حنا أرندت ومارتن هايدغر..قصة عاطفية في أوج صعود النازية

حنا أرندت ومارتن هايدغر..قصة عاطفية في أوج صعود النازية

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

عند الاطلاع على أرشيف الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هايدغر، على قوة العلاقات العاطفية التي كانت تربطه بالفيلسوفة الألمانية حنا أرندت ما بين عام 1925 و1930. ولعل أمر هذا الحب ظل غامضا بل ليس معروفا إلى حين تم نشر مراسلاتهما بين الأعوام ورسائلهما المتبادلة للمرة الأولى في عام 1998.

وهي تمتد بين سنوات 1925 و1975. دار نشر غاليمار قامت بنشر نسخة من كتاب المراسلات، مصحوبا بـ 170 وثيقة، من القصائد والنصوص وبطاقات التذاكر وغيرها مما يخص العاشقين. ومراسلات حنا أرندت عديدة منها مع زوجها هاينيريش بلوشير، وكارل غاسبار، وماري ماكارثي، وكورت بلومينفيلد، وهيرمان بروش إلا أن مراسلاتها مع مارتن هايدغر تتميز بأنها تعكس أجواء التاريخ الثقافي للقرن العشرين. ظل الغموض يلف هذه المراسلات حيث كانت أرندت تحتفظ بنسخة من هذه المراسلات في غالبيتها. والسؤال المطروح هنا: هل عمدت إلى إخفاء رسائلها أو أضاعتها ؟ كانت مراسلات هايدغر تتميز بالصبغة الإرشادية في تطور علاقتهما العاطفية في مدينة ماربورغ أولا، وثمة مسافة مفروضة عليه كما يبدو بحيث كان يطلب من آردنت أن تبتعد وتذهب إلى مدينة هايدلبيرغ من أجل الحفاظ على علاقتهما.

كانت الرسائل الأولى تتميز بالروح الحيادية لأنه كان يخاطبها بالشكل التالي: «عزيزتي الآنسة أرندت». ولكن الرسالة كانت تحمل توقيع: مارتن هايدغر الذي لك ـ 10 شباط (فبراير 1925. وسرعان ما تغّير إيقاع المخاطبة في الرسالة المؤرخة في 21 من الشهر ذاته لتصبح: «عزيزتي حنا» و«مارتن الذي لك».وفي 27 من الشهر ذاته، كتب لها قائلا «الشيطان...... في داخلي»وتجيبه آردنت بنص عنوانه «ظلال»، وهو يتعلق بسيرتها الذاتية، وتشرح له ضجرها ومخاوفها الطفولية. وكان كل واحد من العشيقين يبذل جهودا من أجل التعبير عن تاريخ حياته. هايدغر متزوج أرندت تعيش في غرفة الخدم أي غرفة «فوق السطوح» التي يعيش فيها الطلبة. وكانا يلتقيان في الحدائق والفنادق، وتميز هذا الشغف بطبيعة فلسفية حيث تختلط أحاديث القلب بأحاديث الفلسفة وبالحوارات الطويلة التي تربط بينهما ومشاغلها حول عملهما الفلسفي.

كتاب هايدغر الشهير «الوجود والزمن» صدر في عام 1927 وآردنت تعيش مباشرة الفلسفة التي تعلمتها من هايدغر. ففي ابريل من عام 1925، يتهّيج هايدغر ويتصل بأرندت ويناديها ب«محبوبتي» ويتمنى لها ليلة هانئة ويوقع رسائله «مارتن الذي لك». وفي 13 من شهر أيار يكتب لها قائلا «أشكرك على حبك». وفي 14 من شهر يونيو، تستلم أرندت رسالة منه يقول فيها «لا شيء يفصل بيني وبينك». وفي تاريخ 26، يدشن العاشقان طريقة جديدة من المراسلات ويبدأ بدعوتها إلى مواعيد محددة، قائلا لها «أطلب منك المجيء لرؤيتي في 28 يونيو الأحد بعد الساعة التاسعة... ألف قبلة».

وهكذا في ال17 من يوليو كتب لها «هل تريدين المجيء لرؤيتي مساء هذا الأحد... 19 يوليو... سأكون متمتعا للغاية في ساعات اللقاء هذه». وفي ال18أكتوبر يبعث إليها برسالة عنوانها «قبلة الحب». وفي ال10 من ديسمبر يكتب لها قائلا «يا محبوبتي، تعالي، أتوسل إليك، غدا الجمعة، نحو الساعة الثامنة والربع مساء للالتحاق بي على مقعد حديقتنا... وسأكون سعيدا مسبقا». وعلى الرغم من الكيلومترات التي تفصل بينهما، يكتب لها هايدغر بأنه «بأنني أعيش في حاضرك على الدوام». وفي إحدى الرسائل النادرة التي تكتبها له آردنت في مراسلاتهما، تقول له «أقبل جبهتك وعينيك... حنا التي لك».

