كتب في الذاكرة

ديوان «عمرو بن أحمد الباهلي»

ت + ت - الحجم الطبيعي

لقد تميز الشاعر «عمرو بن أحمد الباهلي» باسم «ابن الأحمر» وأقدم ما نجده من إشارات إلى نشأته الأولى، ما رواه «ابن قتيبة» عن «أبي عمرو بن العلاء» فقال: كان ابن الأحمر في أفصح بقعة من الأرض أهلاً: «يذبل والقعاقع» يعني مولده، قبل أن ينزل الجزيرة ونواحيها، فنشأ هذا الطفل الأعرابي، في أحضان بادية نجد. وتهيأت له سبل الفصاحة، ثم يكون الشاعر الذي يتقدم شعراء أهل زمانه.

ومما لا شك فيه أن «ابن الأحمر» قد عاش طفولته وشطراً من شبابه قبل الإسلام، حتى كان شاعراً من شعراء الجاهلية المعدودين، قال فيها قصائد كثيرة، ولعل معنى ذلك، أنه كان في نحو العشرين من عمره على أقل تقدير.

وإذا كان «ابن الأحمر» قد أدرك العقد الأول من ولاية «عبدالملك بن مروان» (37 ـ 86ه) فإن هذا يعني أنه قد عمّر نحو خمس وتسعين سنة. ويمكن القول: إن طائفة مهمة مما قاله «ابن الأحمر» في الجاهلية قد فقدت شأنه في ذلك، شأن كثير من شعراء الجاهلية، ولكنه كان أحد الفرسان المجاهدين في الفتوح الإسلامية، حتى أنه فقد عينه في إحدى مغازي الروم وقد شكّل العور مشكلة نفسية له، ذكرها في شعره بشكل واضح.

«ابن الأحمر» أعرابي نشأ في بادية «نجد» وقد برز ذلك واضحاً في شعره من خلال ألفاظ غريبة ومعان جافية، لفتت قدامى الباحثين إليه، فيراه غير واحد منهم، كثير الغريب، يذكر حروفاً لم يأت بها غيره من الشعراء، ولعل «أبا زيد القرشي» أول من تنبه إلى ذلك، إذ رأى في شعره شيئاً من معالم الإسلام، وشيئاً آخر من آثار الجاهلية في آن معاً. و«ابن الأحمر» دائم الحسرة على شبابه، بل توشك حسرته أن تكون توطئة لأغلب أغراضه.

وديوان العرب، سيظل يحفظ لهذا الشاعر، موقفاً فذاً في وجه السعاة الذين أهلكت سياطهم الناس ذلاً وجوراً، وكان صوت الحق في وجه سلطان جائر. وقد استمد «ابن الأحمر» من البيئة البدوية معظم صوره الشعرية، ولم يكن عالماً بطباع الحيوان فحسب، وإنما كان عالماً بالأنواء والرياح في هذه الصحراء، ويكاد يهجس بالحديث عنها، وقد أمدته هذه البيئة بالصور الرائعة، وقد جعله «ابن سلام الجمحي» في الطبقة الثالثة من الشعراء الإسلاميين.

ونلاحظ أن الأصول التي عنيت بجمع اللغة، أو تناولت بالتصنيف مشكلاتها وظواهرها كانت تزخر بشعره، أكثر مما رأيناه في مصادر الأدب والنقد والمعاني وسواها، ولذا كانت المعجمات في مقدمة مصادر شعره، حيث يمكن العثور على 351 بيتاً، وثلاثين شطراً في معجم «لسان العرب» لابن منظور» من شعر «ابن الأحمر»

ورغم أن هذا الشاعر كان غزير الشعر، كما يروي الكثيرون، إلا أن هذا الشعر قد ذهب في ذمة التاريخ، ولم يبق منه غير 530 بيتاً وأربعة أشطار، هو مجموع الشعر الذي اطمأن الباحثون إلى نسبه إليه، وأما ما اضطربت نسبته بين ابن الأحمر وغيره من الشعراء، فقد بلغ المئات من أبيات الشعر.

ولعل شهرة «ابن الأحمر» لم تكن تقوم على موضوع محدد من الموضوعات، بل قامت بوجه خاص، على فصاحة كلامه، وعلى طرقه لمعظم موضوعات الشعر القديم، فأورده «المفضّل» من فحول أهل نجد الذين ذمّوا ومدحوا، وذهبوا في الشعر كل مذهب، وحسب «ابن الأحمر» أنه أضفى على فنه شيئاً من ذاته، ومضى يصدر في أشعاره عن خلق كريم حتى إذا ما هجا لم يقذع، وإذا ما تغزّل لم يسف، وإذا ما مدح لم يتكسب.

وقد حرص شاعرنا على الحدود الفنية للقصيدة العربية القديمة، وبخاصة الغزل، حيث كان الشاعر الجاهلي يبدأ أشعاره بالحديث عن ديار الحبيبة وأطلالها وما يتصل بذلك من بكاء وحنين وذكرى.

أما غزله في ثنايا أشعاره، فقد تلّون بتجارب شخصية، وفاض بعواطف جيّاشة، فهو غزل وجداني، يتحدث عن حب حقيقي أو تجربة شعورية أما مدحه فيتميز بأنه لم يمدح الرجل إلا بما فيه من الفضائل، غير آمل بكسب أو طامع بعطاء، ولم يكن يفد على أحد من خلفاء عصره وأمرائه ليمدحه فلا نجد في شعره ما نراه لدى «النابغة الذبياني» و«الحطيئة» و«الأعشى» و«حسان بن ثابت» وغيرهم.

أما الفخر فلم يكن إلا موضوعاً جانبياً من موضوعاته، بل كان يزجيه في تضاعيف أغراضه الأخرى، ويرسله دون أن يوفر له أدنى نصيب من نفسه وفنّه.

Email