سود في معتقلات النازية

سود في معتقلات النازية

ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا الكتاب مفاجأة يبّين فيه الصحافي سيرج بيلي جانباً لم يكن معروفاً من ممارسات النظام النازي في ألمانيا. وإذا كان المؤرخون المختصون بالنازية قد أولوا اهتماماً كبيراً للتأريخ لاضطهاد هتلر لليهود، فإنه من الثابت بانه لم يتعرض أي مؤرخ لما عرفه السود من اضطهاد ايضاً على يد النازية.

كما يثبت مؤلف هذا الكتاب بالاعتماد على شهادات مثيرة قام بجمعها من المانيا وفرنسا وأسبانيا وبلجيكا والنرويج والمارتينيك وساحل العاج وسورينام والسنغال والولايات المتحدة الأميركية.

أما اصحاب هذه الشهادات فهم من القلائل الذين لايزالون على قيد الحياة ـ حتى مطلع عام 2005، تاريخ صدور الكتاب ـ أو من اولئك الذين كانوا قد عايشوا المعنيين في الحياة العامة، وخاصة في معسكرات الاعتقال النازية.

وهذا كتاب يعرض فيه مؤلفه بكثير من التفاصيل ما لقيه الكثيرون من السود الأفارقة أو الأميركيين، أو من جزر منطقة الانتيل الذين جرى اعتقالهم وإرسالهم إلى معسكرات الموت لانهم كانوا قد شاركوا في العمليات العسكرية أو انخرطوا في صفوف المقاومة. وقد لاقوا في تلك المعسكرات كل صنوف التعذيب والإذلال إذ جرت معاملتهم وكأنهم «حيوانات» بسبب لون بشرتهم السوداء.

ويكشف المؤلف في هذا الإطار حقيقة كانت مجهولة حتى الآن وهي أن قوانين «نوربرغ» التي أصدرها الفوهرر أدولف هتلر منذ عام 1935، بعد وصوله إلى السلطة، والتي تنص على قمع جميع الأجناس «من غير الآريين»، أي من غير أبناء «العرق الأسمى»، لم تكن تستهدف فقط «اليهود» و«الغجر» وإنما طالت أيضاً السود الذين كانوا يتواجدون آنذاك، لأسباب عديدة في ألمانيا.

بل ان هؤلاء كانوا في الأفواج الأولى من أولئك الذين جرى إرسالهم إلى معسكرات الاعتقال وحيث تم جعلهم عقيمين بالقوة، كان ذلك قبل قيام الحرب العالمية الثانية بسنوات عدة، بل يؤكد المؤلف في هذا السياق بأن «معسكرات الاعتقال» ليست من «اختراع» النازية.

وإنما كان قد تم بناء المعسكرات الأولى ليس في ألمانيا وإنما منذ عام 1904 في ناميبيا بأفريقيا وهي ما كانت ترمي آنذاك إلى إبادة شعب «هيريرو» المعارض للاستعمار والجيوش.. أي لجيوش المستشار الألماني آنذاك «بسمارك» الذي كان قد سعى إلى توحيد أوروبا تحت رايته ولو كان ذلك بالقوة.

وإذا كان معروفاً بأن التصنيف الهتلري لتراتبية الشعوب قد وضع «العرق الآري» على قمة هرم ذلك التصنيف ليكون جميع الآخرين دونه كتأكيد لنزعة الدارونية الاجتماعية.

وبأن النازية قد استهدفت بعض الفئات المعينة على أساس الدين أو الانتماء الاثني أو الفئة الاجتماعية لينال اضطهادها اليهود والغجر والمرضى العقليين وممارسي الجنس المثلي ـ الشاذين جنسياً ـ، فإن مؤلف هذا الكتاب يقدم البراهين على أن قمعها قد طال أيضاً السود الذين اعتبرتهم بأنهم في مرتبة «ما دون البشر».