وفي هذه المرحلة يعيش العاشقان أوج حبهما بل وأن آردنت كانت تعتقد بأنها امرأة حياته، وهي كذلك. لكنها لم تطلب من الفيلسوف هايدغر أن يطلق زوجته الشرعية بل كانت تحلم أن يأخذ المبادرة في هذا الشأن.

وهذا ما لم يتحقق. ولكن هناك عددا من أصدقاء أرندت دون أن يعرفوا علاقاتهما، يحذرونها من مشاعر هايدغر المعادية للسامية لأن أرندت كانت تنتمي إلى الديانة اليهودية. علاقتهما استمرت حتى عام 1933، وهي ترى هايدغر ينتمي إلى الحزب النازي. وهذا ما أصابها بجرح روحي، نتيجة الكراهية التي تولدت في قلب الفيلسوف إلا أنها ظلت متعلقة به.

من المؤكد أنها تبقى تلتقي بهايدغر في عام 1933 الذي ظل عضوا في الحزب النازي حتى النهاية فيما تغادر هي ألمانيا وتعيش المنفى في باريس حيث تبقى حتى عام 1941 قبل أن ترحل إلى الولايات المتحدة. ومما شك به، إنها تعرف جيدا «خطاب عمدة الجامعة» حيث كان هايدغر يدرس في جامعة فريبورغ حيث يوضح فيه علاقته بالحزب القومي الاشتراكي أي النازي. وكانت على علم بأن هايدغر لن يحضر تشييع أستاذها أدموند هوسريل الذي كان يهوديا.

في سنوات 1936 و1937، كانت زوجة هايدغر، ألفريد، هي الأخرى تنتمي إلى حزب هتلر لكنه أخذ يبتعد عن النازية ويكرس حياته للفلسفة. وعندما فك ارتباطه بالنازية، تم حرمانه من التدريس في الجامعة طيلة خمسة أعوام. وأثناء زيارة آردنت في عام 1950 إلى ألمانيا، قامت بزيارته، ويصبحان صديقين من جديد كما تكشف مراسلاتهما المنشورة.

وتعتقد أرندت ان هايدغر لم يكن نازيا أبدا، وهو كان يتظاهر بذلك إلى درجة أنها قامت بالتوسط في نشر أعماله في الولايات المتحدة بل وأجهدت نفسها من أجل إزاحة هذه «التهمة» عنه. وتعترف بأن كتابها «وضع الإنسان الحديث» بأن الفضل في تأليفه يعود إلى فكر هايدغر.

وفي عام 1974، أي قبل عام من وفاتها، كتبت له قائلة «لا أحد يستطيع أن يقوم بتدريس محاضرة كما تقوم أنت به ولم يستطع ذلك أحد قبلك».

كان هايدغر، قبل كل شيء، أستاذها وصديقها قبل أن يتحول إلى عشيق لها بل كان بمثابة الحامي لها. وأثناء لقائهما في مدينة ماربورغ في عام 1925 حيث كان يدرس في جامعتها، وقف الجميع ضدهما.

كانت في الثامنة عشرة من عمرها، وهو في الخامسة والثلاثين من عمره. كان يعتبر الساحر الصغير في قريته الصغيرة. أنه كاثوليكي، وهي تنحدر من عائلة يهودية. هو ألماني من الجنوب، وهي من مدينة كروغسبيرغ. كان هايدغر هادئا في حين كانت هي مضطربة منذ وفاة أبيها عندما كانت في السابعة. وكانت ساذجة في الحب وهايدغر أول عشيق لها، بل أنه يسحر جميع الطلبة. ولكن هذه العلاقة لم تخرج إلى العلن إلا في عام 1949 عندما تحدثت آردنت عنها إلى كل من كارل غاسبار وماري ماكارثي.

وتكشف رسائلهما عن الخلفية التي كان يفكر بهما الفيلسوفان العاشقان في فترة من أشد الفترات صعوبة وتعقيدا في التاريخ، سنوات حكم النازية: المنفى والنازية ومعاداة السامية واليهودية وغيرها من مفاصل التاريخ التي فرضت نفسها آنذاك.

وكانت علاقتهما محاطة بسرية كاملة، لم يكشف عنها أي من الطرفين، وتفرض عليهما أن يفكرا بجملة من المفاهيم حول العلاقات الإنسانية. كانا طيلة صيف عام 1951 يتناقشان حول «بهجة المعرفة» للفيلسوف نيتشه. وكانت علاقتهما محاطة بنوع من الابتعاد عن ذكر التفاصيل المتعلقة بالحياة الداخلية للعشيقين. وكما يعترف هايدغر أن غالبية الوقت كانا يتحدثان ولم تنقطع رسائلها.

