الفلسفة في القرون الوسطى

الفلسفة في القرون الوسطى

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلف هذا الكتاب هو الباحث جون مارينبون، المختص بتاريخ الفلسفة في العصور الوسطى. وهو هنا يقدم نظرة عامة وشاملة عن كل تيارات وشخصيات هذه الفلسفة في أوروبا اللاتينية المسيحية كما في العالم العربي والإسلامي، ومن بينهم ابيلار، توما الأكويني، ابن رشد، ابن سينا، الفارابي، إلخ. وفيما يخص أوروبا يقول المؤلف ما معناه: تتميز تلك الفترة من التاريخ بالتأثير المهيمن الذي مارسته المسيحية على الحياة الثقافية والعقائدية.

والواقع أن العصور الوسطى كانت تمثل فاصلاً زمنياً طويلاً يفصل بين الحضارة اليونانية ـ الرومانية القديمة، والحضارة الأوروبية الحديثة، والسؤال المطروح هو التالي: هل يمكن للمرء أن يكون مسيحياً وفيلسوفاً في آن معاً؟ ألا يتعارض الإيمان الديني مع العقلانية الفلسفية؟ فالفلسفة تساؤل وبحث مستمر. أما الإيمان فتسليم عقائدي خارج كل تساؤل.

وبالتالي فهناك صعوبة في التوفيق بين الدين والفلسفة. هذا ما يقوله البعض وهم يحتجون على مصطلح: الفلسفة المسيحية ولكن طرح المشكلة على هذا النحو الاستقطابي الحاد ليس موفقاً ولا صحيحاً، فالواقع أننا إذا ما فهمنا الدين جيداً والفلسفة جيداً فإننا نستطيع التوفيق بينهما.

وهذا ما برهن عليه الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد (1198م) والفيلسوف المسيحي اللاتيني توما الأكويني (1274م) والثاني استفاد من الأول كثيراً على الرغم من معارضته له. وكلاهما قال إنه لا تعارض بين الإيمان والعقل أو الفلسفة والدين وإنما هناك تكامل، وتعاضد. فمجال الدين شيء، ومجال الفلسفة شيء آخر.

والواقع أن الفلسفة توقفت في أوروبا بعد انتصار المسيحية في القرن الرابع أو الخامس الميلادي والسبب هو أن رجال الدين اعتبروها وثنية لا تؤمن بالله. وهكذا أدانوا فلسفة أفلاطون وأرسطو ومنعوا تدريسها.

وظل الأمر على هذا النحو سائداً حتى القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي: أي طيلة سبعة قرون وفي أثناء تلك الفترة كان العرب المسلمون يهتمون بالفلسفة الإغريقية ويترجمونها إلى العربية، وظهر عندئذ كبار الفلاسفة من أمثال الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وابن الطفيل، وابن باجة، ثم انتقلت الفلسفة إلى الأوروبيين عن طريق العرب كما هو معروف.

ثم يردف المؤلف قائلاً بما معناه: ولكن عندما ابتدأ الأوروبيون يهتمون بالفلسفة ويترجمون كتب العرب، ابتدأ العرب أنفسهم يتخلّون عن الفلسفة ويتهمونها!

وهذا من غرائب الأمور، فعندما كنا مستيقظين على الحضارة والعقلانية كانوا نائمين في ظلام العصور الوسطى، وعندما استيقظوا نمنا.. ولهذا السبب سبقونا حضارياً وخلَّفونا وراءهم بمراحل طويلة.

وتنقسم القرون الوسطى لديهم ـ أي لدى الأوروبيين ـ إلى قسمين: القرون الوسطى العالية والقرون الوسطى الواطية، أو القرون الأولى والقرون الوسطى الثانية، والأولى تمتد من القرن الخامس الميلادي وحتى القرن العاشر، أما الثانية فتمتد من القرن العاشر حتى الخامس عشر.

والثانية أكثر استنارة وحباً للفلسفة من الأولى بكثير. ففي أثناء العصور الأولى هيمن اللاهوت المسيحي بشكل مطلق على عقول الناس وحذف الفلسفة حذفاً كاملاً تقريباً، وكان الأوروبيون غارقين في ظلمات الجهل والتعصب الديني وكره العقل والحضارة القديمة السابقة على المسيحية.

