حياة

الرائحة.. رومانسية الشم

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

ينجذب «جان باتيست غرونويّ» إلى الرائحة بمَلَكةٍ استثنائية خارقية في رواية «العطر» لباتريك زوسكيند؛ حيث تندغم حواسه جميعاً أو تتلاشى وتنصهر كلياً في حاسة واحدة هي.. الرائحة. ليختصر الحياة إلى رحيق وروائح صبايا غامضات في فذلكة فنية غاية في الدقة والاتقان والمعرفة النفسية للحالة البشرية، وهو يحفر في الاستثناء، لا القاعدة.

وفي المتخيل لا الواقعي. وصولاً إلى تأكيدات مضمرة إلى أن الجسد، كمنظومة إنسانية فعالة، قادر إلى فرز حاسته الاستثنائية والتحكم بها وقيادتها إلى السري من الحياة والغامض أيضاً والمجهول في الحالات كلها.تثيرنا الرائحة فتغيّر فينا الحدس. كل رائحة لها مصدر. ومصادر الحياة أكثر من أن تُحصى. الرومانسيون عالقون في روائح الخيال ؛ طفولةً منسحبة في طيات الذكريات وطبيعة متجددة في كل مكان. والعشاق المندحرون أكثر الحالمين بالروائح الماضية. كتعويض عن خسارات عشقية مؤكدة، فالماضي ملاذ. وصُورهُ أثيرة. هو حاضنة فشل حتمي وانكسار روحي.

يقترب النهر من القرية ويبتعد خلف غابة الصفصاف.فيترك القرى منسحبة ببطء. يترك فيضاً من الروائح. رائحة النهر غريبة. أعشاب. أسماك. أشنات طافية. جذاذات نباتية جرفها الموج الناعم. زهور عالقة وغرين أحمر. رائحة ريفية خضراء بطعم النهر الجاري، اجتهد روائيون وقصاصون وشعراء أن يكونوا بمستوى هذا الألق الجنوبي في قصصهم وقصاصاتهم ومدوناتهم الكثيرة التي يفترعها النهر، مكاناً وذاكرة،، فرائحة النهر امتزاج التراب بالماء. امتزاج الأصل البشري «التراب» بعنصر الحياة الحيوي «الماء» في مدونة الأزل المتقادم مع الحياة.

يشكل النهر علامة خضراء من علامات القرية. لذلك فهو رائحتها الأثيرة. ويمنح القرية صفة تستديم به وصفاء خالداً قلّ نظيره، لذلك فروائح القرى والأرياف تختلف عن روائح المدن ؛ فالمدن خليطٌ مخلوط من الروائح المتنافرة. لا تتشابه مهما حاولنا التطبع عليها في الاندماج اليومي. فللقرية فرادتها الأثيرة وهي تستلقي على النهر الجاري. لا تحفل بأية رائحة غيره، بل لا تستطيبها ؛ فالنهر خلاصة الماء والأعشاب والأطيان والجذور والأشجار. إنه مرعى متحرك لا يقر له قرار. أما المدينة فهي نفايات وروائح تختلط في مزيج بيئي يبعث على الغثيان في أحوال كثيرة.

القرية نهر والمدينة مكب نفايات. النهر قرية ولود تلد روائح الجنة، لها أبٌ واحد وأم واحدة وبيت من قصب. والمدينة لقيط لا أب لها ولا أم وبيتها من زجاج. لذلك فالمدن لا تحفل بكينونتها كثيراً، فتقذف بروائحها قبل ولاداتها المتعاقبة على قارعة الطريق، وهي ولادات قيصرية تشوبها الكثير من الشوائب !

رائحة الدموع

روائح المدن المرفهة هي غيرها روائح المدن الفقيرة ؛ فالأخيرة أبخرة من تراب وتنك وقصب وطعام بائت وخبز قضمته الأرضة.. هل شممتم ذات يوم رائحة دموع تنسكب في ليالي الأرق الطويلة ؟ تعالوا إلى البيوت الفقيرة في مدن الفقر والبؤس، وتلصصوا على أبوابها. يمكن لأي عابر سبيل أن يشم فيض الدموع المتوارية تحت بطانيات الجوع ؛ فيما ترفل مدن البذخ بروائح عصائر الليمون والأناناس والعطور الباريسية وأطعمة القارات الفاخرة.

