الفيلسوف والإمبراطورية

الفيلسوف والإمبراطورية

ت + ت - الحجم الطبيعي

د. فتحي المسكيني: دكتوراة الدولة في الفلسفة وأستاذ محاضر في جامعة تونس. له : هيغل ونهاية الميتافيزيقيا 1997، فلسفة الثوابت 1997، الهوية والزمان 2001، ونقد العقل التأويلي 2005.

يتكوّن كتاب د. فتحي المسكيني «الفيلسوف والإمبراطورية في تنوير الإنسان الأخير» من مقدمة وستة فصول، بدأها بقوله : «إن البرنامج الوحيد لأنفسنا لا يجب أن يكون سوى الحياة، ليست الحياة البيولوجية التي فهمنا اليوم إنها شفرة وراثية بلا أي توقيع أخلاقي أو طبقي، بل الحياة بما هي ضيافة كونية للغرباء وعلى الكوكب الأخير.

إنّ ما تقوله الأديان حول البشر ليست اليوم سوى أضعف انفعالات العقل البشري، ولذلك فالتسامح هو ادعاء مدني مزيف لأنه يبطن تغطرس الأقوى على الضعفاء»

إن فلسفة الراهن هي أقرب ما تكون إلى ضرب من كانطية الجماهير، تلك التي تفترض أن الحرية هي فرصة الإنسان الأخير، ولكن ليس الإنسان/الأنا، المعزول في بوتقة واجب صوري بلا توقيع متفرد، بل الإنسان/الكثير، اليومي الذي هو أي كان، في حياته اليومية التي هي الوحيدة والأخيرة لنفسه، حين يصبح أي كان برنامجاً إتيقياً أساسياً للإنسانية الحالية، يكون كانط قد نجح في هدينا إلى عصر التنوير.

ثم انتقل في الفصل الأول إلى «انزياحات الهوية الحديثة» أو تأويلية الإنسان الأخير، عند كانط، نيتشه، هيدغر، كيف تم الانزياح من السؤال الحديث « ما هو الإنسان ؟ » كما طرحه كانط، إلى السؤال المعاصر «من هو الإنسان ؟» كما صاغه هيدغر، و« ما هي دلالته ؟».

إن وسيطاً خفياً أوشكنا أن نغفل عنه عند الطمع في ترصّد الانتقال المنهجي من سؤال فلاسفة الحداثة « ما هو الإنسان ؟» إلى سؤال نقاد الحداثة « من هو الإنسان ؟ » ذلك الوسيط الخفي هو نيتشه.

ولكن علينا أن نسأل : إذا كان آخر كلام كانط على الإنسان هو كتاب الانثروبولوجيا من وجهة نظر براغماتية، فكيف يجدر بنا إثباته، ضمن دروس المنطق لسؤال : « ما هو الإنسان ؟ » بوصفه عرض الانثروبولوجيا التي يمكن أن نردّ إليها كل شيء، بأي معنى يمكننا أن نفهم تصريح كانط بأن الانثروبولوجيا هي المصدر الحقيقي لسؤال الميتافيزيقا «ماذا يمكنني أن أعرف ؟ » وسؤال الأخلاق: «ماذا يجب علي أن أفعل» وسؤال الدين: «ماذا يحق لي أن آمل ؟».

إن سؤال كانط هو سؤال إنكاري وعلامة متوارية على بداية التشتت المنهجي لمعنى الإنسان في أفق المغامرة الابستيمولوجية للعقل النظري الحديث : إن هذا السؤال سؤال/حيرة وليس سؤال/يقين في سياق نظري للعلم السوي المسيطر على إمكانية المعرفة في عصر ما.

إنّ الرهان هو : كيف نكون كانطيين ـ أي مواطنين كونيين قادرين على الاستعمال العمومي لعقولنا. ترجع عبارة « الإنسان الأخير » إلى خريف - شتاء 1872، حيث اخترعها نيتشه ضمن إحدى كتابات الشباب التي نشرت بعد موته تحت عنوان « كتاب الفيلسوف ».

