«أوروبيانا» تضع ذاكرة أوروبا على الشبكة العنكبوتية

أكبر مكتبة رقمية في أوروبا والعالم

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

باحثو الانترنت في كل مكان عثروا أخيراً على فردوسهم المفقود في «أوروبيانا» أكبر مكتبة رقمية في أوروبا والعالم، بعد أن وجدوا طريقهم إلى أكثر من 2 مليون كتاب من كنوز الحضارة الأوروبية، وهم يحلمون بالعثور على 10 ملايين كتاب رقمي في غضون عامين. بإمكان الأوروبيين أن يعثروا على هذه الكتب في 23 لغة من دول الاتحاد الأوروبي.

لم يكن يدور في خلد الموظف الذي أمضى سنوات طويلة في خدمة المكتبة الوطنية الفرنسية أن يغادر وظيفته في ادراج الكتب ويودع رائحتها القديمة إلى الأبد، وأثناء خروجه من البوابة الرئيسية كان يردد «اللعنة على المكتبة الرقمية». لم يكن هو الموظف الوحيد الذي تم الاستغناء عن خدماته بل هناك موظفون آخرون في أوروبا لا قوا المصير ذاته: اسبانيا وهنغاريا وألمانيا وايطاليا وبولونيا في حين كان أعضاء المفوضية الأوروبية في بروكسل يحتفلون بمناسبة إطلاق أول مكتبة رقمية في أوروبا، «أوربيانا»، Europeana وهو الاسم الدلع والمدلل لأوروبا في 20 نوفمبر من عام 2008.

أما الباحثون والكتّاب والمفكرون فقد جاءهم إطلاق المشروع كخبر عظيم، فلم يعد يأخذون قطارات المترو أو يستقلون الأوتوبيسات أو يركبون سياراتهم ويشقون الطرق المزدحمة للوصول إلى المكتبات الوطنية في دول أوروبا لأن معظم محتوياتها انتقلت إلى «أوربيانا» رقمياً. وسرعان ما بدأت نقرات الكمبيوتر تتردد حتى وصلت إلى 10 ملايين نقرة في آن واحد على عنوان واحد هو: www.europeana.eu

كيف ولدت أوروبيانا؟

يبدو من العجيب أن نعرف بأن فكرة هذه الموسوعة الرقمية العملاقة نشأت من رسالة جاءت إلى رئاسة المفوضية الأوروبية في 28 أبريل من عام 2005 من ست دول اقترحت إنشاء أكبر مكتبة رقمية أوروبية، تهدف إلى جعل الثقافة والعلوم الأوروبية متاحة للجميع. وفي 30 سبتمبر من عام 2005 أعلنت المفوضية الأوروبية عن إنشاء أول مكتبة أوروبية رقمية كهدف استراتيجي في جعل الثقافة نواة أساسية للوحدة لأوروبية التي لا يمكن أن تحقيقها إلا عبر الثقافة والتراث، ودمج تعددها الثقافي واللغوي مع تقدمها التكنولوجي. بلغت تكلفة هذه المكتبة الرقمية 255 مليون يورو على أن يمّولها الاتحاد الأوروبي بـ 2 مليون يورو كل عام.

وتعتزم بروكسل باعتبارها عاصمة المفوضية الأوروبية إلى استثمار 120 مليون يورو بين عامي 2009 و2010 من أجل تحسين التقنيات التكنولوجية الرقمية واستخدام اللغات المتعددة وتقنية الترجمة الأوتوماتيكية إلى 23 لغة. لم يكن يخطر على بال رئيس المفوضية الأوروبية في بروكسيل، وهو يعلن عن بدء العمل بالمكتبة الرقمية في مؤتمر صحافي، بأنه يقوم بإلاعلان عن عمل ثقافي ستتذكره الأجيال سنوات طويلة. إن «أوروبيانا» تحتوي على ثقافات الدول الأعضاء في العديد من اللغات، إضافة إلى الكتب والصحف والصور والأفلام والأعمال البصرية الأخرى وملايين الوثائق بل أنها أصبحت بوابة أوروبا الثقافية.

وتتكون نسب المشاركة الرقمية في الكتب والوثائق بالشكل التالي: ألمانيا 17%. فرنسا 10% اسبانيا 9% ايطاليا 6% هولندا 5% بلجيكا والولايات المتحدة 4% ؟. وهناك دول شاركت بأقل من عشرة عناصر اعتقادا بأنها لا تهم جمهور القراء.

