الاتجاهات الفكرية المعاصرة

الاتجاهات الفكرية المعاصرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

محمد عزام مؤلف الكتاب ناقد أدبي سوري، من مواليد حلب عام 1940، يحمل إجازة في الأدب العربي ودبلوم التأهيل التربوي من جامعة حلب، عمل موجهاً للغة العربية ونقيباً للمعلمين في حلب، وهو عضو في اتحاد الكتاب العرب، من مؤلفاته:«فضاء النص الروائي ـ الحداثة الشعرية ـ التحليل الألسني للأدب ـ النقد والدلالة».

وفي كتابه الجديد «الاتجاهات الفكرية المعاصرة» يرصد الباحث النهضة الثقافية الحديثة في المغرب، والتي شملت جميع الميادين والحقول، من أدب ونقد وفكر والتي لم يتجاوز عمرها العقود الثلاثة بعد، قد أهلته لقيادة الحياة الثقافية في الوطن العربي، سواء في عالم الكتابة، وفي حقل النقد الأدبي، أو في المجالات الفكرية.

كما ركز الباحث في دراسته على الأصالة والمعاصرة، والفكر الديني، والحركة الوطنية، والفكر العقلاني ـ النقدي، يتألف الكتاب من مقدمة وأربعة أبواب، يقول الباحث عن إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر المغربي الحديث بما معناه:أن ثمة اتجاهين رئيسين في الحياة الفكرية الحديثة في المغرب: الفكر التقليدي، والفكر التجديدي.

الأول ديني ينطلق من جامعة القرويين، أقدم الجامعات الإسلامية إذ تأسست عام 245 ه، أي قبل جامعة الأزهر بمئة وأربعة عشر عاماً، وكان للفكر الديني دوره المهم في مواجهة محاولات المسخ والتغريب، في عهد الحماية الأجنبية، وصفة (التقليدية) في الثقافة المغربية لا يقصد بها القذف، ولكنها صفة للتعبير عن مضمون خاص، فهي لا تتصور طريقاً آخر لتغيير المجتمع سوى تكرار النموذج التاريخي. و(الفقيه) هو الشخصية التي تمثل هذه الثقافة، وتدافع عنها.

فعندما بلغت الثقافة التقليدية مرحلة العقم والتكرار، ولم تعد قادرة على انتاج عطاءات جديدة، تناسب المرحلة الجديدة، وعجزت عن ايجاد الحلول المناسبة للمشكلات الجديدة التي بدأ يطرحها واقع ما بعد الاستقلال. ظهر الاتجاه التجديدي في الثقافة المغربية الحديثة، متأثراً بالثقافة الأوروبية وعلى الخصوص الفرنسية، وذلك بعد الاستقلال. ومما يثير الانتباه في النتاج الثقافي المغربي اليوم هو بروز الدراسات التاريخية والأيديولوجية والسياسية، وتلوين النتاج الأدبي بالتجريب.

وهذه المحاولات إذا كانت قد حققت نوعاً من الايجابية حين فتحت النوافذ لثقافات مختلف الأمم، فإنها اليوم تحاول (تأهيل) ثقافة عربية ذات خصوصية إبداعية مميزة، وتشييد ثقافة جديدة قادرة على مناهضة الثقافة التقليدية التي لا تزال منغرسة في شرايين المجتمع.

إن ملامح الثقافة الجديدة في المغرب تنطلق من رفض كثير من القيم التقليدية، تسعى إلى القيام بتحليل ونقد لأسس هذه الثقافة الموروثة، وتحليل معطيات المجتمع المغربي الحديث، في محاولة لتأسيس رؤية متكاملة تعوض المفاهيم المطبوعة بالاستلاب سواء تجاه الماضي، أو تجاه الغرب، وتجلى هذا في ما كتبه العروي، والخطيبي، والجابري، وبرادة، وزنيبر وغيرهم ممن يكتبون بأسماء مستعارة، يقول «مرزوق» وهو بالطبع اسم مستعار لأحد المثقفين المغاربة:إن الحديث عن الثقافة في المغرب ينبغي ان ينطلق من السؤال التالي:لم الثقافة؟

هناك جوابان ممكنان: إما الثقافة من أجل تكريس القديم، أو الثقافة من أجل خلق الجديد، وبالنسبة لي فإنني أتبنى الجواب الثاني، وفي الباب الثاني يشير الباحث الى اتجاهات الفكر الديني فيقسمها الى ثلاثة اتجاهات:1 ـ الفكر الديني الصوفي: إذا كانت المرحلة الاولى في تاريخ التصوف هي الزهد الذي ظهر بين المسلمين في القرنين الأول والثاني للهجرة، فإن مرحلة التصوف العملي قد ظهرت منذ مطلع القرن الثالث الهجري، حيث تسربت عناصر حضارية أجنبية الى الإسلام، ودخلته مؤثرات مسيحية وفارسية ويونانية وهندية.. الخ،

ووصف التصوف في هذه المرحلة بـ «علم القلوب»، وظهرت فيه شخصيات مشهورة أمثال: ذو النون المصري، وأبوزيد البسطامي، والجنيد، وفي مرحلة تالية أصبح التصوف فلسفياً قائماً على المعرفة والمحبة أكثر منه زهداً أو عبادة بدنية، وغلب على مضمونه الفناء في الله، ونشأت مصطلحات صوفية جديدة مثل:الاتحاد، الحلول، وحدة الوجود، وحدة الشهود، وحدة الأديان، الاشراق والانسان الكامل.. الخ، وبعض هذه الأفكار مستمد من الغنوصية المسيحية، وبعضها من الافلاطونية المحدثة ومن الهرمسية المشرقية.