تفسير النهر

الرائحة.. صور مارّة في الذاكرة.لا نتوقف عندها كثيراً، فهي عادة تبقى في الماضي ولا تتقدم إلى المستقبل. الحاضر فيها سريع ومتوارٍ. وثقافة الشم تحتاج إلى تدريب استثنائي لكشف المهمل من الحياة والمنسي فيها والغائب عنها.لذلك تأخذنا الروائح إلى عوالم أكثر سرية. بل أكثر تعقيداً مما نتوقع ؛ فنهر القرية ليس ماء جارياً حسب.

إنه المزيج المتجانس من كل مكونات الحياة. ولو انتزعنا عنصراً واحداً من رائحة المطر بوصفه ماء جارياً من الأعلى لما كان مطراً. فالمطر نهر يجري بطريقة مغايرة لنهر القرية. يتشتت بتدفقه بلا امواج، فيغمر القرية ثانية بروائح النهر.

إنه استبدال غريب لوظيفة النهر.وظيفته تكميلية.إنه يعود للنهر والقرية من جديد بعد دورة فضائية قصيرة، منقاداً إلى ظروف جوية موسمية، فيترك ذات الرائحة الحريفة بين مسارب القرية. المطر تفسير للنهر، لكنه تفسير تطغى عليه الرومانسية بشكل عنيف. لذلك أن المدن التي تفتقر إلى الأمطار تقل فيها العاطفة الإنسانية إلى حد واضح !

رائحة السياب

رائحة المطر انجذاب إلى الماضي. وحده المطر يترك فينا عاطفة مشبوبة ويستحضر فينا فيض الطفولة الملغاة. إنه رائحة عظيمة من روائح الحياة التي لا مفر من الإقرار بسطوتها الساحرة وفعلها المباشر في إعادة مراحل ماضية من الأعمار.

المطر صلة إنسانية عميقة الجذور فينا. ولا أحداً ينكر رائحته الموّارة في دهاليز النفس المخبوءة. رائحة المطر أعشاب وتراب منقوع وعشق قديم. قد يكون ضياعاً بتعبير بدر شاكر السياب أتعلمين أي شيء يبعث المطر؟

وكيف تنشج المزاريب اذا انهمر. وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع.. فالمطر في البلاد الغريبة عودة إلى كل شيء منسحب في الذات الإنسانية بسبب تقادم السنوات وتباين الأعمار والشعور بفقدان أحلى الأشياء وضياعها في لجة السنين الضارية. لذا فرائحة المطر هي رائحة القرية. رائحة الطفولة الحافية والصبا البعيد والعشق الأول ؛ وعلينا أن لا نثق كثيراً بأمطار المدن، فالمدن مسوخ.

الرائحة غريزة. هذا استحقاق نفسي واجتماعي لجميع الكائنات الحية. فالحيوانات على أشكالها تمارس اللذة بالرائحة. وفصول اللذة متباينة بينها. فما عرفنا حيواناً يتوتر خارج فصوله الجنسية.

ومن هنا نحسب أن حاستها الشمية تفوق حاسة الإنسان بمقادير عالية، بوصفنا الشم طريقة بارعة من طرق اللذة والاتصال والتكاثر. فالإناث في مواسم النضج الجنسي تفرز روائحها المغرية لذكورها من غدد معروفة. والأخيرة تتلقف النداءات المتلهفة بالشم ليس إلا.

رائحة بيولوجية

الرائحة عنوان من عناوين الحياة القوية التي قد لا نحفل بها كثيراً. فالطفل ربما تختلط عليه روائح شتى، لكنه لا يخطئ رائحة أمه أبداً. والمولود الجديد عندما يدخل الحياة بعد قطع حبل السرّة يشممونه فوراً رائحة أمه. جسد أمه. هي أول رائحة يدركها بحاسة مستَنفرة. وأول حاسة تشتغل في جهازه الإنساني بالتعرف على رائحة الأم.