وإذا كان اضطهاد السود قد بلغ أوجه وأصبح يمارس بطريقة منهجية مدروسة حيث كان أبناء المستعمرات الألمانية السابقة الذين هاجروا إلى ألمانيا وأقاموا فيها وأصبحوا من عداد مواطنيها هم أول الضحايا.

. وكان الجيش الألماني لفترة ما قبل النازية والمعروف باسم «الرايخ الثاني» قد قام باحتلال بلدان أفريقية عدة في مقدمتها ناميبيا والكاميرون وتوغو وطنجنيقا (تنزانيا حالياً).. وهناك تم «تجريب» معسكرات الاعتقال ضد أولئك الذين حاولوا مقاومة الاستعمار الألماني حيث ظهرت للمرة الأولى كلمة «معسكر اعتقال» بالمعنى السائد اليوم في اللغة الألمانية عام 1905.

ويشير المؤلف هنا بأن الحاكم الألماني في ناميبيا كان يدعى «هنريش جويرنغ»، والد أحد كبار النظام النازي لاحقاً، أي «هيرمان جويرنغ» الذي كان من أكثر المتحمسين لملاحقة السود واضطهادهم حفاظاً على «الإرث العائلي».

وحيث كان والده قد أصدر الأوامر عام 1904، عندما لم تستطع قواته إنهاء حركة التحرر «الوطني» التي قامت بها قبيلة «الهيرورس» بإبادتها ليتم خلال فترة لا تتجاوز أشهر قليلة القضاء على حوالي 80% من السكان، أما الناجون فقد جرى تكديسهم في «معسكرات الاعتقال».

وبالإضافة إلى كل أشكال التعذيب والإذلال التي تعرضوا لها في تلك المعتقلات فإن النظام الاستعماري الألماني استخدمهم كـ «فئران تجارب» للتأكد من فعالية بعض الأدوية أو لأية غايات طبية أخرى.

وكانت تلك العمليات تتم تحت الإشراف المباشر لطبيب ألماني اسمه «أوجين فيشر»، وكان هذا الطبيب نفسه قد أصبح بعد وصول هتلر إلى السلطة مدير «معهد تطوير الحياة الإنسانية، الانثروبولوجيا» والبحوث الطبية في مدينة برلين، أما مساعده فلم يكن سوى «جوزيف مينجل» الذي اشتهر فيما بعد بأنه أحد أكبر الجلادين في معسكرات الاعتقال النازية.

ويحاول المؤلف في تحليلاته دراسة تاريخية مشاعر ازدراء السود في ألمانيا حيث يعود إلى الحرب العالمية الأولى التي منيت فيها ألمانيا بهزيمة كبيرة واضطرت للتوقيع على معاهدة فرساي في نهايتها.

وقد كانت هذه المعاهدة مهينة لألمانيا إلى درجة أن الكثير من المحللين والمؤرخين رأوا أن بذور الحرب العالمية الثانية موجودة فيها إذ ان الألمان رضخوا للذل «المفروض» عليهم لكنهم بدأوا بالوقت نفسه يتأهبون لخوض معركة استرداد الكرامة الوطنية.

وكان الجيش الفرنسي المنتصر في الحرب العالمية الأولى مؤلفاً، بنسبة مهمة من عناصره، من جنود كان قد جرى جلبهم من المستعمرات الفرنسية الافريقية التي يعود تاريخ استعمارها إلى القرن التاسع عشر.. وكان أولئك الجنود الفرنسيون «الأفارقة» يشكّلون ما عُرف باسم «الوحدات الاستعمارية». هكذا تواجد العديد من هؤلاء الجنود في منطقة «رينانيا» الألمانية تنفيذاً لبنود معاهدة فرساي.