ولكن ينبغي الاعتراف بأن القديس أوغسطنيوس الذي ظهر في القرن الرابع الميلادي لم يكن معادياً للفلسفة، وبخاصة الأفلاطونية، إلى الحد الذي نتوهمه، فقد ناضل ضد النزعة الإرتيابية المتشككة وضمن النزعات البادية في الفكر. ودافع عن الإيمان الديني المسيحي، ولكن دون أن يجعله عدواً للعقل وإن كان يعتبر الدين في درجة أعلى من العقل بكثير، ولكنه كان يقول إن العقل يحضر الإنسان للإيمان، وكان يضيف قائلاً: إن فعل الإيمان نفسه هو فعل عقل وتعقُّل، وقد اشتهر بدعوته للناس إلى الإيمان من خلال التعقل، والتعقل من خلال الإيمان.

ثم يردف المؤلف قائلاً: وبالتالي فقد كان الهمّ الأساسي للفلسفة في القرون الوسطى هو أن تصالح بين العقل والإيمان، وهذا ما فعله الفيلسوف المسلم الكبير ابن رشد قبل الأوروبيين بزمن طويل، وكان ذلك في كتابه الشهير: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال».

لقد عاش هذا الفيلسوف الكبير (1126 ـ 1198) معظم عمره في الأندلس العربية المسلمة، وبالتحديد في قرطبة، وذلك قبل أن ينتقل إلى مراكش في أواخر حياته. وقد كان الضوء الفلسفي للأندلس كلها قبل أن يضيء أوروباً بدءاً من القرن الثاني عشر بعلمه وكتبه.

ثم نسيه الغربيون بعد القرن السادس عشر حتى اكتشفه أرنست رينان من جديد في القرن التاسع عشر وكتب عنه أطروحة جامعية شهيرة، ولا تزال أطروحة رينان عن ابن رشد والفلسفة العربية تثير المناقشات حتى الآن.

وبمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية الثامنة لموته عام 1998، ظهر عنه كتب عديدة في الشرق والغرب وأوروبا أيضاً، وطالب المثقفون العرب العودة إليه لمواجهة المدّ الأصولي الدوغماني المتطرف الذي يكتسح العالم الإسلامي حالياً. فوحده ابن رشد يستطيع أن ينقذنا من براثن الجهل والتعصب الأعمى.

والواقع أن الفلسفة العربية شهدت مناظرة كبرى بين شخصيتين استثنائيتين: الغزالي (1059 ـ 1111) وابن رشد (1126 ـ 1198)، فقد حصل اختلاف بينهما حول دور السببية والعقلانية في المعرفة وتفسير نظام العالم.

بالطبع فهذه المناظرة الكبرى جرت بعد موت الغزالي لأن ابن رشد ولد بعد موته، وبالتالي فلم يتح له أن يعرفه ولكنه تعرف على كتبه ورد عليه وحاول دحض أفكاره. فالغزالي كان من أتباع الموقف الصوفي المضاد للفلسفة.

وكان يقول ما معناه: لا يوجد قانون سببية يتحكم بالطبيعة كما يزعم الفلاسفة، وإنما توجد فقط إرادة الله، فهذه الإرادة هي التي تتحكم بكل ظواهر الطبيعة، وبالتالي ينبغي على العلم أن ينحسر أو ينسحب في الساحة أمام عظمة الدين. وهذا هو موقف اللاهوتيين المسيحيين أيضاً. فهم لا يثقون بالعقل ولا بالعلم، وإنما فقط بأقوال آباء الكنيسة ورجال الدين.

وقد وصل الأمر بالغزالي إلى حد القول في كتابه تهافت الفلاسفة، بما معناه: المعارف التي يتوصل إليها العقل في هذا العالم ليست الوحيدة. وإنما هناك معارف أعلى أو عليا، لا يمكن لعقلنا أن يتوصل إليها.وبالتالي ينبغي أن نقبل بصحة هذه المعارف العليا على الرغم من أنه يستحيل علينا أن نبرهن عليها بشكل منطقي أو عقلاني، فهي تتجاوز عقلنا.

وليس من الحق أن نقول بأنه توجد فوق دائرة العقل دائرة أخرى أعلى منها هي دائرة التجلي الإلهي. صحيح أننا نجهل قوانينها بشكل كامل، ولكن ينبغي علينا أن نعترف بإمكانية وجودها، فهي تقف فوق الجميع ولها قوانينها الخاصة وإمكانياتها التي لا حدود لها وبالتالي فالمعرفة البشرية محصورة بالسماء والأرض وما بينهما، وأما المعرفة الإلهية فتتجاوز كل ذلك لأنها علم بالغيب والشهادة.

ولا يمكن للعقل البشري أن يتوصل إلى هذا العلم. هكذا نلاحظ أن الفكر الروحاني إذا كان من أمثال الغزالي وطبقته العالية لا يهمه إلا الحقيقة الميتافيزيقية، أي الغيبية، وموضوعاتها التي هي خارج سيطرة العقل أو مناله.

