حياة

الحمام الزاجل أول ساعي بريد «طائر»

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

«يا مرسال المراسيل ع الضيعة القريبة.. خدلي بدربك ها المنديل وأعطيه لحبيبي». بصوت فيروز الساحر، بكلمات ومعاني، ولحن ومشاعر حنين، تبدأ الفتاة الجامعية الراقية يومها داخل سيارتها ألمانية الصنع صغيرة الحجم.

وكأنها حدود لعالمها الخاص جداً طوال الطريق، لا يشغلها ـ وسط الزحام ـ سوى ساعي البريد ذي البدلة التي صرفتها له هيئة البريد منذ عشرات السنين، باهتة اللون، حاملاً حقيبة لا تقل قدماً عن ملابسه الرسمية وشارة نحاسية صغيرة تعلو جيبه الأيسر، تداعبها حقيبة البريد العملاقة فتوقعها كل حين، لا يشغلها سوى رؤية هذا المشهد عندما يسلم بريد الجامعة.ساعي البريد هو الذي يحمل داخل حقيبته الجلدية مصائر قوم، فالكل به يحلم، وينتظر طلته من البعيد وهو يضع منديلاً باهتاً أيضاً بمربعات زرق تحت «كاسيكيت» لتحميه من الشمس، فابن العمدة ينتظر جواب التجنيد، وشقيقه ينتظر جواب التنسيق ليحقق حلمه في شد الرحال لقاهرة المعز، ليلتحق بإحدى كليات الأزهر، ليحقق حلم أبيه، أما حلمه هو فيختزل في ذهابه لأم الدنيا حاملاً معه «الزوادة» التي حضرتها والدته بكل الحب والدعاء.

وآخرون ينتظرون حوالات بريدية تحمل شيكاً بمبلغ هزيل «يساعد على المعايش» في عالم يحكمه المال، حتى القليل منه له سطوة يجملها الصبر والرضا بالمقسوم.

وابن شيخ البلد ينتظر على أحرّ من الجمر، جواباً من مصلحة المواصلات ليعمل فيها «كمسري» يقضي عمره راكباً الأوتوبيس، في محاولة ليجد لنفسه مكاناً تحت الشمس أو تحت أقدام الراكبين! ترى هل كل هذه الأحلام جديرة بالانتظار؟ نعم، هي كذلك، فلساعي البريد حضور طاغ حتى يومنا هذا، برعم ظهور كل ما هو حديث وسريع، كالانترنت الذي يُسّطر عليه كل دقيقة رسائل الكترونية سريعة باهتة المعنى تفتقر للحميمية، بعيدة عن دفء الكلمات والمعاني، فهل يغني البريد الإلكتروني عن البريد التقليدي، معاً نلقي الضوء ونستمتع بحكاية ساعي البريد والمنتظرين له حول العالم، حتى يومنا هذا.

طقوس

البريد التقليدي مازال ينمو، ولا أحد يتكهن بأن البريد التقليدي سينكمش أمام التحديث والتطوير والسرعة اللاهثة لعصر خالٍ من الرومانسية شكلاً ومعنى... ، فالرومانسية منهج حياة وليست فقط يختزلها كيوبيد في حكايته، الورق الزهري المسطر بقلم أحمر وقلوب مرسومة بأنامل مرتجفة، وورقة تطوى داخل مظروف معطر ملصقة عليه طوابع بريد بكل شكل ولون، وكأنها لوحات صغيرة، وعبارة «شكراً لساعي البريد» على ظهر الظرف، وكأنها تشجيع له ليوصل البريد وأسرار الناس ومستقبلهم داخل ظرف ـ يوصله سريعاً ـ حتى تنطفئ نار المنتظرين، وكل يغني على ليلاه!

لا شيء يوحي من قريب أو بعيد بأن البريد التقليدي سيودع عالمنا، بالعكس، هذا هو ما نقصه الآن. متى بدأت مسيرة البريد وساعي البريد في العالم؟

نشأة وتطور

مسيرة البريد بدأت مع بدء الحضارات القديمة العريقة، حضارة الفراعنة والإغريق وحضارة الصين واليابان والفرس والآشوريين، كل هذه الحضارات التي وضعت حجر الأساس للإنسانية كان لها أنظمة بريدية خاصة بالملوك والكهنة آنذاك، نظم بريدية تنظم لهم دورة الحكم والاتفاقات التجارية، ومعاهدات الصلح، وأيضاً الإنذار بالحروب، تهديد ووعيد، منظومة حياة داخل ظرف.

