نشأة علم التاريخ عند العرب

نشأة علم التاريخ عند العرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف هذا الكتاب هو المؤرخ العربي الأبرز الدكتور عبد العزيز الدوري. ويقدم الكتاب مادة تمثل مرجعا أساسيا في تطور الكتابة التاريخية ودراسة التاريخ لدى العرب والتي بدونها تتعذر الكتابة التاريخية النقدية، ويتعذر فحص مصادرنا التاريخية ونقد رواياتها وتمييز القوي من الضعيف والأول من التالي والأصيل من الموضوع.

ويشتمل الكتاب على خمس رسائل تعرض لنشأة التاريخ عند العرب وتطوره خلال القرون الثلاثة الأولى وأصول مدرسة التاريخ في المدينة وبداية القصص التاريخي وأصول مدرسة التاريخ في العراق ثم دوافع الكتابة التاريخية والآراء التاريخية التي تنطوي عليها مؤلفات المؤرخين الأولين.

في الرسالة الأولى يتناول المؤلف نشأة علم التاريخ وتطوره حتى نهاية القرن الثالث الهجري وذلك بصورة عامة موجزة مشيرا إلى أنها تكاد تكون مجموعة تراجم تظهر الخيوط العامة لتطور الموضوع. ويشير المؤلف في هذا الصدد إلى أن علم التاريخ عند العرب يعد تطورا طبيعيا في الإسلام حيث ان الدين الجديد وتكوين إمبراطورية ووضع تقويم ثابت كل هذه أمور هيأت الأساس،

ثم ان الاتجاهات الإسلامية المتمثلة في الاهتمام بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وبإجماع الأمة وخبراتها وبآراء علمائها وأحكامهم وبالحوادث الكبرى التي حددت سيرها التاريخي كانت الدوافع الرئيسية لدراسة التاريخ في المدينة. ومن جهة ثانية استمرت الاتجاهات القبلية نحو العناية بالأنساب والأيام والشعر في المراكز القبلية الجديدة في الكوفة والبصرة في إطار جديد ووجدت حوافز جديدة في التيارات السياسية والاجتماعية والمدنية الجديدة ووراء هذين الاتجاهين كان هناك الشعور لدى الجميع برسالة تاريخية.

وحسبما يشير الدكتور الدوري فإن تطور الكتابة التاريخية يعد مكونا لجزء حيوي من التطور الثقافي .. فالروايات المبعثرة في الأخبار والحديث والأنساب صارت تجمع من قبل المحدثين بصورة شفوية، إلا أن التاريخ لم يظهر بصورة ثابتة إلا حين بدأ استعمال الكتابة لحفظ الأخبار والروايات.

وقد كانت المرحلة الأولى في نشأة التاريخ محلية بالدرجة الأولى ومحدودة تقريبا في نطاقها ففي المدينة مهد الإسلام انصب الاهتمام على السيرة وعصر الخلفاء الراشدين وفي الكوفة والبصرة اتجه الاهتمام إلى الفعاليات القبلية والفتوحات،

ولكن اطراد أثر المبادئ والأفكار الإسلامية وتغلغلها في المجتمع على حساب الآراء القبلية والاجتماعية المحلية يوضح حصول تطورات ثقافية جديدة مثل ازدياد أهمية الإسناد وانتشار استعماله في الرواية وتركيز الشعور بوحدة الأمة وأهمية خبراتها المتصلة وعندئذ بدأ الجمع المنظم للأخبار والروايات التاريخية وكذلك للحديث من الأمصار المختلفة والاتجاه نحو كتابة تواريخ عامة بعضها ينطوي على نظرة عاملية للتاريخ قبل الإسلام.

وفي الرسالة الثانية يستعرض المؤلف أصول مدرسة التاريخ في المدينة (عروة ـ الزهري) ويوضح في هذا الإطار أن الدراسات تاريخية وغيرها بدأت بجهود مشتركة تتمثل في حلقات للدراسة تحيط كل حلقة أستاذ ، وقد يبرز طالب العلم حين يجتاز مرحلة دراسية فيكون حلقته والدراسة مفتوحة لمن يريد والرواية تسير في سلسلة ونتيجة ذلك وبمرور الزمن تكونت مدرسة في التاريخ والحديث والفقه.

وأول مدرسة للتاريخ هي مدرسة المدينة، مدرسة المغازي وترتبط في نشأتها ووجهتها بجهود اثنين من الفقهاء المحدثين هما عروة بن الزبير وتلميذه الزهري. ويقدم هنا رؤية تفصيلية عن كل منهما. ومما يذكره عن عروة أنه كان محدثا ثقة وقد اتبع أسلوب أهل الحديث في رواياته ومكنته منزلته وصلاته الاجتماعية من أخذ الروايات من منابعها. كما عني عروة بالوثائق المكتوبة إلى جانب الروايات الشفهية فأورد جملة من كتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جهات مختلفة، وهذه ناحية، وفق ما يقرر المؤلف، تعد مهمة في وجهة الكتابة التاريخية، كما أنه استشهد بالآيات القرآنية التي تتصل بالحوادث كما في حديث�� عن الهجرة.