وظهر في هذه المرحلة متصوفة كبار أمثال: الحلاج «المقتول عام 309 هـ » والسهروردي» المقتول عام 587 ه» وابن عربي «المتوفي عام 638 ه» وابن الفارض «المتوفي عام 632 ه» وابن سبعين «المتوفي عام 667» وجلال الدين الرومي «المتوفي عام 672ه» وعبدالكريم الجيلي «المتوفي عام 805 ه» أما الغالبية العظمى من الطرق الصوفية، فقد اسهمت في نشر الاسلام بين صفوف العامة، من قادرية، ودوقاوية، وشاذلية، وريسونية، وعيسوية، وحمدوشية ووزانية.. الخ.

2 ـ الفكر الديني السلفي:سميت الحركة الإصلاحية في مطلع عصر النهضة بالسلفية، نظراً الى العودة الى أزهى عصور الاسلام:عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، وتجاوز عصور الانحطاط التي ألحقت بالدين الكثير من البدع والانحرافات، وبهذا فإن السلفية ليست مذهباً سياسياً أو فلسفياً، وإنما هي اتجاه يعود الى حقيقة الإسلام الكامنة في القرآن ولحديث السالف الصالح، وقد قامت بحركة الإصلاح الديني هذه شخصيات دينية: كابن تيمية والافغاني ومحمد عبده والكواكبي وحركات دينية: كالوهابية والسنوسية.. الخ.

3 ـ الفكر الديني الإصلاحي: نشأ الفكر الإصلاحي الديني في ظروف لحماية الوطن ومقاومة الوجد الاستعماري، ثم استمر إلى ما بعد الاستقلال. وكانت معظم شخصياتهئمن الطبقات الميسورة التي تضررت من الوجود الاستعماري. قد أتاحت لها ظروف كطبقات غنية ومتعلمة، قيادة الحركة الوطنية.

يعد الفكر السلفي مصدراً أساسيا من مصادر الفكر الإصلاحي، فقد كان الشيخ بو شعيب الدكالي، زعيم السلفية المغربية، أستاذاً لعلال الفاسي، زعيم الحركة الوطنية 1910 ـ 1974 الذي تزعم الحركة الوطنية «السلفية الجديدة» وكان خطيبا وكاتبا وشاعراً.

وقد رأى علال ان في الاشتراكية نواة الإسلام وأجرى مقارنة بينهما تمثلت في النقاط التالية:

1 ـ يقر الإسلام مبدأ التضامن الذي يوجب مسؤولية الجماعة عمن يقتلهم الجوع.

2 ـ يرفض الإسلام مبدأ تكريس الأموال دون ان يكون فيها نصيب للمحتاجين.

3 ـ يمنع الإسلام مبدآ الربا والاحتكار.

4 يقر الإسلام الضمان الاجتماعي لكل عاجز أو محروم.

5 ـ يقر الإسلام ملكية الدولة في تصريف مداخيلها ووارداتها على الشكل الذي ترى فيه حفظا للتوازن بين أفراد الأمة، كما يقر الملكية الفردية عدا:الماء والكلأ والحطب والمعادن والوقود والسوائل والغابات والمراعي العامة فهي ملك للدولة، ويمكن إيجاز مهمات فكر علال الفاسي في محورين: معارضته للوجود الاستعماري، ونظريته في الإصلاح الاجتماعي.

وفي الباب الثالث يتحدث الباحث عن الحركة الوطنية فيؤكد بأن الاحتفاظ بالمؤسسة السلطانية لم يكن مسألة ضرورية بالنسبة للشباب المغربي المثقف الذي كان يتطلع الى الوطنية في العشرينات. وأكثر من ذلك كان البعض يرى ان السلطان هو المسؤول عن وضعية المغرب، وأن «المخزن» هو الذي دفع البلاد إلى الإفلاس المالي والعجز العسكري، وأن السلطان نفسه هو الذي قبل في عام 1912 عن طواعية وضع القيود على السيادة المغربية.

كما ان اختيار محمد بن يوسف، من طرف المقيم العام «ستيك» ليخلف السلطان المتوفي، كان بسبب صغر سنه وسهولة انقياده، ولهذا قامت الحركة الوطنية ضد الوجود الاستعماري على سواعد أبناء الطبقات جميعهم بعيدا عن «القصر» ففي سنة 1930 قررت أول نواة للوطنيين توسيع تنظيماتها، وتكونت حلقة المؤسسين التي كانت تطلق على نفسها «الزواية» وقد استعار الوطنيون «الزاوية» و «الطائفة» من التنظيمات الصوفية الطرقية.