دراسات نظرية أو بالتحديد ضمن فقرة تحت عنوان مثير هو «أوديب»، إن نيتشه لا يتردد في وصف نفسه بأنه هو نفسه الإنسان الأخير، يقول: «الفيلسوف الأخير، تجربة وجودية خاصة بالإنسان المعاصر. إنه نمط بشري جديد وليس صفة ثقافية أو انثروبولوجية عادية.

وذلك أنه يظهر في لحطة معينة من تاريخ حضارة ما، تلك التي تكفّ فيها حضارة ما عن خلق قيمها وتأخذ في الانحطاط السري والخفي داخل نفسها ». يقول نيتشه : « هذه هي الأمارة الكونية الكبرى للعصر الحديث : إنّ الإنسان قد خسر كرامته أمام نفسه إلى حد لا يصدق ».

علينا أن نقرأ عبارة نيتشه بوصفها تشير إلى نمط بشري محدد هو مواطن «الدولة/الأمة في لحظة معينة من تاريخها، ألا وهي لحظة الحروب القومية التي ستنقلب سريعاً إلى حروب إمبراطورية، إن الإنسان الأخير هو الإنسان الإمبراطوري الذي عاصره نيتشه في طور انتقال الغزو الرهيب من نطاق الدولة /الأمة إلى أفق الدولة» الإمبراطورية، ومن نطاق الحروب الاثنية إلى الحروب العالمية.

إن نصوص نيتشه هي عينة نموذجية على وضع الفيلسوف في عصر إمبراطورية الإنسان الأخير، ولذلك فكانطيته ليست عادية ولا مدرسية، إنها كانطية الإنسان الأخير، بيد أن ذلك يعني أن مقولات الأنا والوعي والذات وجهاز البداهة والتعالي واليقين التي أقام الإنسان الأخير سديمي بلا رجعة.

ولذلك هو مشكل إمبراطوري ووراثي وإيكولوجي، وليس أمة أو ملة إلا غرضاً أو مجازاً ثقيلاً آن الأوان لوضعه عن أكتافنا لبعض الوقت وماذا هيأنا من أنفسنا لهكذا مهمة.

يدرس الكتاب كذلك الفيلسوف والإمبراطورية، ما هي أميركا والهوية والمنفى، ادوار سعيد وتأويلية المنفى والإمبراطورية والمسلم الأخير، ليصل إلى نتيجة مفادها أننا غرباء ليس فقط عن الآخر الحضاري بل عن أنفسنا أيضاً،.

ولذلك فتنوير الإنسان الأخير يوشك أن يكون في سرّه الساخر تأويلية للغرباء في عصر الإمبراطورية، كل أعضاء الإنسانية الحالية جمهور بلا توقيع، عيون لا متناهية من القراء لنص واحد لم يكتبه أحد، ولذلك فأي كان هو مؤلفه الأصلي.

لذلك فالسببان اللذان يمنعان الإنسان الأخير من التنوير هما : الخوف والقلق، إنهما علامة، وحية على نمط غير مسبوق من الغربة.

هو غربة الأهلي بعد تجريده من السقف الرومانسي للوطن، والقذف به في الفضاء المتوحش للسلطة الحيوية للإمبراطورية، لكن هذه الغربة، تمتلك في نفسها شروط حياتها ؟

إنها القدرة الفظيعة على آداب الضيافة، ضيافة الغريب بوصفها حقاً كونياً في التفرد والتعدد والتكثر والسياحة في الأرض، الكوكب الميتافيزيقي الأخير، للحيوان الآدمي الذي عاد أخيراً إلى حظيرة الجمهور، عارياً من أي توقيع أخلاقي باسمه، سواء كان الدين أو الدولة/الأمة.

فيصل خرتش

* الكتاب: الفيلسوف والإمبراطورية

* الناشر: المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 2005

* الصفحات: 224 صفحة من القطع المتوسط

Email