وساعي البريد في تلك الحقب التاريخية القديمة كان يسمى «بالعداء»، فكان يحمل الرسائل لمسافة برّية محدودة ليستلمها منه «عداء» آخر وهكذا، حتى تقترب المسافات المعلومة، حتى يصل بالرسائل للوجهة المطلوبة.

ولكن متى كان البريد بمعناه الحقيقي الذي نعرفه حتى اليوم؟

ظهر في زمن الدولة الأموية وأخذ في الازدهار كلما تقدم الزمن، وفي الوثائق التاريخية الموثوق بها. إن معاوية بن أبي سفيان يرجع إليه الفضل في وضع أنظمة البريد العربي الأول، وظهر ساعي البريد التقليدي الذي نعرفه اليوم في عصره، بعده جاء عبد الملك بن مروان الذي أصدر أمراً ومرسوماً بوضع حدود للمسافات، وأسماء للطرق، وتقسيمها بنسب معينة ليستعين بها ساعي البريد، وتسهل عليه مهمته.

وكان سعاة البريد ينتقلون على خيول مدربة للسير مسافات طويلة من محطة لأخرى، وتعرف المسافة في ما بينها باسم «ميل بريدي» وبلغ البريد العربي قمة تألقه ومجده ـ كما تحدثنا كتب التاريخ ـ في عهد الظاهر بيبرس.

وإذا كانت خدمة البريد نشأت في الحضارات القديمة وما بعدها، فقد ظهر في ما بعد ما يعرف باسم البريد الحديث، الذي بدأ بعد الحروب الصلبية، عندما ازدهرت التجارة بين الدول في العالم كله، وبعد اختراع الطباعة زادت خدمات البريد وارتفعت نسبتها.

ولكل حكاية خطوط بيانية تبدأ منخفضة ثم ترتفع لتصل لمرحلة القمة، وهذا ما ينطبق على حكايات البريد في العالم كله، فقد ازدهرت الخدمات البريدية واتسع نطاقها وزادت سرعة توزيعها بتطور الملاحة البحرية وظهور القطارات، الأمر الذي حفّز الناس إلى كتابة الرسائل المتنوعة، ثم ظهرت الطائرات وازدهر البريد أكثر وأكثر ولم تقتصر خدمة البريد على الخطابات بكل أنواعها، وإنما تطور وأصبح ينقل الطرود والبرقيات والحوالات المالية والوثائق الرسمية.

وأخذ يتطور البريد، وأصبحت الدول جميعها حول العالم تؤسس هيئات البريد، ومكاتبها التي تنتشر في المحافظات المختلفة والقرى والنجوع، وأخذ شكل ساعي البريد يتطور، حيث أصبح يرتدي زياً خاصاً بالدولة والمكاتب التي يعمل بها، ويوضع على الجيب الأيسر من بدلته الرسمية شارة صغيرة نحاسية كانت بدايتها لامعة براقة! كان يكتب ومازال يكتب عليها اسم ساعي البريد والمنطقة التي يتبعها.

رومانسية المعاني

ظواهر جميلة ظهرت مع تطور البريد حتى وصوله إلى قمته في القرن الماضي، ومازال حتى الآن أيضاً يتربع على القمة بين وسائل النقل المكتوبة، من هذه المظاهر، تطور صناعة الورق الذي يتم كتابة الخطاب عليه، فظهرت «البلوك نوت»، أي النوتة التي خُصصت لكتابة الرسائل، ظهر منها ألوان تحاكي الطيف في رقتها وعذوبة ألوانها، وكأنها اختطفت الألوان هذه من «ألوان السما السبعة».