بعدما كان (في) جسد الأم تسعة شهور، لكنه ينتقل الآن من الداخل إلى الخارج ؛ فالرحم حاضنة إنسانية كبيرة تكوّر فيها ليتكوّن ؛ وحينما يغادر الداخل ويترك رائحته الأثيرة عليه أن يتلمس أولى خطواته بالشم وتقبل الروائح في الخارج، لينتقل إلى عالم المحسوسات بروائحه المختلفة.

ومنذ لحظته الأولى يدرك الطفل ثقافة الشم ويتعلم الفرز بين الروائح وهو ينمو، مع أنه يبقى لبضع سنوات أسير روائح معينة كرائحة الحليب لملء اشتهاءاته البيولوجية.وهي رائحة تعني جسد الأم ؛ فالثدي سرّة الحياة للوليد، نافورة لا تكف عن شد الوليد إليه بطعمه ورائحته وملمسه ؛ وهو جزء من جسد امرأة لها أولوية في التعرف والتشبث بها .

لذلك تنمو هذه العادة في لاشعور الطفل وتتحول إلى شعور جارف بتقدم السن ؛ عندها يكون الثدي موطناً مغرياً لإشتهاءات أخرى مع إننا لا نريد أن نتوقف عند تفسيرات فرويد في المسألة الجنسية ودوافعها السيكولوجية !

استخلاص الرائحة

في رومانسية الشم تطالعنا خلاصة الإنسان في روائح الجسد. فالجسد آلة أُحكِم ضبطها، وتوفرت على تفصيلات مترامية الأطراف والأهداف. ومن هذه الآلة المعقدة تتشكل الروائح وتؤدي وظائف شتى، ليس أقلها الاستدلال بمفهومه المعقد هو الآخر، والاستدلال هنا عنصر رمزي من عناصر الشم.

هو إبصار روحي شائك، فالرائحة من الروح كما قيل، بمعنى انبعاثها من الأعماق البشرية، لا بوصفها مادة، إنما بوصفها شيئاً أثيرياً مستَخلَصاً من مجموعة العناصر الجسمية، كما لو أنه عصارة الحواس مجتمعة ؛ فإذا كان الماضي صورة من صور الرؤية المجسدة، فإن صورة الرائحة تطغى عليه.

كل شيء يمكن استرجاعه بالرائحة. فالاستذكار هو رائحة قبل أن يكون صورة، فكم من طفولة بمستطاعنا أن نستدرجها بالرائحة طوعاً أو قسراً. وكم من علاقات إنسانية وعاطفية يمكن لها أن تعود بإشارة شمّية في لحظة تجلٍ شديدة الخصوصية.

كل الماضي يُستَحضَر ويتقاطر كمراكب صغيرة تترى تباعاً، ويتحول إلى طبيعة انصهرت مع الزمن وذابت في تضاعيفه المتوالية. أو ليست الطبيعة هي رائحة غير أن المستقبل يفتقر إلى هذه الصورة قطعاً.

المستقبل سماء ثامنة لا يُفهَم منها شيء، علتها سبع طبقات ثقيلة الوزن والرمز، لهذا ليست هناك رائحة للمستقبل، ولا يمكن لكائن أن يرى صورته ورائحته هناك ؛ فالمستقبل يتوارى ويتمدد طويلاً في مطاوي المجهول، قبل أن يتقدم ليكون الحاضر تاركاً رائحته فينا، ومن ثم ينسحب ليكون الماضي بشكل صور لا يبقى منها إلا الذي يحفر في الذاكرة ؛ برائحة متعددة المنافذ والمصادر والإحالات.

رائحة المراهقة

الإنسان جُماع روائح مختلفة. مزيج غريب من الطبيعة والفصول والنمو والطعام والشراب ومخلفات السنوات الطويلة. الروائح الشخصية تدل علينا. الروائح العامة لها منجذِبات داخلية فينا.

