تعتبر تحفاً معمارية خاصة جداً، فإن وقت الصلاة يكون وقتاً روحانياً مستقطعا من زمن البيع، وفي هذه الأوقات الروحانية يتجه الناس من الأزقة إلى الصلاة، ويتوجه السياح من غير المسلمين إلى المقاهي الشعبية الدمشقية يتناولون المشاوي والمقبلات السورية الشهيرة.

 

والأزقة الضيقة المتعرجة لا تقتصر فقط على عالمنا العربي، ولكنها الأزقة الأكثر جذباً للسياح لخصوصيتها وتفرد مفرداتها الجمالية والشعور بالحميمية بمجرد التعرف عليها عن قرب. والناحية المقابلة للاسكندرية من البحر المتوسط، تلوح إيطاليا لسياح العالم للحضور، واثقة تماما من أن لديها سلعاً سياحية لا تقاوم، الازقة في نابولي واحدة من تلك السلع السياحية التي يتهافت عليها كل من تطأ قدمه نابولي بصفة خاصة.

 

الأسواق القديمة في نابولي خاصة في الشوارع الجانبية تعج بالازقة الضيقة المتعرجة في مسافات طويلة يقطعها السياح في قرابة أكثر من نصف اليوم، تتميز حوانيت هذه الازقة بألوان البحر، فهي تطلي سنوياً باللون السماوي.

 

وفي موسم السياحة خاصة موسم الرياضات البحرية منها كالغوص والتزلج على الماء، يلصق أصحاب الحوانيت أشكالا من الشعب المرجانية والاسماك المختلفة وقواقع البحر على الحوانيت داخل الازقة، بيع وشراء وأصوات ترتفع من المذياع عاكسة الأغاني الايطالية القديمة، خاصة للمغني «انريكوماسياس وغيره، قبعات البحر، ومعدات الصيد والغوص، والنقالات الملونة وملابس الصيف بألوان الطيف جميعها تباع بأسعار معقولة. فالمساومة على السعر من عادات الإيطاليين، مثلما هي في مصر تماما.

 

باعة المانجو والكيوي يتجولون على الكورنيش واضعين الفواكه في سلال ملونة تجذب السياح بعد انجذابهم لروائح الفواكه نفسها، وهو المشهد نفسه الذي يتكرر في منطقة «محطة الرمل» وسط البلد بالاسكندرية بالإضافة إلى ماسحي الأحذية الذين يرصون زجاجات «الورنيش» الملونة في صندوق خشبي صغير يدوي الصنع. والأزقة الإيطالية مرصوفة (ككل شوارع أوروبا) بالأحجار متوسطة الحجم، تتميز هذه الأزقة بالانخفاض والارتفاع حسب المكان الذي تقع فيه.

 

الازقة في ألمانيا تبدو راقية رقي البلد والشعب نفسيهما، فهي مختلفة تماما، فقط ضيق الزقاق هو وجه التشابه مع أزقة العالم، أما الاختلاف فهو يطل من الحوانيت في الأزقة لعرض أفخم صيحات الموضة العالمية وهذه الحوانيت تأخذ الشكل الأوروبي الراقي، فأرضها يفترشها بساط أحمر، منثور عليه عدد من كراس «الفوتيل» المكسوة بالقطيفة الكحلي بالأحمر، وترابيزات رخامية عليها كاتالوجات الموضة العالمية وأجهزة كمبيوتر لإتاحة الفرصة لطلب الملابس غير المتوافرة في محلات الأزقة الألمانية من المصنع مباشرة.

Email