وظهرت أيضاً أوراق خطابات معطرة ومرسوم عليها قلوب «حائرة»، ربما تساعد على توصيل معاني «العشق والهوى» ورومانسية المعاني، وتدفق المشاعر، أيضاً ظهرت مظاريف متألقة في ألوانها والورق الذي صنعت منه يحاكي الحرير في نعومته وعذوبته، أيضاً ظهرت «كروت» تعرف باسم «كارت بوستال»، أي الكارت الخاص بمناسبات خاصة، يوزع عن طريق البريد «بوستال» ويتميز بكتابة عبارات راقية تعكس كل المناسبات.

وظهرت في ذلك الوقت فنون خاصة بهذه الكروت وكأنها لوحات صغيرة موهية في الشكل والمضمون، فن وهواية توجت تطور البريد التقليدي، وهي طوابع البريد، فقد كانت إنجلترا أول دولة في العالم تصدر طابع بريد، وذلك في العام 1840م، وكان الطابع يعكس صورة «بروفيل» للملكة فيكتوريا، وفي العام 1843 أصدرت البرازيل طابع بريد عرف وقتذاك بـ «عين الثور»، وأول دولة عربية في إصدار طوابع البريد هي مصر، ففي العام 1866 كان أول طابع بريد مصري، ودخلت كل دول العالم سباق طوابع البريد، واحدة تلو الأخرى.

هواة طوابع البريد

تعرض طابع البريد لارتجاعة حديثة، عندما أصدرت مؤسسات البريد في أميركا وأوروبا قانوناً بريدياً تستعيض عن طابع البريد بختم يمر به المظروف يشير إلى دفع القيمة البريدية بدلاً من دفع ثمن طابع البريد، ولكن دول العالم كله مازالت تتعامل مع طوابع البريد. ثم تعرض لنكسة أخرى، وإن كانت كما يتصور الكثيرون بأنها ضربة قاضية، من عالم الانترنت وإرسال الرسائل السريعة عليه، ولكنها في نظر الأغلبية لا تعوض عن البريد وساعي البريد الذي أصبح علماً اجتماعياً عبر العالم.

ولأن البريد ـ وساعي البريد لهما الحضور الأكثر حميمية لدى الإنسان حول العالم، فإنهما دخلا عن جدارة عالم التشكيل والفن السابع والأغنية.

ساعي البردي في التشكيل

وفي الفن التشكيلي يحظى ساعي البريد بلفت نظر الرسام العالمي فينيست فان غوخ، فكانت رائعته لوحة «ساعي البريد» في العالم 1888، وهي محط الإعجاب في المتاحف والمزادات الكبرى.

أما على مستوى الأغاني، فقد شدت فيروز بواحدة من أرق أغانيها التي تخاطب فيها ساعي البريد متوسلة إليه إرسال منديل لحبيبها «خدلي بدربك ها المنديل»، وهي بذلك تخرج الرسالة المكتومة من مدلولها لأشياء أخرى يمكن أن يوصلها أيضاً ساعي البريد، ربما كان «المنديل» مكتوب عليه مشاعر العشق والهوى.

وأيضا أغنيتها «كتبنا وما كتبنا.. يا خسارة ما كتبنا».

وهي إيحاء وإشارة لما تعنيه الرسائل للعشاق.

وفي فترة أخرى ذاع صيت أغنية تُخاطب فيها صبية:

«أبعث لي جواب وطمني»، غناها الفنانون : صالح عبد الحي ومحمد عبد المطلب وصباح فخري، وهي تعكس معنى إنسانياً، بأن الرسالة مصدر للاطمئنان وهدوء البال والسكينة.

وأغنية «سعاد محمد» التي خطفت قلوب المحبين، «البوسطجية اشتكوا من كتر مراسلي.. وعنا لمابكو دابت مناديلي».. تعكس الطرب والسلطنة في وصف العشاق وتعاملاتهم، بكلمات راقية موحية في زمن الأناقة في الكلمة والحوار واللحن وجماليات الأداء.

والبطاقات البريدية فن أيضاً في طريقة رسمها وصياغة كلماتها التي ترسل في مناسبات متعددة، وتحظى البطاقات البريدية وتاريخها بأهمية كبيرة في عالم البريد، وقد خصص لها متحف خاص بها فقط هو «متحف البطاقات البريدية» في مدينة شيكاغو الأميركية، الذي يعرض المسيرة التاريخية لهذه البطاقات.