كما يورد عروة بعض الشعر في رواياته على لسان المشتركين في الحوادث وإن قل ذلك مثل ما قاله ورقة بن نوفل حين رأى بلالا يعذب في الرمضاء. أما بالنسبة للزهري فينسب إليه الدكتورالدوري الدور الأكبر في نشأة مدرسة التاريخ في المدينة حيث وضعها على أسس راسخة ورسم وجهة الدراسة التاريخية فيها. وتزداد أهمية دراسته في ضوء أنها تمكننا من تقرير ما إذا كانت أصول المغازي ترجع إلى القصص كما يرى البعض أو أنها ترجع إلى الدراسات الجدية التي قام بها المحدثون وتلامذتهم .

وفي تلخيص لدور الزهري يورد المؤلف مقولة الطبري عنه وفيها يقرر ان الزهري كان مقدما في العلم بمغازي الرسول وأخبار قريش والأنصار، رواية لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقد ابتدأت دراساته بتناول بعض الحوادث السابقة للإسلام وبعضها يتصل بالرسول ثم حياة الرسول في مكة وبعدها في المدينة وقد وضع الزهري كتابا في المغازي واستعمل تعبير السيرة كما استعمل تعبير المغازي إلا أن التعبير الأول لا يرد عنوانا لمؤلفه.

ويخلص الدوري من ذلك إلى أنه إذا كان عروة بن الزبير رائد علم التاريخ فإن الزهري أسس المدرسة التاريخية في المدينة وأن دراسات هذا الأخير يتضح منها أن الاهتمام بتجارب الأمة وخبراتها كان عاملا آخر للدراسة التاريخية وساعدت كتابته لعلمه على وضع الدراسات التاريخية على أساس ثابت وأدت إلى حفظ الروايات التاريخية الأولى.

ثم يعرض بعد ذلك في الرسالة الثالثة إلى دور وهب بن منبه في بداية القصص التاريخي ورغم أن دراسة وهب حسب المؤلف تخرج بالكتاب عن نطاق بحث علم التاريخ عند العرب، إلا أنه يشير الى أن وضعه من قبل بعض الباحثين في هذا النطاق وتأكيد البعض أهميته في السيرة دفعاه إلى بحثه ليبين بوضوح أنه لم يعد من أهل المغازي وأن حقله وأثره هو في نطاق القصص والإسرائيليات.

وقد كان وهب بعيدا عن مدرسة المدينة فهو يماني يختلف في وجهته عن أهل الحديث ويبدو حسبما يشير المؤلف أنه كان من أصحاب الأخبار والقصص واشتهر وهب بإطلاعه على كتب الأولين وأخذ مواده من الروايات الشفوية ومن الكتب وادعى أنه قرأ مجموعة واسعة من كتب الأنبياء يختلف عددها في الروايات بين 30 و 32 وبضعة وسبعين و 92 و93 كتابا، وهو الأمر الذي يشير المؤلف إلى انه من الصعب قبوله.

والملحوظة الأساسية التي يقدمها الدكتور الدوري بشأن وهب هي أنه روى قطعا من العهد القديم منقولة بصورة حسنة ومقتبسة في تفسير الطبري وقطعا من المزامير وتدل بعض أخباره على معرفة بالتلمود، فضلا عن أن هناك اشارات على معرفة وهب بالعبرية وربما بالسريانية، ويبدو، وفق المؤلف، أنه أخذ من الإنجيل والكتب المسيحية معلومات عن ميلاد المسيح وحياته.

ثم ان معلوماته عن بداية المسيحية وانتشارها في اليمن تتصل بالنص السرياني لكتاب سمعان مع التنميق الذي تتطلبه القصة الشعبية. ويؤكد الدوري على حضور الإسرائيليات نقلا عن الذهبي الذي يذكر انه كان شديد العناية بها، كما أنه أخذ الكثير من القصص الشعبي اليماني.

وينتهي المؤلف إلى أن وهب أدخل عنصر القصة إلى حقل التاريخ كما يتبين من الروايات المأخوذة عنه لفترة ما قبل الإسلام في ابن إسحاق واليعقوبي وابن قتيبة والطبري والمسعودي كما أنه أثر في قصص الأنبياء كما في كتب الكسائي والثعالبي. فدور وهب هو أنه أول من وضع هيكلا وإن كان قصصيا لتاريخ النبوة منذ بدء الخليقة حتى ظهور الإسلام وقد أخذ عنه أو تأثر به من ناحية المادة أو الهيكل بعض المؤرخين التالين.

ثم يتطرق المؤلف في الرسالة الرابعة إلى أصول مدرسة التاريخ في العراق مستعرضا نشأتها وتطورها حتى القرن الثالث الهجري. يشير المؤلف هنا إلى وجود أدلة واقعية على استعمال الكتابة لإعانة الذاكرة او لحفظ الروايات قبل نهاية القرن الأول الهجري وخلال النصف الأول للقرن الثاني الهجري وهو الوضع الذي بدأ معه ظهور روايات مسجلة إلى جانب الروايات الشفوية.