وذلك من أجل استقطاب العناصر المتعاطفة مع الحركة. كما كان للطائفة مهمة تكوين الخلايا في المدن التي كانت تلحق بزاوية فاس. ولم يتردد السلفيون والوطنيون في استعمال الأساليب التنظيمية للزاويا، على الرغم من إدانتهم لها، وعدائهم لأهدافها، وفي عام 1933 بدأ الفرنسيون يدركون خطر امتداد الحركة الوطنية، فحاولوا ان يوحوا إلى الملك بأن الوطنيين جميعهم من الجمهوريين، وأنهم يشكلون خطراً على العرش، ليدفعوا به إلى التبرؤ منهم.

ولكن الواقع أنه لم يكن لدى الوطنيين أية قناعات جمهورية، باستثناء «الحسن الوزاني» وهو عنصر واحد بين الرؤساء التسعة الأساسيين للحركة. وقد أسست هذه النواة: «لجنة العمل المغربية» عام1934 و «الحزب الوطني» عام 1936، وفي عام 1937 انفصل الحسن الوزاني ليؤسس «الحزب القومي» ولم تشهد سنوات 1937 ـ 1944 لقاءات متعددة بين القصر والوطنيين.

غير أن هؤلاء اعتقدوا ان فرصة وصول الحلفاء إلى المغرب، ومحادثات السلطان مع «روزفلت» فرصة ملائمة لطرح المطالبة بالاستقلال، وكان روزفلت قد قام بمحادثات خاصة مع الملك محمد الخامس بالدار البيضاء عام 1943 أوحي فيها بأنه سيبذل مساعيه لمساعدة المغرب على إحراز الاستقلال بعد الحرب.

وبطبيعة الحال كان الوطنيون يعلقون أهمية كبرى على موقف السلطان، وهذا ما دفع بمحمد الفاسي، أستاذ الأمير حسن، ان يقوم بدور الوساطة بين الملك وقادة الحركة الثلاثة:السي عمر بن عبد الجليل، أحمد بلا فريج ومحمد اليزيدي، وخلال محادثاتهم السياسية اعترف محمد بن يوسف أنه لم تعد هناك فائدة للمطالبة بإصلاحات في إطار الحماية، وأن الاستقلال هو الحل الوحيد.

وكان يعتقد في الوقت نفسه أنه لا يستطيع مساندة هذا المطلب الوطني علانية لأن ذلك سيؤدي به إليئعزله، وستخسر الحركة الوطنية رمزاً وسنداً. كما تعهد كل ما في وسعه لمنع سلطات الحماية من متابعة الوطنيين بالوسائل المشروعة. وفي الباب الرابع يتناول الأستاذ محمد عزام الفكر العقلاني ـ النقدي.

ويخصص معظم حديثه عن المفكر المغربي المعاصر الدكتور محمد عابد الجابري فيقول: يدعو الجابري إلى العقلانية النقدية في مواجهة ماض له امتداد في حاضرنا، كوعي وكواقع، وفي مواجهة حاضر يتسلل الينا من الغرب، كفكر وتقنية وعلوم وقيم، والواقع ان الجابري يعترف بأنه ليست هناك عقلانية واحدة. بل أنواع كثيرة من العقلانية، تختلف باختلاف الحقل المعرفي الذي يمارس فيه العقل فعاليته. فالعقلانية تقال مقابل التجريبية، وهي تعني الاعتقاد في أن العقل، وليس الحس والتجربة، هو أداء المعرفة الصحيحة.

وهناك ما يسمى اليوم بالعقلانية التجريبية، وهي عقلانية العلماء الذين يمارسون العلم في المخابر. وهناك العقلانية النقدية التي تهتم بنقد أسس المعرفة وآلياتها ونتائجها، ولعل عقلانية الجابري من هذا النوع من العقلانية النقدية التي تتعامل مع الموضوعات جميعها تعاملاً يأخذ بعين الاهتمام تاريخيه المعرفة ونسبيتها، وحضور الايديولوجيا واللاعقلي فيها.

إنها باختصار ممارسة عقلية تقوم على عدم التسليم بأي شيء إلا بعد فحصه، والعقلانية النقدية ضرورة لنا في هذه المرحلة بالذات من تطورنا الحضاري، لأننا مطالبون بإعادة ترتيب العلاقة بيننا وبين التراث من جهة، وبيننا وبين الفكر الغربي من جهة أخرى، وهذا الترتيب لن يقوم إلا على أساس نظرة نقدية تصدر عن الذات المدركة الواعية التي لا تقع تحت تأثير موضوعاتها.

د.وانيس باندك

الكتاب: الاتجاهات الفكرية المعاصرة

الناشر: وزارة الثقافة ـ دمشق 2004

الصفحات 359 صفحة من القطع الكبير

Email