كل رائحة لها وقع ذاتي في النفوس وذكرى وموقف ولغة وربما لعنة. فرائحة الطفل قماط وحليب ورحم دافئ. رائحة البراءة تبقى وإن طوتها الحياة بمنشار. تثير مواجعنا كثيراً في صور البراءات المتكررة مع ولادات الأطفال، ورائحة الصبا صيفٌ وبلابل وركض وراء السراب، وتبقى رائحة المراهقة أثيرة فينا.

فهي الرائحة الوحيدة التي تطاردنا إلى آماد بعيدة ؛ إذ لا يكبر الإنسان مع هذه الرائحة العملاقة التي تتجدد كلما كان النضج ماضياً في الأعمار ؛ فهي رائحة أثيرة بمكوناتها الفسلجية والنفسية. تبدو لنا وكأنها سر من أسرار الصيرورة والتكوين والبقاء ؛ فيما يظل الشباب عالقاً فيها مهما تقدمت الأعوام وانشطرت كينونة المرء هنا وهناك.

رائحة المرأة

رائحة المرأة كرنفال مهيج ومثير. تجتمع فيها كل روائح الخصب والنماء. كل لحظة فيها عبارة عن رائحة. أذكى رائحة وأغربها في حياة الرجل. منذ تكونه الأول في الرحم المظلم وحتى دخوله في رحم القبر الأخير. للإنسان قبران كما هو واضح، لكن بروائح مختلفة وانجذابات شتى وتفسيرات لا حصر لها.

رائحة الزوجة ثياب شفافة وعطر نافذ على الرقبة وتحت الإبطين. ورائحة الحبيبة مزيج من طفولة متوارية واشتهاء مؤجل واحتدام خجول، كما هو طعم القُبلة الأولى الخائفة من النسيان ؛ بينما تبقى رائحة الأم كرائحة النهر والقرية والصفصاف وعصارة الثمار القديمة. على أن رائحة الرائحة فذلكة عطرية رخيصة يخالطها شوق قديم آفل سينفلت بعد لقاء عاجل.

رائحة الأب عَرق وتعب ولهاث. ورائحة الإبن قميص ودشداشة ولثغة حب طرية تنفلت طرباً وطيشاً ودلالاً. رائحة الرجل بعمومه تبغٌ وقهر يتجدد كلما عصرته الفاقة والعوز.

رائحة الذات

رائحة الثياب تجذبنا إلى أشكال من الجمال نسعى إليه بقصدية ومعرفة وحس آسر بالحضور. للقماش رائحة الأشجار. بينما رائحة البيت تأسرنا بالطمأنينة والأمان والسلام.وللمطبخ رائحة المعدة. بصلُ ومرقُ ورزٌ في لوثة الجوع الدائم.

العطور رائحتها لا تنسى

رائحة الشتاء مطر وتراب مبلل، ورائحة الصيف شمس وقيلولة. رائحة الربيع وردة زاهية امتصتها نحلةٌ صغيرة، ورائحة الخريف لون اصفر نقرته حمامة مارقة. رائحة الحرب بارود وجثث ودماء يابسة وذباب أخضر نَهم.

سواتر ودخان وأنفاس كريهة ومسامات تنز ألماً ؛ بينما غرفة النوم لها رائحة السلام والاسترخاء والذوبان في أحلام سعيدة لا تضاهيها أحلام أخرى. كما للفراش رائحة الجسد الأثير ورائحة النوم الفارهة.رائحة الجدران تدل على ساكنيها ورائحة السجون غثيانات تاريخية لا يمكن عدّها. رائحة المطارات تشي برائحة الشعوب المسافرة، ورائحة البار خمرٌ وأنفاسٌ وقيء..

كل شيء فيه رائحة، حتى الذات..والذات تنطوي في مجراتها على روائح متعددة، تنبعث من الحب والكراهية معاً. اعرف ذاتك من رائحتك....!

وارد بدر السالم

Email