وفي مطلع القرن الثاني للهجرة بدأ يظهر أشياخ ورواة ضالعون بأنساب قبائلهم ومآثرها وكذا وجود كتب جمعت من قبل بعض الرواة ولكنها تعد ملكا مشتركا للقبيلة وعن هؤلاء الرواة وفي هذه الكتب توافرت مادة تاريخية للمؤرخين فيما بعد. وفي حوالي منتصف القرن الثاني للهجرة نجد رواة وإخباريين ونسابين ولغويين علماء خلفوا مؤلفات تاريخية أو ثروة من الروايات التاريخية

وكانت تلك الفترة على ما يشير المؤلف فترة علماء رواد في مختلف الحقول بدأوا يجمعون الشعر والأخبار والحديث، فقد جمع أبو عمرو ابن العلاء وحماد الراوية الشعر والأخبار ومواد عن الأنساب العربية قبل الإسلام من رواة القبائل ومن كتبها بالدرجة الأولى واستعانوا بالكتابة لحفظ بعض إنتاجهم.

وقد أبدى الإخباريون من أبناء العراق عناية بشؤون الأمة إلى جانب اهتمامهم الخاص بشؤون العراق فنلاحظ لديهم فكرة وحدة تجارب الأمة واتصالها كما نرى فكرة ترابط التاريخ العربي فنجد سيف بن عمر يربط الردة بالفتوحات ويتناول عوانة بن الحكم التاريخ الإسلامي في القرن الأول الهجري ـ الخلفاء الراشدون: الردة والفتوحات والفتنة وتاريخ العراق وسوريا حتى خلافة عبد الملك.

ويتناول أبو مخنف تاريخ صدر الإسلام حتى صفين ثم يتابع حوادث العراق حتى نهاية العصر الأموي، أما المدائني فيجول في تاريخ العرب كله ـ السياسي والأدبي والاجتماعي ـ مبتدئا من الجاهلية ومستمرا حتى مطلع القرن الثالث الهجري.. وهكذا نجد الأمة لا القبيلة محور الاهتمام. كما نلاحظ آراء تاريخية أخرى في مؤلفات الإخباريين فنلاحظ التصادم بين فكرة الجبر في الشؤون العامة كما يروجها الأمويون وفكرة حرية الإرادة والمسؤولية البشرية كما تراها الأحزاب المعارضة.

وهناك فكرة الدولة والتأكيد على حقوق الإمام من الزاوية الأموية والولاء والطاعة له تجاه وجهة النظر القبلية أو الحزبية التي تضع ولاءات أخرى إقليمية أو غيرها فوق الدولة. وقد كان للحزبية وللإقليمية وللقبلية أثرها في الكتابات التاريخية فنرى في أبي مخنف ميولا علوية وميولا عراقية.

وفي مطلع القرن الثالث الهجري وصلت الدراسات التاريخية إلى مرحلة أدت إلى ظهور المؤرخين الكبار في ذلك القرن إذ أن الإخباريين واللغويين والنسابين رسموا في الكتب التي ألفوها نطاق الدراسة التاريخية وشملت دراساتهم جوانب حقولها المختلفة.

وفي هذه الدراسات ظهرت فكرة وحدة التاريخ الإسلامي ويحتمل أن هذه الفكرة تمثلت في دراسة تاريخية متسلسلة بصورة دقيقة من ناحية الزمن في مؤلف الهيثم بن عدي كتاب التاريخ على السنين وفي هذه الدراسات تطور اتجاه دراسة الأنساب إلى اتجاه تاريخي ضمن إطار النسب كما في نسب قريش للزبيري وبصورة أوضح من ناحية الخطة والمجال في تاريخ الأشراف الكبير للهيثم بن عدي وظهرت فكرة التاريخ العالمي فتناول هشام بن الكلبي تاريخ الأنبياء وتاريخ العرب الشماليين والجنوبيين قبل الإسلام والتاريخ الإسلامي.

وشهد القرن الثالث الهجري مرحلة جديدة من التطور الثقافي فقد تجمعت مادة ضخمة من الروايات التاريخية التي رويت أو كتبت في أمصار مختلفة وكان هذا العصر عصر«الرحلة في طلب العلم» وهي حركة بدأها أهل الحديث في سبيل جمع الأحاديث. وجاء مؤرخو القرن الثالث الهجري البلاذري، وإبن قتيبة، والطبري فكتبوا تواريخ متصلة للأمة الإسلامية تختلف عن الكتب السابقة، وكان ظهور هؤلاء المؤرخين يعني انتهاء مرحلة الإخباريين إذ وضعوا خطوط علم التاريخ عند العرب وركزوا الآراء والأفكار التاريخية.

مصطفى عبد الرازق

الكتاب: نشأة علم التاريخ عند العرب

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 2005

الصفحات: 395 صفحة من القطع الكبير

Email