عمليات البحث

عملية البحث في «أوروبيانا» بسيطة للغاية، إذ يكفي أن تستخدم الكلمات التالية وتسأل نفسك: من وماذا وأين ومتى.. ومن تستخدم الكلمات في محرك البحث.

عندما تسأل:

من: تتوالى أسماء الممثلين والمؤلفين والمعماريين والفنانين والصحف ومؤلفي الموسيقى والمخرجين والموسيقيين والمصورين.

ماذا: تتوالى كلمات من عناوين الكتب، قصيدة، صحيفة، رسم، صور، أفلام أو برامج تلفزيونية.

أين: تتوالى كلمات من أسماء المدن، والبلدان من أوروبا أو حولها.

متى: تكتب تواريخ مثل 1945 أو تاريخ ولادتك، أو التواريخ الشهيرة في التاريخ أو المراحل التاريخية على سبيل المثال: الفترة الرومانية أو القرون الوسطى.

أما نتائج البحث فتحتوي في الأعلى على: النصوص، والصور، والفيديو والصوت.

النصوص: تحتوي على الكتب والرسائل وأوراق الأرشيف، مقالة مطولة أو خطبة، قصيدة، صحف، مقالات، مخطوطات وعلامات موسيقية.

الصور: تحتوي الرسوم، المطبوعات، صور المواد الأثرية، خرائط، تصاميم غرافيك، خرائط، نوتات موسيقية.

فيديو: أفلام، أخبار إذاعية وبرامج تلفزيونية.

صوت: موسيقى كلمات منطوقة، أشرطة مسجلة، أحاديث إذاعية.

إرباك في الساعات الأولى

ما هو الإرباك الذي حصل في عمليات البحث في هذه الموسوعة الرقمية الأكبر في العالم؟

بعد ساعات من إطلاقها أصابها عمليات البحث نوعاً من الإرباك وظلت لأسابيع عاطلة عن العمل حتى أواسط ديسمبر في عملها التجريبي حيث استلم الباحثون رسالة تفيد بأن عمليات البحث تعطلت على الموقع رغم رفع سرعة الكومبيوترات وسعتها التشغيلية.

وفي البدء، توقع مصممو «أوربيانا» بأن عمليات البحث ستبدأ بخمس مليون نقرة في الساعة على الكمبيوتر، كحد أقصى، ولكن ما حصل هو تضاعف نقرات الباحثين بثلاثة أضعاف ما كان متوقعاً، وهي ظاهرة غير متوقعة لأي موقع. ولعل أوربيانا كانت ضحية نجاحها، كما يقول مارتن سيلميار، الناطق الرسمي والمسؤول عن المشروع.

والسبب في هذا الخلل المبكر يعود إلى أن الآلاف من الباحثين قاموا بالبحث في وقت واحد عن أشهر الأسماء والأعمال مثل «موناليزا» أو «المخطوطات الأدبية لكافكا أو سيرفانتس أو جيمس جويس، الكوميديا الإلهية لدانتي، أو أعمال شكسبير ورسومات عمالقة الفن التشكيلي أمثال بيكاسو ورينوار، ووثائق تاريخية من الموسوعة البريطانية، وتسجيلات لموسيقى بيتهوفن وموزارت وشوبان، وصور مثل سقوط جدار برلين وغيرها. وربما يعود السبب إلى نظام التشغيل «السيستم» الموجود في هولندا، مقر المكتبة الرقمية، ذو الثلاثة مشّغل، غير قادر على التعامل مع أعداد النقرات الهائلة في البحث ولكن هذه المشكلة سرعان ما تم حلهّا في الأيام التالية.

حقوق الملكية الفكرية

تحتوي هذه المكتبة الرقمية على مليوني عمل، يقع ضمن دائرة الاستخدام العام.. ويضاف إلى ذلك إن موقع «أوروبيانا» يسمح بالإطلاع على ملايين الكتب، والرسومات والوثائق السمعية والبصرية وصورة الأرشيف بنقرة واحدة على الكمبيوتر، وهذا ما يتم تنفيذه في وقت لاحق. ويتخذ فريق العمل من مكتبة هولندا مقراً له. ومما لا شك فيه أن السنوات المقبلة، ستولد مشكلة محتويات المكتبة الرقمية الأوروبية من الكتب الحديثة الصدور بسبب حقوق التأليف والملكية الفكرية، ولكنها ستجد الحلول المناسبة مع الناشرين من خلال توقيعها على عقود معينة. وقد قررت الشركات الأميركية تمديد حقوق الملكية الفكرية إلى 75 عاماً بعد موت المؤلف وهذا ما يتعارض ما الفترة التي قررتها أوروبا وهي 25 عاماً.