تقول الفيلسوفة حنا أرندت:

«إن فعل التفكير بحد ذاته عملية خطيرة، ولكن ألا تفكر هو أكثر خطورة». هكذا تشرح الفيلسوفة في لقاء تلفزيوني قبل وفاتها في 4 ديسمبر من عام 1975 حياة بكاملها قابلة للتقلب. وهذا ما يشرح اللقاء بين طالبة في الثامنة عشرة من عمرها وبين فيلسوف مثل هايدغر. ولعل طفولتها تفسر كثيرا سّر هذه العلاقة. فقد ولدت في عام 1906 في لينيندن، بالقرب من هانوفر في وسط فكري مثقف.

ولكن مرض أبيها النفسي والعقلي جعلها تهرب في عمر الثامنة نحو برلين أثناء الهجوم الروسي في عام 1914. وتطورت المراهقة بسرعة كبيرة. فهي طالبة ذكية، اختارت أن تدرس الفلسفة واللاهوت، وتواصل محاضرات هوسريل في جامعة فريبورغ ومحاضرات غاسبار في هايدلبيرغ، ومن ثم نشرت أطروحتها حول مفهوم «الحب عند أوغستين» في عام 1929.

وبعد ذلك بعام، نشرت مقالاتها في برلين مع غونتر شتيرن الذي تتزوج منه بعد فترة قصيرة. ويظهر لها صديقان هما: هانز جواناس ووالتر بينجامين. مما لا شك فيه أن استيلاء النازية على الحكم وتزايد صعود نعرة معاداة السامية في ألمانيا قلبت حياتها رأسا على عقب بل جعلتها تلك الأحداث تتجه نحو الصهيونية وتدرسها دون الانتماء إليها لكنها عملت في الجمعيات اليهودية التي تدافع عن حقوق الإنسان. وفي عام 1933، يتم توقيفها مع أمها ويتم استجوابهما. وبعد ذلك تغادر ألمانيا إلى براغ وجنيف وباريس. ويلتحق بها زوجها.

وفي باريس تلتقي بكل من والتر بينجامين وجيرشوم شوليم وتتعرف على ريمون آرون. وفي عام 1936، التقت بهانيريش بلوشير الذي أصبح زوجها الثاني في عام 1940 إلا أن السلطات النازية أوقفتهما وأودعتهما في معسكرات فيرنيه وغارس. ولكنهما تمكنا من الفرار إلى مرسيليا، والوصول إلى لشبونة وإلى الولايات المتحدة فيما بعد.

وفي هذه الأثناء، طرد بينجامين نحو الحدود الذي وضع حداً لحياته بالانتحار. وبمساعدة ماكس برود، تجد وظيفة في عالم النشر حيث تقوم بنشر مذكرات كافكا وشولوم وبيرنار لازار وغاسبار. وكانت في هذه الفترة تحضر لكتابها الكبير «أصول التوتاليتارية» الذي صدر في عام 1951 في الوقت الذي كان فيه هذا المصطلح ما يزال جديدا. ومن ثم تتوالى كتبها في الصدور» وضع الإنسان الحديث «1958 و«أزمة الثقافة «1961. وفي عام 1961 تعمل لصحيفة «نيو يوركر» محاكمة ايخمان في القدس والكتاب الذي تؤلفه عنه يثير جدلا واسعا في الأوساط الثقافية والسياسية. ولعل ما يثير في كتاباتها أنها ربطت بين المعاش والحدث والفكر.

يعود الفضل في المحافظة على الرسائل المتبادلة بينها وبين هايدغر إلى حنا أرندت لأنها كانت تسلم منها نسخة إلى الأرشيف.

هل كانت ترغب في نشر هذه المراسلات ؟

على أية حال، كانت قد اتفقت مع هايدغر على عدم تمزيق الوثائق الشخصية. ويؤكد ابن الفيلسوف، هيرمان بأن مثل هذا الاتفاق كان قد عقد بينهما. ويبدو أن الفيلسوف لم يحتفظ الرسائل الأولى المتبادلة بينهما.

وفي المرحلة الأولى من مراسلتها، وبعد أن يعين عميدا للجامعة، يدافع فيها عن تهمة معاداة السامية التي ألصقت به، وكان ذلك يعني تعكير صفو علاقته بأرندت . كان ذلك في عام 1932 و1933. والمرحلة الكبيرة من مراسلاتهما تبدأ في 7 فبراير من عام 1950. في المساء، قام هايدغر بزيارة إلى حنا أرندت في فندقها في فريبورغ بعد أن أشعرته بوجودها في مدينته. وتؤكد الوثائق المتوفرة من عام 1950 حتى 1954 بأن جو الثقة عاد إلى علاقتهما من جديد بدون أية كلمة عتاب.