وبالتالي فكل شيء في هذا العالم الأرضي يصبح بلا أهمية. وحدها الدار الآخرة لها معنى أو أهمية ضمن هذا المنظور الصوفي.لقد رد ابن رشد على هذا الموقف العقائدي ذي المصدر الصوفي والأفلاطوني الجديد بموقف عقلاني أرسطو طاليسي.

وقد رد عليه في كتابين أساسيين هما: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، ثم تهافت التهافت، وهذا الأخير يعتبر رداً مباشراً على كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة» وفيه هاجم الفلاسفة وبخاصة ابن سينا والفارابي هجوماً شديداً. ويقال إنه قضى على الفلسفة العقلانية في العالم العربي، منذ ذلك الوقت ولعدة قرون متواصلة.

وقد اعتمد ابن رشد في رده على الغزالي على التراث العقلاني الكبير للفكر العربي الإسلامي والفكر الإغريقي في آن معاً. فالتراث الأول كان يتمثل بالفارابي، وابن باجة، وبالأخص أستاذه، وشيخه ابن الطفيل الذي عرَّفه على الخليفة أبي يعقوب المنصور وطلب منه شرح فلسفة أرسطو بالعربية، وبالتالي فالعقلانية الفلسفية كانت مزدهرة في الأندلس أكثر مما نتصور.

وهكذا اعتمد على أرسطو صاحب كتاب البلاغة، والمنطق، والفيزيقا والميتافيزيقا لتشكيل الفلسفة الجدلية العقلانية في أرض الإسلام كلها، ونجح في ذلك نجاحاً باهراً قبل أن ينصبّ هجوم الفقهاء عليه. وهي الفلسفة التي انتقلت بعدئذ إلى أوروبا المسيحية اللاتينية عن طريق الترجمة وأدت إلى بث روح العقلانية فيها.

ثم يردف المؤلف قائلاً: وبعدئذ انتقلت فلسفة ابن رشد إلى أوروبا في القرن الثاني عشر الميلادي. والواقع أن فلسفة ابن سينا كانت قد سبقته إلى أوروبا بوقت قصير.

فابن سينا لعب أيضاً دوراً كبيراً في إحياء الفكر الفلسفي في أوروبا ولكن على طريقة أفلاطون لا على طريقة أرسطو، مهما يكن من أمر فإن الغرب المسيحي اللاتيني تعرف على منطق أرسطو وكتبه الأخرى عن طريق فلاسفة العرب وشروحاتهم.

هذه حقيقة مؤكدة لا ينكرها إلا جاحد أو مغرض. نعم لقد كان العرب آنذاك أساتذة أوروبا والمنارة التي تشعّ عليها بأنوار العقل والحكمة والفلسفة. ولكن سرعان ما تغيرت الأمور بعدئذ، سرعان ما ضمر العقل في أرض العرب وماتت الفلسفة..

ويمكن القول إن أول فيلسوف كبير ظهر في أوروبا كان تلميذاً للعرب، وهو المفكر أبيلار (1079 ـ 1142) الذي اطلع على فلسفة ابن سينا وابن رشد ودرس منطق أرسطو من خلال كتبهم وشروحهم. وكان مفكراً واسع الآفاق وذا نزعة إنسانية رائعة.

وقد برهن على سعة أفقه وتسامحه الواسع عن طريق تأليف كتاب على هيئة حوار بين فيلسوف وثني وإنسان يهودي وإنسان مسيحي. والواقع أنه كان يبحث عن الوحدة العميقة التي تجمع بين الأديان التوحيدية الثلاثة: أي اليهودية، والمسيحية، والإسلام لكي يتجاوز العداء التاريخي ونزعات التعصب والنبذ والاستبعاد المتبادل بينهم.

حقاً لقد كان أبيلار سابقاً لوقته بزمن طويل. أما أشهر فيلسوف مسيحي في القرون الوسطى فهو القديس توما الأكويني الذي عرف كيف يصالح بين العقيدة المسيحية والفلسفة الأرسطو طاليية، كما فعل ابن رشد قبله بأكثر من قرن من الزمن. وقد مارس تأثيراً كبيراً على الفكر الأوروبي طيلة قرون عديدة.

الكتاب:الفلسفة في القرون الوسطى

الناشر: روتليدج ـ لندن 2005

الصفحات:552 صفحة من القطع

المتوسط

MEDIEVAL PHOLOSOPHU

JOHN MARENBON

ROUTLEDGE- LONDON 2005

ROUT

Email