في مواجهة مثل هذا الوضع، لم يتردد بعض النواب الألمان في البرلمان «الرايخستاغ» في الحديث عن «العار» الذي يمثله وجود هؤلاء «العبيد» فوق الأرض الألمانية. هكذا إذن جرى اعتبار مجرد خدمة «قوات سوداء في بلد من بلدان الحضارة الجرمانية» بمثابة مصدر «للعار »، حسب تعبير النائب الألماني الذي أضاف:

«إن هؤلاء المتوحشين يمثلون خطراً مخيفاً بالنسبة لرجال ونساء هذه البلاد. فشرفهم ونقاؤهم قد أصابهما التلف». وقد ذهب «أدولف هتلر» أكثر في اتجاه إظهار المشاعر العنصرية، حيث ينقل عنه المؤلف قوله: «إن اليهود جلبوا العبيد إلى رينانيا بهدف تدنيس وتهجين العرق الآري». هكذا إذن «ضرب عصفورين بحجر واحد».

ويصف المؤلف، بالاعتماد على العديد من الوثائق والشهادات، الاضطهاد النازي للسود، حيث يتم التأكيد على أن أدولف هتلر ومنذ وصوله إلى السلطة، لم يتردد في حرمان جميع المواطنين الألمان ذوي الأصول الافريقية، من حقهم في المواطنة كما أصدر قرارات بطرد جميع الأطفال السود من مدارس البلاد.

ومنع بشكل حاسم ونهائي الزواج المختلط بين مواطنين ومواطنات ألمان «آريون» وذوي الأصول الافريقية. وفي عام 1936 عندما استعادت ألمانيا منطقة «رينانيا» أمرت السلطات النازية بإرسال نصف الأطفال المولودين من أمهات ألمانيات ومن جنود أفارقة إلى معسكرات الاعتقال. أما النصف الآخر فقد تم اللجوء إلى جعلهم «عقيمين» عنوة بإشراف الدكتور «ارجين فيشر». بدأت مثل تلك الممارسات في رينانيا حيث جرى تعميمها فيما بعد كي تشمل ألمانيا كلها.

ويشرح المؤلف في أحد فصول الكتاب كيف أن الجنود الألمان «أخذوا ثأرهم» من الجنود السود بعد أن احتلت ألمانيا فرنسا في مطلع الحرب العالمية الثانية. وينقل في هذا السياق العديد من الشهادات المكتوبة .

وغير المكتوبة التي تؤكد أن العنف الهتلري كان مضاعفاً حيال الجنود والمقاومين الفرنسيين ذوي الأصول السوداء. هكذا اضطر العديد من الشباب في جزر الانتيل الفرنسية إلى الهرب خارجها للالتجاء في الجزء البريطانية المجاورة، ومن بين هؤلاء «فرانز فانون» صاحب العمل الكبير «المعذبون في الأرض».

وفي المحصلة يؤكد المؤلف أن السود، ومهما تنوعت أسباب وجودهم في ألمانيا أو في مستعمراتها أو في البلدان التي احتلتها قد عرفوا جميعهم «مصيراً مشتركاً» وجرى إذلالهم باعتبارهم سود البشرة.

وأنه كان يتم إرغامهم، كمثال، على الرقص عندما يعودون من «عملهم» أو عندما يتم «تبييضهم» أي تعذيبهم بتوجيه دفقات ماء قوية إليهم من أجل «نزع اللون الأسود» عنهم. كم عددهم؟ ليست هناك أية إجابة دقيقة.. لكن قصتهم خرجت من الظل إلى النور..

والذين رفعوا قضيتهم وقضية السود بعدهم رجال كبار من أمثال نلسون مانديلا أو ليوبولد سيدار سنغور أو مارتن لوثر كنغ أو ايمي سيزير أو فرانز فانون أو غيرهم، الكتاب يؤكد مؤلفه أن اليهود كانوا من ضحايا النازية.. ولكنهم لم يكونوا وحدهم ضحاياها.

الكتاب: سود في معتقلات النازية

تأليف: سيرج بيلي

الناشر: سيربان أ. بلوم ـ باريس 2005

الصفحات: 160 صفحة من القطع

المتوسط

NOIRS DANS LES CAMPS NAZIS

SERGE BilE'

LE SERPENT A' PLUMES

PARIS 2005

P. 160

Email