كما تكشف هذه الوثائق تفاصيل هامة في سيرة حياة الفيلسوف في بداية الخمسينات. ولم يتقابل العشيقان من عام 1952 حتى عام 1967 لأسباب متعددة أهمها الغيرة الأنثوية التي أظهرتها زوجة هايدغر، ألفريد، والعلاقة المتوترة بين هايدغر وزميله الفيلسوف كارل غاسبر. إضافة إلى أن العاشقين كانا عاكفان على تأليف كتبهما الأساسية وما يتولد عن ذلك من تبادل البحث والنقد.

وفي عيد ميلاد الفيلسوف الثمانين، كتبتأرندت «بأنها تعلمت التفكير من «المعلم»، وتقول في كلمتها «بعد خمس وأربعين لا زلت أفكر بك كما كنت على الدوام». وقبل هذه الاحتفالية، قامت مع زوجها بزيارة الزوجين هايدغر. وقبل الذكرى الثمانين، مات كارل غاسبر.

وفي عام 1970 ودعت زوجها، فتتحول مدينة هايدغر إلى نقطة لقاء بينهما. وكانت تتوقف في هذه المدينة لفترة من الزمن عندما تأتي إلى أوروبا في سنوات السبعينات، وهي تقول عن هايدغر «أسئلتك ترافقني على الدوام». وتضيف «أرجو أن تتحدث لي عن أعمالك وإلا فإنك ستحرمني من التعلم منك». وفي كتابه الشهير «كانط ومشكلة الميتافيزيقيا»، أهدى لها نسخة كتب فيها إلى حنا آردنت... أحييها من صميم القلب ـ مارتن هايدغر».

وعلى الرغم من ذلك، وجدت حنا آردنت في هاينريش بلوشير الصديق والعشيق والمتعاون والموحي والزوج في آن واحد. وجرت بينهما مراسلات هامة من 1936 حتى عام 1968. إضافة إلى مجموعة من المراسلات مع كورت بلومنفيلد وماري ماكارثي وكارل غاسبار، وهي على درجة كبيرة من الأهمية. وهنري بلوشير على درجة كبيرة من الثقافة الواسعة والمعرفة الدقيقة بتاريخ الفن.

وفي الحقيقة أن الفيلسوفة حنا أرندت ولدت في هانوفر من عائلة فنية يهودية، ومن ثم واصلت دراستها في برلين وماربورغ وفبريبورغ وهايدلبيرغ. وتتلمذت على أيدي اكبر ثلاثة فلاسفة: هايدغر وهوسريل وغاسبار.

وفي عام 1933 كانت في ال27 من عمرها عندما شب حريق ريشتاج، كانت تقوم ب«أعمال غير شرعية» أي معادية للنازية مع زوجها الأول غونتر ستيرن وقدمت الدعم للشيوعيين بالفرار من ألمانيا. ويتم توقيفها لبضعة أيام ثم تتمكن من الفرار إلى فرنسا حتى عام 1951 حيث تحصل في هذه السنة على الجنسية الأميركية.

وفي باريس تتعرف على كل من بيرتولد بريشت وستيفان زفايج ووالتر بينجامين. وفي عام 1937، تلتقي بزوجها هاينريش بلوشير الذي كان ينحدر من عائلة عمالية وينتمي إلى الحزب الشيوعي الألماني. وفي عام 1940 يتزوجان في 16 يناير بعد رحلة شاقة من الهرب من فرنسا حيث كان زوجها رهن معسكرات الاعتقال إلى إسبانيا ومن ثم إلى لشبونة ومن بعد ذلك الرحيل إلى أميركا. ولكنهما لم ينقطعا عن زيارة أوروبا باستمرار حيث زارا في عام 1969 مارتين هايدغر.

زوجها توفي في عام 1970 وهي توفيت في عام 1975 ودفنا سوية. وكان هذان الزوجان يشكلان نموذجا لامرأة فيلسوفة معروفة ورجل يعمل في الظل مثل قائد الأوركسترا، يشبه إلى حد ما الرجل المختفي في الظل والذي يحرك لعبة الفلسفة بطبيعة. وكثيرا ما كان يختار زوجها مهنة «محرك الدمى» في أوراقه الشخصية كما تؤكد جوليا كريستيفا. ولم يقتصر زوجها على الحديث عن روزا لوكسمبورغ وبوخارين وقراءة ماركس ولينين بل دفعها إلى نقد الماركسية التقليدية من خلال تحطيم الأوهام الميتافيزيقية والأنظمة المغلقة.

شاكر نوري

Email