بين أوربيانا.. وغوغل

مما لا شك فيه أن تحويل هذا الكم الهائل من الكتب الورقية إلى كتب رقمية هو عمل جبار: فهناك جزء كبير من المكتبات الوطنية الأوروبية في متناول الجهاز الرقمي.

وهناك مجموعة ما يُطلق عليها بـ «الكتب اليتيمة» أي الكتب التي لا تمتلك أية حقوق ملكية فكرية، ولم تدخل بعد في النطاق الرقمي. وفي هذا المجال، يجب عدم نكران دور فرنسا ومغامرتها الرقمية عندما أقدمت المكتبة الوطنية الفرنسية على نقل الأعمال الفرنسية والهنغارية والبرتغالية إلى النطاق الرقمي في مارس من عام 2007.

وكانت بذلك النواة الأساسية لتأسيس هذه الموسوعة الرقمية الهائلة. ويرى مؤسسو «أوروبيانا» بأنها ستتحول إلى فضاء تجعل القارئ يرحل عبر الزمان والمكان، على حد تعبير فيفيان ريدنغ، عضوة اللجنة المسؤولة عن المعلومات والإعلام بقولها «إن هذه المكتبة الرقمية ستربط الناس بتاريخهم كما أنها ستفعّل موضوعة «التنّوع الثقافي الأوروبي». وتسمح لأوروبا أن تصبح بمستوى محرّك البحث الأميركي غوغل. بعد مرور أربع سنوات، سيتطور المشروع لتشمل المكتبة على 7 ملايين كتاباً من المكتبات الأميركية.

ولو عدنا إلى تاريخ إنشاء هذه المكتبة الرقمية، لا بد من ذكر دور الرئيس الفرنسي السابق، جاك شيراك، وخمسة من القادة الأوروبيين: اسبانيا وهنغاريا وألمانيا وايطاليا وبولونيا ونداءاتهم العاجلة في وضع ذاكرة أوروبا على الشبكة العنكبوتية وإتاحة فرصة الاطلاع عليها بصورة مجانية أو استحصال بعض الأجور البسيطة على استشارة بعض الكتب والوثائق، وهذه كلها لم تُحسم بعد. لذلك فإن «أوربيانا» بعيدة كل البعد عن مقاييس التجارة والربحية لأنها مؤسسة ثقافية غير ربحية قائمة على مبدأ وضع الثقافة الأوروبية بيد أبناء الاتحاد الأوروبي والجميع على حد قول مدير المكتبة الوطنية الفرنسية، برونو راسين.

الثقافة في قلب الاندماج الأوروبي

«أوروبيانا» ليس المشروع الوحيد في المكتبة الرقمية، فإن اليونسكو هي الأخرى خطت خطوات في هذا المجال، وهي تسعى لإيجاد مكتبتها الرقمية العالمية من أجل وضع التراث العالمي على الانترنت، وخاصة في مجال نشر التربية والبحث عبر العالم. وهي أيضاً تسعى إلى إعطاء الفرصة أمام الدول النامية لكي تعّرف بتراثها بذات الطريقة التي تسعى إليها الدول المتطورة لذا تقوم بعملية الحفاظ على ذاكرة البشرية، مستفيدة من المبادرات السابقة مثل «ذاكرة العالم».

ومن أجل تنفيذ ذلك أخذت اليونسكو شريكا لها في مشروعها الطموح من خلال التعاون مع مكتبة الكونغرس الأميركي. وهناك خمسة شركاء لها أيضاً وهم: مكتبة الإسكندرية، والمكتبة الوطنية المصرية «دار الكتاب» والمكتبة الوطنية البرازيلية والمكتبة الوطنية الروسية ومكتبة الدولة الروسية. وهناك احتمال دخول شركاء آخرين في هذا المشروع. ويتم تنفيذ المشروع في ست لغات وهي اللغات الرسمية لليونسكو: العربية والإنجليزية والصينية والأسبانية والفرنسية والروسية والبرتغالية.