والسؤال الذي يفرض حضوره هنا، هل لرسائل ال SMS على الهاتف الجوال، تلك القيمة الأثرية والجمالية التي للبطاقات التي تعبر عن مشاعر إنسانية رقيقة؟ ووراءها العديد من الفنانين التشكيليين الذين رسموها بأنامل من حرير وبخيال محلق، وكتب كلماتها أناس ذوو شعور مرهف كأنه «انتيل» الرقيقة، فقط ما على المرسل إلا توقيع اسمه تحت الكلام المطبوع.

البطاقات البريدية... سفر وسياحة

ربما تعود البطاقات البريدية إلى قبل عصر ظهور الطوابع، وكانت قديما عبارة عن ورق مقوى بلون محايد، مزينة بزخارف بسيطة مطبوعة محفورة، وكانت مقتصرة على التحيات والدعوات والتهنئة.

وتطور هذا الفن وازدهر ليأخذ شكلاً ترويجياً جديداً في منتصف القرن الماضي (التسعينيات)، حيث وظفت هذه البطاقات لترويج السياحة والسفر بين دول العالم، وكانت تحتل مداخل الفنادق والمحال التي تبتاع الهدايا التذكارية والقرى السياحية، وهذه البطاقات يستخدمها السياح في إرسال رسالة قصيرة للأهل والأصدقاء، عاكسة بعض المناظر الطبيعية والأماكن السياحية، وتعتبر هذه البطاقات «ترويجية» كما يطلق عليها.

رسائل غير بريدية

اختلف المؤرخون حول كلمة رسالة، واتفقوا على أنها ليست بالضرورة رسالة داخل مظروف، أو كارتاً داخل مظروف منمق، وإنما هي كل ما دوّن على الورق: فالرسالة تسمية واسعة لأي نص أو كتاب، وهي موجهة لمجتمع أو أفراد أو جماعة، وهنا تخرج الرسالة عن كونها شخصية، وقد شاع استخدام كلمة «رسالة» في أسماء بعض الأعمال الأدبية والفنية والعلمية في المجتمعات العربية، قبل «رسالة الغفران» لأبي العلاء المصري.

وهناك من برعوا في كتابة الرسائل، أهمهم من كتب فن الرسائل يحيى ابن خالد البرمكي وابنه جعفر، والصاحب بن عباد، وضياء الدين بن الأثير وجميعهم ينحدرون من الدولة العباسية.

وعلى المستوى الغربي، نجد الكاتب الايرلندي الساخر «جورج برنارد شو» الذي جمعت رسائله إلى الممثلة «إلين تاري»، جمعت في كتاب كبير، وأيضاً رسائله إلى الملاكم «جين توني»، أما رسالته إلى السيدة باتريك كاميل، فلم تجمع فقط في كتاب، وإنما تحولت إلى مسرحية بعنوان «عزيزي الكذاب».

ساعي البريد «.. سمساراً»

في الآونة الأخيرة أضاف ساعي البريد مهنة غير تقليدية له ـ جنباً إلى جنب مع مهنة توزيع البريد ـ، وهي «السمسرة» فمكاتب السمسرة على الأرصفة، وهو مشهد في معظم عواصم العالم، عبارة عن مظلة شمسية يجلس تحتها السمسار ومعاونوه على كراسي، كتلك المستخدمة في المصايف على الشطآن، ويجلس معه ساعي البريد، لأنه المطلع على كل عناوين البلدة أو العاصمة، وغالباً ما تكون ضواحي العاصمة.

ومن أشهر السماسرة الذين استعانوا بساعي البريد، سمسار ضاحية المعادي على بنك القاهرة، وهو سمسار يجلس بجوار المترو منذ عام 1952، مازال حياً يرزق أو حياً «يسمسر»، يعرف باسم «أبودراع» بعد أن بترت ذراعه اليمنى في حادثة، يستعين أبو دراع بساعي بريد الضاحية، الذي يطلقون عليه «الموصلات»، وله جزء من السمسرة «فيفتي.. فيفتي»، وقد ذاع صيتهما معاً، ولم يقدر على محاربتها أي مكتب سمسرة كبير.. فهم من «الواصلين»!!

منى مدكور

Email