«أوروبيانا» لا تشكل أية منافسة مع مشروع اليونسكو لأنها متخصصة وتفتح طرقاً جديداً لاكتشاف التراث الأوروبي: فبإمكان جميع المهتمين في الأدب والفن والعلوم والسياسة والتاريخ والهندسة المعمارية والموسيقى والسينما الاطلاع عليها بصورة مجانية وسريعة.

ولكن هذا ليس سوى البداية. ففي عام 2010 فإن أوربيانا سوف تتضمن على ملايين العناصر الأخرى من تراث أوروبا الغني والمتنوع كما يقول رئيس المفوضية الأوروبية، جوزيه مانيول باروسو: «مع أوربيانا، نحن نربط الروح التنافسية لأوروبا في الاتصال وتكنولوجيا الانترنت مع تراثنا الثقافي العريق. فالأوربيون يتمكنون الآن من الاطلاع على المصادر والمجموعات بشكل سريع وسهل في فضاء واحد. وأوربيانا أكثر من مكتبة، فهي موّلد حقيقي للاستحياء والإلهام في القرن الواحد والعشرين. لنتأمل هذا المشروع جيداً، إنه يقدم للطلبة والأكاديميين ومحبي الفن والأدب كل ما يحتاجونه عن كنوز بلدانهم وإن يدل ذلك على شيء فإنه يدل على أن الثقافة هي في قلب الاندماج الأوروبي».

فيما تذهب فيفيان ريدنغ، المسؤولة عن الإعلام في الاتحاد الأوروبي قائلة: «أوربيانا تقدم رحلة عبر الزمن، وعبر الحدود، لما تتضمنه ثقافتنا. وأكثر من ذلك، إنها ستربط الناس بتاريخهم، لذا أجد لزاماً علي أن أطالب المؤسسات الثقافية الأوروبية ودور النشر وشركات التكنولوجيا برفد كل ما لديهم من كنوز معرفية في شكل رقمي لكي نجعل من أوربيانا بيتاً للإبداع الثقافي الأوروبي. بل ونسعى بكل جهودنا إلى تضمين هذه المكتبة 10 ملايين مادة حتى عام 2010».

أوربيانا.. عالم ساحر وافتراضي لكل ما أبدعته البشرية في القرون الماضية، إنها تحثنا، نحن العرب، على إيجاد فضاء رقمي، تتمتع فيه الأجيال الحالية والمقبلة على الاطلاع على كنوزنا العربية في التراث والعلوم والآداب والمخطوطات، هل نحلم بولادة مكتبتنا الرقمية كما حلم بها يوما الأوروبيون وحققوها على أرض الواقع؟

1000 شريك

يوجد أكثر من 1000 مؤسسة تمثل التراث والثقافة والمعرفة ساهمت في هذا المشروع الضخم، منها الرائدة:المكتبة الوطنية الفرنسية ومعهد الاينا البصري ومتحف اللوفر. بالإضافة إلى توفيرها لمواد المكتبة من كتب ووثائق. وتسعى المكتبة الرقمية الأوروبية إلى الوصول إلى احتواء وتحويل 6 ملايين كتاب إلى النطاق الرقمي من الآن إلى عام 2010.

منافسة غوغل

إن نجاح محرّك البحث غوغل الأميركي أدى إلى ولادة «أوروبيانا» والتفكير جدياً بضرورة المنافسة في البحث الرقمي في دول أوروبا، لذا ليس من الغريب أن تجد هذه البلدان هويتها الثقافية في هذه المكتبة الرقمية أكثر مما تجدها في الاتفاقيات السياسية والتبادلات التجارية.

أوروبيانا والأجيال الجديدة

«أوروبيانا تجعل الأجيال الجديدة قادرة على قراءة النص، ورؤية الفيديو، وسماع الموسيقى، ومشاهدة الصور في وقت واحد وفي فضاء واحد. إنها تمنح الشباب تجربة متكاملة في الإعلام المتعدد والمتنوع، وتربطهم بثقافة أوروبا، بحاضرها وماضيها». مديرة المكتبة الوطنية الألمانية، اليزابث نيجمان.

شاكر نوري

Email